على الرغم من مقولة الشاعر والأديب البلجيكي هنري ميشونيك: "إن الذات في القصيدة ليست هي الذات في الفلسفة، أو في علم التحليل النفسي"، إلا أن كاميل ديموليي يرى صعوبة في ذلك الفصل، بسبب أن تسمية "الذات"موروثة عن الفلسفة، وأيضا لأن لاكان جعل هذا المفهوم في مركز نظريته في التحليل النفسي، وأن رجوع فرويد تم لصالح مداورة عن طريق الفلسفة. فالذات في علم النفس التحليلي مبنية ضد كوجيتو ديكارت، ولكن كان ذلك بعد النقد ومبدأ التعالي عند كانط، ثم أثر جدلية هيغل للوعي المتعدد بالذات، وهذا الوعي عنده ضروب متضادة. من جهة أخرى، وباعتبار العلاقة التي توحّد جوهريا بين الأدب والفلسفة، وباعتبار أن كلا منهما تتصور مواصلة للأخرى، فإنه لا يمكن الفصل بين تاريخ الذات في الفلسفة وفي علم النفس التحليلي وتاريخ الذات في الأدب بصفته ملاذا للذات ومصدرا جديدا لقوّتها.
قطع مزدوج
عند محاولته تحديد ماهية الذات في الأدب بصفتها تتقاطع مع الذات في الفلسفة وفي نظرية لاكان، يتصور ديموليي وجودا للذات الأدبية نتيجة الانقطاع الإيقاعي: إنه قطع حيوي مزدوج، قطع يفصل ويربط في آن واحد، قطع يحرر الروابط المتخيلة لحياة الذات ويعيد ربطها أيضا. لهذا يميز ديموليي بين ثلاثة أزمنة لهذا الإيقاع العام للذات في الأدب، ويسميها "الهيئات الثلاث" التي تكونه، وهي: ذات الكتابة، وذات القراءة، وذات القصيدة.
في الهيئة الأولى التي عنونها بـ"ذات الكتابة"، يقتبس من بلانشو مقولته عن مفهومه لها: "الكتابة لا تتمثل أبدا في تجويد الكلام الجاري، ولا في جعله أكثر صفاء. الكتابة لا تبدأ إلا حيث يكون فعل الكتابة مقاربة تلك النقطة التي لا ينكشف فيها شيء، الإخفاء، يكون الكلام ما زال لا يمثل سوى ظل الكلمة، يكون ما زال لغة المتخيل، لغة لا يتكلمها أحد، هي همهمة المتواصل وغير المنقطع الذي يجب أن يفرّض عليه الصمت، إن شئنا أن نسمع صوتنا". فالنشاط الأول للأدب هو الكتابة بوصفها مشروع شطب، والشطب أو المحو هو ذات الكتابة نفسها، وهو "ما لا نستطيع تسميته"، حسب عبارة بيكيت.
وعن "ذات القراءة"، فهي مثل الكتابة تماما، ليست هي أبدا القراءة ببساطة، أو قراءة الاحتراف، وليست مجرد جمع وقطع لفضاء، إذ تلتقي الذات في القراءة بالذات في الكتابة على فراش القصيدة، لإنجاب الجسد الحي للنص، ولإحداث ذبذبة في ذلك الجرس الذي يعطي أجساما. ومن أعمال القراءة هذه، التي هي أعمال وضع وولادة، تولد ذات متخيلة وجسم افتراضي، وهو مستوى بث مشترك لهما، وهو خط فرارهما، إنها الذات التي في الأدب.
والهيئة الثالثة، في تصنيفه، هي "ذات القصيدة"، أو الكتابة الناطقة، التي يرى فيها بعدم وجود أي عمل أدبي لا يندرج فيه حضور الجسد، بصفته دليلا على نشاط ذات حية، ذات تندرج في الكلام، وبهذه الطريقة تجعل الكتابة ناطقة. فهي إبراز للذات التي في الكتابة بصفتها انبثاقا إيقاعيا للانقطاع، حيث الإيقاع في الكلام هو تنظيم لحركة الكلمة، والذات في القصيدة هي إذن وبالفعل كتابة ناطقة، أو صوت شعري.
ذات لا متناهية
يصل كاميل ديموليي في بحثه، إلى أن الذات لا متناهية، تماما مثل الفكرة، ومثل الأدب ذاته. هي تأثير لكل أعمال القراءة والكتابة، وهي تجرّ في حركة لامتناهية عملية جعل كل ذات في القصيدة ذاتية. تفر في اتجاهين في الآن ذاته: تفر نحو الحياة، أو نحو الدفق المتواصل، وكذلك تفر نحو مسرح الأشكال، نحو مسرح عمليات متخيلة لممارسة أمور على نحو فردي، نحو مسرح أبطال وشخصيات تتعرف على نفسها فيها، نحو مسرح الأماكن الروائية، والمشاهد المسرحية تجعل منها أزمنة من أزمنة تاريخها.
المأساة في الأدب تجعل المعرفة وعدم المعرفة المطلق متطابقين
إذن، الذات في الأدب هي نقطة فرار، نقطة تخلص من الشخصية ومن اللامبالاة، وفي هذه المخاطرة تجد الذات دليلا وتجربة لحريتها المطلقة، مقارنة باغترابات العالم، واغتراب الكلام، واغتراب الأنا.
وعن تعدد أوجه الذات الأدبية، يرى ديموليي أن أخلاقية القصيدة وأخلاقية الرواية متضادتان. الأخلاقية الأولى تنحو إلى أن تجعل من الفرد ذاتا، أما الأخلاقية الثانية فتجعل الفرد متعددا.
أخيرا، يقول ديموليي إن الذات الفلسفية تُعرف أساسا في صلتها بالحقيقة، بالإله، بالخير، أو بالكائن البشري، حسب أفلاطون. أما الذات الأدبية، كما تظهر من خلاله، من عهد هوميروس، وكتاب المآسي اليونانية، ذات علاقة جوهرية بالخطأ وبالشر. إذ أن طريق عملية الذاتية الفلسفية هي طريق المعرفة (اعرف نفسك بنفسك)، في حين أن المأساة (في الأدب) تجعل المعرفة وعدم المعرفة المطلق متطابقين.