2023/11/12 | 0 | 2708
بـعـضٌ مِــن أدبِ غـــــــزة
السَّيْـفُ أَصْـدَقُ إِنْــبَاءً مِنَ الكُـتُبِ ... في حــدهِ الـحدُّ بينَ الجـدِّ واللَّــعـــبِ
بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ ... في مُتُــونِهنَّ جــلاءُ الشَّــك والريَـبِ
والعِلْـمُ في شُـهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَة ً ... بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لا في السَّبْعَة ِ الشُّهُبِ
لا رَيبَ أنَّ الكلمة لها صداها في الإعلام، ولها الأثر البالغ في توجيه الرأي العام من الناسِ والشعوبِ والأممِ بما يُرِيده المخططون لها. فالكلمات إما غيث أو رماح، يجب أن تنتقيها قبل أن تـَنطقَ بها وتـتساقط على المسامع، أنتَ لا تدري إن كانتْ سَتمطرُ على قلبِ أحدهم أم ستـُدمي، فالكلمة تحيي القلبَ وأخرى تميتها. نعم بالتأكيد فحينما تكونُ الكلمة حادة تصبح كالسكين لديها القدرة على أن تصلَ إلى الأعماقِ وتجرح بقوة وتتسبب في نزيفٍ مستمرٍ من المعاناةِ، لكن الكلمة الطيبة مثل الشجرة الطيبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماءِ تؤتي ثمارها ولو بعد حين.. ضربَ اللهُ مثلاً «الكلمة» بالشجرة ِقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ).
ويَدخلُ في هذا المضمار الشعر والرجز والذي كان يُستخْدَم في تـِبـيانِ وقائع الحرب، ورسم الصور الخيالية الجميلة والمبدعة عن المعاركِ وما الأبيات التي سقناها أعلاه لأبي تمام إلا مثالاً لما ضَربناهُ من القول. انظر إلى هذه الصورة الجمالية التي تـَجْعلكَ كأنكَ في وسط المعركة:
كَأَنَّ مُـثَارُ النَّـقْعِ فَـوْقَ رُؤُسِـنَا ... وَأَسْـيَافُـنَا لَـيْلٌ تَهَـاوَى كَوَاكِـبُهُ
هذا ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺟﻌﻠﻪ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻨﻘﺎﺩ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺱِ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻓﻲ ﻏﺮﺿﻪ ( ﺍﻟﻮﺻﻒ )، ﻓﻘﺪ ﺟﺎﺀَ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺗﺨﻴﻠﻴﺔ ﺑﺄﻥ ﻟﻤﻌﺎﻥَ ﺍﻟﺴﻴﻮﻑ ﻭﺳﻂ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺍﻟﻤﺜﺎﺭ ﺑﺤﺮﻛﺔ ﺍﻟﺨﻴﻮﻝ ﻓﻲ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﻛﺄﻧﻪ ﻟﻴﻞ ﺗﺘﺴﺎﻗﻂ ﺍﻟﻜﻮﺍﻛﺐ ﺍﻟﻼﻣﻌﺔ ﺗﻈﻬﺮ ﻭﺳﻂ ظﻠﻤﺔ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺍﻟﺤﺎﻟﻚ. ﻻ ﺷﻚَ ﺃﻧﻪ ﺑﻴﺖٌ ﺭﺍﺋﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺻﻒ ﻟﻜﻦ ﺍﻷﺭﻭﻉ ﺑﻼ ﺷﻚ ﺃﻧﻪ ﺑﻴﺖ ﻟﺒﺸﺎﺭ ﺑﻦ ﺑﺮﺩ، ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﺍﻟﻀﺮﻳﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﻳﺮَ ﻟﻤﻌﺎﻥ ﺍﻟﺴﻴﻮﻑ ﻭﻻ ﻣﺜﺎﺭ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﻭﻻ ﻛﻮﺍﻛﺐ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻭﺻﻔﻬﺎ ﻭﺻﻔًﺎ ﻓﺎﻕ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺃﺑﺼﺮ ﻭﺭﺃﻯ.
