2024/08/01 | 0 | 1164
عمق معرفي ورؤية شمولية للنص.
البمامة- محمد الحرز
يحتل الصديق والناقد الكبير محمد العباس موقعا مؤثرا في مشهدنا الثقافي، موقعا احتله عن جدارة وتميز، لا يمكن إغفاله، أو حتى تجاهله. فمنذ التسعينات الميلادية وهو يقرأ الأعمال الإبداعية ويجادل القضايا الأدبية التي تمس ثقافتنا وأدبنا من العمق، يقرأ ويكتب ويساجل الآخرين وكأنه يرفع قنديلا للمعرفة، ويقول لنا: هناك في البعيد ثمة نور لم يغش أبصاركم، فما عليكم سوى أن ترفعوا قناديلكم أيضا. هو واحد من العلامات البارزة في جيل التسعينات، ثقافته المعرفية العميقة لفت بها أنظار المثقفين والأدباء، وجعلت من قلمه وفكره ومقارباته النقدية تتسابق عليها أغلب الصحف والمنصات المنبرية.
اختلفت أو اتفقت معه يبقى اسم محمد العباس نقطة مضيئة على خارطة الوطن الثقافية.
أتذكر تماما في اليوم الذي التقينا فيه، وذلك في مطالع عقد التسعينات، كان لقاء حميما، سرعان ما تحول اللقاء إلى لقاءات متعددة كانت تضم مجموعة مثقفة من القطيف وسيهات والأحساء. وكانت هموم الثقافة والأدب هي محور اللقاءات، كنا نقرأ الكتب التي تصدرها الساحة آنذاك، ونتحاور حولها. ناهيك عما يجري في الساحة العربية والعالمية في مجال الأدب والنقد والفكر. لم نوفّر الجهد والوقت في سبيل خوض مغامرة القراءة والكتابة، في وقت كانت مصادر الكتب والمعلومات شحيحة، وبالكاد يتوفر لنا هذا الكتاب أو ذاك.
لكنها كانت تجربة أسست إلى ذاكرة ثقافية، ستظل عالقة في الذهن، لا يمكن نسيانها، لأنها فجًرت في دواخلنا طاقة وشغفا لا يهدأ، لكل ما يمت للإبداع والفكر والنقد بصلة. وكما أعرفه عن قرب، كان العباس طاقة في المجادلة والحوار والكتابة، كان أينما جلس يثري الجلسة بحديثه وعمق معرفته. لقد ظل هاجس الحداثة ملازما له، وكأن معيار قيمها وجمالياتها هي في عمق كتابته وتحليلاته وأيضا رهاناته على النصوص الأدبية شعريا وسرديا.
لذلك رأيناه كيف راهن على قصيدة النثر مثلما كنا نراهن عليها أيضا، وكان سباقا في نشر كتاب (قصيدتنا النثرية) سنة ٩٧م تناول فيه شعراء قصيدة النثر من جيل التسعينات. ومن الصعوبة في تلك الفترة أن تراهن على قصيدة النثر، رغم أن التجارب نفسها لم تكن مهمومة بمسائل النقد وليست منخرطة فيه، كانت تكتب القصيدة بإيمان عميق، دون تذبذب أو حتى تراجع وكانت أسماء كتّاب هذه القصيدة معروفين على مستوى الوطن العربي ويدعون في أغلب مهرجاناتها. لكن من الوجهة النقدية كان العباس ينزع في محاولته وأسبقيته للتأصيل النظري، وترسيخ القصيدة في تربة ذائقة المتلقي. المهمة كانت صعبة بالتأكيد، وما زادها صعوبة كان أسلوب العباس الكتابي يميل إلى نحت الجمل والصيغ التركيبية الفريدة، رغم عمق الفكرة وجدية الطرح.
بيد أن صاحب (حداثة مؤجلة) ما يميزه عن الكثير من النقاد في مشهدنا الثقافي أنه يملك نظرة شمولية للنص، إذا ما أراد مقاربته من أي جهة كانت، سواء من جهة الشعر أو الرواية أو الدراما أو حتى الظواهر الثقافية، وكأن ما يشدّ هذه النظرة في غالبية أعماله ضرورة الوعي باكتمال جماليات الحداثة، والذي يفضي في نهاية مقارباته لتلك النصوص والظواهر بعدم اكتمالها وكان ما بين حدّي الاكتمال وعدم الاكتمال تكمن نظرة العباس باعتبارها نظرة دائمة الحركة ولا تركن للتساكن، لأن ثمة شيئا ناقصا في الإبداع وينبغي إكماله.
وهنا تتجلى عند العباس السمة الأكثر التصاقا بكتابته والأكثر ثراء وغنى، وهي وضع المتلقي أمام النصوص موضع التساؤل والاستفزاز والمقترحات غير المفكر فيها. قد يختلف المتلقي لكتاباته واجتهاداته النقدية لما يصل إليه من أحكام نقدية. لكن تظل طريقة تعاطيه وتناوله لأي موضوع دائما ما نراه محكوما بعمقه المعرفي، ووعيه باللحظة الراهنة التي يعيشها.
من المفارقات التي ربما يلحظها القارئ على أسلوب محمد العباس الكتابية الجدية والصرامة والشدّة، لذلك قد تُنبئ هذه الملاحظة عن شخصية العباس نفسها، ألم يقل بارت أن شخصية الكاتب هو أسلوبه؟. لكن العباس كان عكس ذلك تماما، فحالما تجلس معه تشعر وكأن شخصا آخر أمامك بهدوئه وألفته وتودده، وليس العباس الكاتب.
إن صاحب كتاب (صُنع في السعودية) ٢٠١٣م مكسب حقيقي للثقافة في المملكة، ومكسب للأجيال اللاحقة على عقد التسعينات. لكن للأسف مثل تجربته وغيره أيضا من تجارب التسعينات مقطوعة الصلة مع الأجيال اللاحقة، فلا حوار وموضع تساؤل ولا استكمال ما بدأه العباس ورفاقه من حفر في الثقافة والأدب والإبداع انطلاقا مما كتبوه أو تناولوه. على الأقل حتى يقال ثمة تواصل بين الأجيال في مشهدنا الثقافي.
جديد الموقع
- 2024-12-19 (قصة عجائبية من المخيال الاجتماعي الشعبي) (حلال المشاكل...القصة التي حفظتها أمهاتنا عن ظهر قلب)
- 2024-12-19 جمعية ابن المقرب تحتفي باللغة العربية في يومها
- 2024-12-19 سلطة النوع الأدبي وقراءة النص
- 2024-12-18 لماذا يتفوق الطلاب على الطالبات في مادة الرياضيات؟: وكيف يمكن تضييق الفجوة بينهم في هذه المادة
- 2024-12-18 الغذاء السيء لكل من الأم والأب قد يؤثّر سلبًا ويسبب ارتفاع الضغط وأمراض الكلى المزمنة في نسلهما إلى الجيل الرابع
- 2024-12-18 ورشة المرأة في اللوجستيات _ بمؤمر سلاسل الإمداد و الخدمات اللوجستية بالرياض
- 2024-12-18 جامعة الملك فيصل بالاحساء تحقق المركز الثالث في قياس التحول الرقمي لعام 2024 على مستوى قطاع التعليم والتدريب
- 2024-12-18 سمو محافظ الأحساء يدشن "برامج أكاديمية ريف السعودية"
- 2024-12-18 الأحساء.. وجهة سياحية تنبض بالتاريخ والطبيعة الخلّابة
- 2024-12-18 اللغة العربية في التعريب