هذه الصور الشعرية هي من أغراض الحرب وهناك الرجز أيضاً وهو من أغراضِ الحرب وتأثيره المباشر على الأعداء وذب الرعب في قلوبهم، لأنَ المُرتجِزْ يرْتجز شعره مباشرةً أمام الأعداء ليـبينَ أهدافـَه وقـيمَه. ومن أمثلة الرجز الجميلة ارجوزة الحر بن يزيد الرياحي حيث يقول:
إنـي أنا الحرّ ومأوى الضيفِ ... أضـربُ في أعراضكم بالسيفِ
عن خيرِ مَنْ حلَّ بأرضِ الخيفِ
وأبان عن نفسه في هذه الأرجوزة بأنه يقري الضيف ويأويه وكانت العربُ تـَعـدُ اقراء الضيف والقيام بشأنه من صفات النبلاء بل كانوا يفتخرون بذلك وما حاتم الطائي إلا خير دليل على كلامنا هذا. ثم تابع تعريفه بأنه يَجوبُ المعركة َطولاً وعرضاً بسيفهِ ضارباً فيهم من غير خوف " وفي رواية أخرى أضرب في أعناقِكم " وهي كناية عن دقته وسرعته في الضرب فهو لا يُمهـِلُ عدوه بل يعاجله بضربة في عنقه تودي بحياته، مخوفاً بذلك أعدائه و مدافعاً عن خير الناسِ وهو الإمام الحسين الذي حلَّ بأرض الخيف " والخيف: كل هبوط وارتفاع وما انحدر من الجبل وارتفع عن مسيل الماء " واصفاً بذلك أرض المعركة.
ذلك لأن الصورة لم تكن ميسرة لكل الناس في ذلك الزمان، بل رُبما تكون محصورة على المقاتلين وسكان تلك النواحي القريبة من ساحات الحرب، لكن الوضع تغير اليوم فالصورة ميسرة لكل الناس في العالم ومباشرة وهي ابلغ حجة وأقوى دليل مهما تماهى العدو في الكذب والخداع الإعلامي ومهما سخرَّ من شياطينه وحزبه ورجله وشركه. وبما أن الإنسان يتكامل في مسيرته من بدءِ خلقته في قوسِ الصعودِ في حركته الجوهرية كما، هي ديدن كل المخلوقات، لذلك ما كان ميسرا اليوم لم يكن ميسرا بالأمس. كذلك الشعر يتطور بتطور المكان والزمان، كان بالأمسِ يسمى شعر الحرب واليوم هناك عنوان آخر وهو شعر المقاومة. إلا إن شعر المقاومة له خصائص منبثقة من ذاته ليوائم ويتماشى مع أهداف الحروب والمعارك. فهناك الأناشيد الحماسية التي تبعث الحماس في قلب الأمة وهي كلمات من واقع الحدث والتفاعلات والصور التي تشاهد من أرض المعركة. وشعر المقاومة العربية هو نوع من الشعر الذي كان يستخدم في الفترة الزمنية من العشرينات إلى الستينات من القرن الماضي، وكان يركز على المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الأجنبي والمستعمر والظلم الاجتماعي والاقتصادي.
يتميز شعر المقاومة العربية بعدة خصائص، منها:
1- الثورة: يرمز شعر المقاومة العربية إلى الثورة والنضال من خلال استخدام الكلمات والعبارات الجريئة والقوية.
2- المجتمع: يتناول الشعر المجتمعات المستضعفة والمهمشة ويدعو إلى التضامن والوحدة.
3- التفاؤل: ينبض شعر المقاومة بالتفاؤل والأمل في حقهم وحقوق المجتمعات المستضعفة والطموح بتحقيق الحرية والاستقلال والكرامة.
4- الصراحة: تتسم كلمات ومضامين شعر المقاومة بالصراحة والشفافية في التعبير عن الواقع والأحداث والمشاعر.
5- المثالية: يتعلق شعر المقاومة العربية بمبادئ العدالة والحرية والكرامة الإنسانية والوطنية ويسعى إلى تحقيق هذه المثالية.
إن الصور ومشاهد الدم والدمار التي يراها اليوم كل العالم في غزة هاشم، غزة الإباء أدمت وأقرحت القلوب قبل العيون. هذه المشاهد الحية حركت مشاعر الشعراء في العالم الإسلامي، فجادت قريحتهم بأعذب الشعر والصور والأحاسيس الصادقة مواساةً للغزاويين. فراح كل واحد منهم يخط بأنامله أروع اللوحات الجمالية. فها هو الشاعر سليمان الضيط يصدح قائلا:
إنَّ الشهادةَ مزروعةٌ في الشـوارعِ
في كلِّ شبرٍ من الأكسجينِ المعـتَّـقِ
بالتضحياتِ وبالتجرباتِ وبالموتِ دونَ التشردِ
قبلَ الرحيلِ وبعد المذابحِ
يا أيها الغاصبون
هذه أرضنا
ما أصدق الشعر وما أجمله عندما يأتي معبّراً عن مشاعر صادقة تفيض بأحاسيس جياشة تثري الروح بعطاء.. وما أصدق الشعر وما أجمله وما أعذبه عندما يأتي معبّراً عن قضايا الأمة وآلامها.. وما يحدث اليوم في فلسطين المحتلة وفي «غزة» تحديداً وأمام مرأى العالم بأجمعه هو قمة الألم والانكسار. الشعراء السعوديون تفاعلوا مع هذا الحدث مثل نظرائهم العرب، مسطّرين بحروفهم الشعرية عمق المشاعر تجاه ما يحدث في فلسطين المحتلة الحبيبة من نظام الاحتلال الإسرائيلي الفاشي وهنا بعض ما جادت به القريحة، كالشاعر الدكتور عبدالإله الثقفي فله مقطوعة حلوة
" بغزة " لوكـسـونا العـظـمَ لحْما ... لعـاد - ولو حَرَصْتَ - اللحم عظْما
سألـتُ النـفـس والأشعارُ تــهـْـمي ... ونــثــرٌ عن مُــصــابٍ قـــد ألـــمّا
عن الأقصى وغزة حيث باتـــت ... كـما لــو لـم تـكـن مِـنْ قــبلُ أدمى
أحـقّـاً لم نـزل نــسـعــى حـثـيــثاً ... لـنُـقـنِـع أنَّــهـم سُـــلِـبــوه ظُــلــما؟
نُــشَـكّكُ واقـعاً بـــجـدال جــــهـلٍ ... كـقولك عن بـصــيرٍ لـيس أعـمى
! وليس الجور إنْ طـرحوك أرضاً ... ولكن أنْ تـخِـرَّ وأنــــت تُـــرمى
! وإنْ عــاش اللــئامُ بأكل سُــحــتٍ ... فإنَّ الــموت عــند الـذّوْدِ أسـمى!!.
وللمثلث الجاسمي " جاسم الصحيح وجاسم عساكر وجاسم المشرف سبق المشاركة بدعمهم لغزة بأحاسيسهم ومشاعرهم الجياشة.
وهنا ابن الأحساء الشاعر الأنيق جاسم عساكر يرسم صوراً رائعة لأرض المعركة حتى كأن أبطال غزة يرون الحرب لعبة والألغام أنغاماً:
عادُوا من الرّكضِ الطويلِ ونامُوا ... تشدو لهم أنـغـامَها الألـغـامُ
تـركوا وراءَ ظهــورِهمْ ألــعابَهـم ... من بعـدِ ما أعـيَتْـهمُ الأقـدامُ
يتطلّعــون إلى غــدٍ، في نومــهــمْ ... زاهٍ بـهِ، تـتـراقصُ الأحلامُ
تاقــتْ لهمْ أرضٌ، توثّق سيــرَهـم ... وخُطاهـمُ في خـدِّها أخـتـامُ
وهنا سطروا ببطولاتهم لوحات جميلة رآها جميع العالم فكانت اجمل لوحة من أجمل رسام: رسمُـوا على أرجائها لوحـاتِـهـــم ... حتّى تجلّى الرسـمُ والرسّامُ كانـت تــعـدُّ لـهــمْ لـذيذَ طعامـهـمْ ... أمٌّ تجـوعُ، لـيكثُـرَ الإطـعـامُ
وتـعـــــدّهــم فــتــحاً لــيـومٍ قــادمٍ ... فمـضوا، تـشدّ وثاقَـهمْ أيّامُ
وله قصيدة هائية جميلة أخرى بعنوان " زهور الكرامة ":
أطفــالُها، تركوا الحلـيـبَ فـداءَها ... كبروا سِـراعاً ،يـنشـرونَ لــواءَهـا
سلخوا الجلودَ من العظامِ قـماشـةً ... تــزهو، وخاطـوا بالــجحيمِ رداءَهـا
رفــضتْ حمائمُها ســوى حــريةٍ ... فصحتْ تسلسلُ في الصباحِ غناءَها
لم نكتشفْ في الأمَّهاتِ كـ (غزةٍ) ... أُمّاً، تـــزفّ إلى الـــردى أبــنــاءَها
ما راعَـها بيـنَ الأجــنّةِ صمــتُـها ... إلاَّ الأجــنّةُ، تــستــجــيــبُ نـــداءَها
وقفتْ على البارودِ تجـمعُ كـحلَها ... ومنَ الــرمادِ تــخضّـبــتْ حِـــنّاءها
صور رائعة تجسد لك المشهد كأنه أمامك، وجمل تتمم بعضها " سلخوا الجلود" يقابلها " وخاطوا بالجحيم. " قماشة " ويقابله " رداءها. يا لها من صورة رائعة حينما تزف الأم رضيها كما تزف العروس ولكن بأي زينة " وقفت على البارود تجمع كحلها" نعم وحنائها الرماد.
ليس الأطفال فقط من استجابوا لنداء الكرامة بل حتى الأجنة في بطون الأمهات " إلا الأجنة ، تستجيب نداءَها ".
صبغتْ خدودَ الأفقِ حمرُ ورودها ... مـذ ســلــسلتْ فـوقَ الترابِ دماءَها
ألقــتْ دلاءَ الـــمكرماتِ بـبئــرها ... ومــضتْ تــصفُّ رجالَها ونـساءَها
وتحلّــقَتْ بالبـــئر كلُّ نُـــخيـــلِـةٍ ... في الصــامــدينَ لــكي تـشــدّ دلاءَها
أمَّا الجراحُ ، على جدارِ ظلامها ... سُــرُجّ تــوزّع في المــدى أضواءَها
صورة أخرى رائعة " حيث جعل للأفق خدودٌ وشبهها كفتاة صبغت خدودها بالدماء السائلات على تراب غزة. أما جراح الضحايا فأصبحت أنواراً وسرجا يعم الفضاء.
قرأتْ عناوينَ الخــلودِ و فـصَّلتْ ... تــتــلو على ســمعِ الفــدى أنـــباءَها
واستعذبتْ طــعمَ الجــراحِ كأنَّما ... أَنــِفتْ بأنْ تجــدَ الجـــراحُ شـــفاءَها
وقــفتْ هناكَ على بقـــيّةِ طفـــلةٍ ... قـــد أزهرتْ مــذ حرّكـــتْ أشلاءَها
كانَ الغزاةُ على مشارفِ حلمِـها ... سرقوا الصلاةَ . خشوعها و دعاءَها
لـكــنّها كانــتْ بــرغمِ رمـــادها ... تهـــبُ الــحـــياةَ جــمالها و بــهاءَها
صلى دمٌ في أرضها فاعشوشبتْ ... بيــنَ الصخورِ وأنطــقــتْ صماءَها
ما أعلنتْ رغمَ الأسى استسلامها ... صــمدتْ تـــراهنُ أن تطـيل َبقاءَها
لم تمنــحِ الــتاريخَ غيــرَ جــنائـزٍ ... قـد ســابقتْ نحــو الضُّحى أحياءَها
قد حــلّقتْ ، ما علَّــقَتْ رحـلاتِها ... لمـــطـارِ عـــزّتها تــشقُّ فــضاءَهـا
و لوجـهِ (عيسى) موعدٌ في أُفقها ... يــوماً يــعيــدُ إلى الــمياهِ صــفاءَها
هي ( غزةٌ ) هي عِـزّةٌ هي هزّةٌ ... عــددَ الكـــرامةِ ، عــدّدتْ أسـماءَها
ما أصعب أن ترى أشلاء الموتى والأصعب منه أن تقف على أشلاءها، لكن شاعرنا هنا يقول إن الوقوف على بقية طفلة سيجعلك ترى الزهور حينما تحرك أشلائها...بل حتى تلك الدماء تراها تنبت العشب في الحجارة الصماء، ذلك لأن دماء الشهداء كما يقولون: " دمُ الشهيد إذا سقط فبيد الله يسقط، وإذا سقط بيد الله فإنّه ينمو " ويختم قصيدته ببيت جميل يعدد فيها أسماء غزة: هي عِزّةٌ، هي هزّةٌ... بل هي عدد الكرامة أنا شئت فعدِدْ.
وأما شاعر الوطن الكبير جاسم الصحيح فما ينفك من الإبداع فها هو يضع الدنيا كلها في كفة وفلسطين في كفة أخرى بل فلتذهب الدنيا وتبقى فلسطين. وما الصور الجمالية في شعره والاقتباس من كلمات القرآن ومعانيه " الاصطفاء" و " الوحي" و" النبوة " إلا دليل على سعة اطلاعه ولين الكلمة عنده. وهنا صورة جمالية فربط الفداء بالوحي والآمال بالآلام وسوقهما دليلا على اليقين بالكبرياء والنصر لهو قمة الصمود والبطولة.
على الــدُّنيا الــعَــفاءُ وساكِــنـِيــها ... ولــيسَ على (فلسـطينَ) العـَفاءُ
هِيَ اصْطُفِيَتْ.. وها هِيَ تلكَ تُبلَى ... فـــما يَنـْفَــكُّ يُــبلَى الاصطفاءُ!
بــلادٌ لا يـــزالُ الــوحيُ فــــيــها ... مُــقِــيمًا ما أقــامَ بـــها الــفِـــداءُ
هُـــنا الآلامُ بالآمـــالِ تُـــــــوحي ... وتُــوحي بالــيـقــينِ الكـــبريـــاءُ
ويُوحي - إنْ بـكَى- طــفــلٌ يتيمٌ ... وتُــوحي - إنْ تَــنَهـَّـدَتِ - النساءُ
فإنْ تَكُــنِ الـــنبـوَّةُ محضَ وحيٍ ... هُـــنا ما زالَ يُـــولَــدُ أنـــبــــياءُ!
وللــزيــتونِ (جــبريـلٌ)، وهذي ... (فـــلسطـينٌ) بأَجْـمَـعِـها (حراءُ)
جميل هذا الربط والمقابلة في هذا البيت بين مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة " حراء " إلى فلسطين وجعل فلسطين كلها مكة، ومكة كلها فلسطين وبينهما جبرائيل واسطة المسرى " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ".
وما عــصرُ النــبوَّةِ غيرَ عصرٍ ... يُــجــَــدِّدُهُ التَّــجَلِّــي والــنَّــــقـــاءُ
(فلــسطينٌ)؛ وللــتاريخِ صـوتٌ ... يُــــناديـــها فـــيُــطرِبُــــها الــنداءُ
بـــلادٌ لا تُــعـَـرِّيـــها اللـــيـــالي ... عــــليـــها من أســـامـــيـها رداءُ
هُـنا (حــيفا).. هُنا (يافا) و(عكَّا) ... و(رامُ الله)... والــمُـدُنُ الوِضاءُ
أســامٍ خــاطَها الـــتاريـخُ قِـــدْمًا ... وطَـــرَّزَها، وإِبــــرَتُهُ الــــبــهاءُ
لا أدري ماذا يعني الشاعر هنا " وإبرته البهاء " فالبهاء هو رمز من رموز المقاومة، فهل يقصد شاعرنا هنا هذا المعنى أم لا؟ على كل حال البيت جميل وبه معاني عميقة.
فإنْ جُــرِحَــتْ مدائـــنُها باِسْـــمٍ ... يُخـــاطُ من الجــراحِ لــها كِـساءُ
وثَمـــَّةَ تــــوأمانِ على رُبــــاها ... سَـــمَــاوِيَّــانِ: (غَــزَّةُ) والإبـــاءُ
فـ(ـغَزَّةُ)؛ مثــلما للـــبحــرِ مـاءُ ... لهــا قَــدَرُ الــــبطــولةِ، والقضاءُ
تَـضُــمُّ الـريحَ إنْ عَصَفَتْ عليها ... فـ(ـغَــزَّةُ) والعــواصفُ أصدقاءُ
يـا طـفلَ غـزةَ مـن ذاك الـذي نحر الطفولة التي في مهدها، فمن يصدق أن أكثر من النصف من شهداء غزة هم من الأطفال الذين قطعوا أشلاءً في مهدها أمام مرأى ومسمع من جميع منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية...هذه الصور المؤلمة حركت مشاعر شاعرنا السيد عبدالمجيد الموسوي فرسمَ لنا صور متكلمة تحكي جراح وألام كل حر.
يـا طـفلَ غـزةَ مـن ذاك الـذي بـطـشا ... مــالـي أراك كـمـثلِ الـطــيرِ مُــرتـعِـشا
أخـائـــفٌ أنــت؟ قــل لـي هــذه أُذنـي ... تُصغي الــيك ودع قـلبي الذي انكــمـشا
مـا بـالُ رمـشِك يـكسوهُ الـتـرابُ وما ... هذي الشِّفـاهُ التي قد أُنهـكــت عـــطــشا
تـيـبَّـسـت مــثـلَ أرضٍ خـانـهـا مـطـرٌ ... تشكو الجفافَ عليها الجدبُ قــد نُـقــشا
يـــا طــفـلَ غـــزةَ يــا تـريـاقَ نـكـبتنا ... ويـا مـسيـحًا عـلى مـاءِ الـحــيـاةِ مـشى
صــوِّب سـهامَك فـي أضـلاعِ غـفلـتنا ... قـل مـا تــشاءُ تـكلم وامــسـح الـغَــبــشا
أطـلـق جـيـادَك عـلـمنا الـثباتَ وكــن ... حُـســامَ وعـي عــلى من عُهـرهُ انـتفـشا
لا تـخـبـرِ اللهَ عــنّـا لا تــقـل سـكــتوا ... وأدبــــروا يـلـزمـونَ الـــدورَ والـفُـرُشـا
ختم شاعرنا قصيدته ببيتين رائعين " أطلق جيادك " يا أيها الطفل الذي لم تزل في مهدك وضحيت بعمرك، وتحملت الألم، علمنا البطولة والثبات، نحن الذين لم نحرك ساكنا وقد بلغنا من العمر عتيا. بل بالله عليك لا تكن شاهدا على تخاذلنا وادبارنا مفضلين العيش الهني على الحياة الحقيقية.
نكمل تطبيق المثل الجاسمي بالشاعر الأديب جاسم المشرف، وهذه المقطوعة التي ينادي فيها القدس وما جرى عليها من الإعتداء والبغي.
يا قـدس يا طـفلة عـذراء مـزقـها ... بغي الخـيـانات والإذلال والــخــرق
يا قـدس يا درة الـتاريخ ضـيعـها ... من كان من سكره في البغي لم يفـق
يا قـدس يا صورة الإيمان كدرها ... من للــكــرامة والإيــمان لم يــطــق
فأي عرض لـنا سادت مصـونـته ... وأي جــرح لــنا في الـقدس لم يرق
إن يتـركوك بـلا صون ولا ذمــم ... فالله ناصـرك بالــماجــــد الــحـــذق
وهم سيـبـقـون عارا لا تـطيـقـهـم ... حتى القــذارة من خزي ومن حمـق
" مشرط غزة " عنوان موفق ومؤلم، و يا له من عنوان وضح الصورة وبعث الآمال بالنصر. بعد المطالبة من الأخت الشاعرة القديرة تهاني الصبيح زودتني ببعض أبيات قصيدتها مشرط غزة. فلا فض فوها ولها كل الشكر على ثقتها الغالية:إلى روح الشهيدة الشاعرة هبة أبو ندى
" مشرط غزة "
يا أولَ الغُـرْزاتِ فِي قَـلْبِي
وَيَا جُــرْحاً تمــدَّدَ
عــند آخــرِ غُرزةْ
يَا مِشْــرَطَاً للذّكـرياتِ يغـوصُ في
وَجَــعِي ،،
يـمخّــضني بأعــمق وَخــزةْ
الأرضُ مــريمُ حــين تــنذرُ صومَها
والجــذع كــفٌّ
تــستــغـيثُ .. وهـــزّةْ
اقتباس موفق لهذا البيت فمريم والجذع توئمان فهنا القديسة مريم وهنا الجذع الذي كان منه غذاءها.
وأمـام كل الــنازحــين نـبوءةٌ
بالنــصرِ
تــرفــعها مآذن غــزّة
.. لا تَــرْحَلي فالـفاتحــونَ سيـدخـلـونَ
البــيتَ من كل الـجـهاتِ أَعِــزّة
وتــرينَ ألـف منــاضلٍ ومــجاهــدٍ
في صبــرِ ياســرَ
في بطــولةِ حـــمــزة ..
وضوح الرؤية عند الشاعرة جعلها تنظر إلى مستقبل غزة بالنصر المؤزر والفتح المبين...فمن يكون في صبر ياسر وشجاعة حمزة فحريا أن تكون نتيجته النصر ". وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ".
ولمن لا يعرف الشاعرة هبة كمال صالح أبو ندى: كاتبة وشاعرة وقاصَّة فلسطينية من قرية بيت جرجا المُهجَّرة، عاشت في قطاع غزة. أخلصَتْ كتابتَها لتكون ناطقة باسم القضية الفلسطينية وآلامها. أبدعت في كتابة القصة والشعر، وحصلت على المركز الثاني في فئة الرواية في الدورة العشرين لمسابقة الشارقة للإبداع العربي، التي تنظمها دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة سنويا عن روايتها " الأكسجين ليس للموتى " التي عبرت فيها عن صورة الإنسان العربي في زمن الثورات العربية. استشهدت في أحداث عملية طوفان الأقصى.
وللشاعر الدكتور عادل الحسين هذه المشاعر الفياضة حيث اعتبر فلسطين داره فمن منا لا يريد أن يتخذ بلاد العزة والمجد داراَ له، فهنيئا لشاعرنا هذا الاختيار.
فلسطين داري
صَارَتِ الْأَفْرَاحُ أَحْزَانًا بِـدَارِي ... وَنَعَيْتُ الْأَهْلَ وَالصَّحْبَ جِـوَارِي
كَمْ شَـهِيـدٍ زُفَّ فِي أَثْوَابِهِ عِـنْدَ ... الــصَّبَـاحِ الْأَبْـلَـجِ الــنــور بِــنَــارِ
شَيَّعـُوا مَــنْ رَحَـلُــوا فِي زَفَّـةٍ ... أَنْغامُهَا صَلُّــوا عَلَى بَـدْرِ الْخِــيَارِ
ضَجَّتِ الْأَمْلَاكُ حُزْنًا فِي ذُهُولٍ ... حِـينَمَا دُكَّـتْ فِــلـِسْطِــينُ دِيَــارِي
وَأَتَى الْــجَمْـعُ مُـقِـيــمًا مَـأْتَـــمًا ... لِلنـَّوْحِ وَالــثَّــأْرِ لِعَــدْلٍ وَمَــــسَارِ
قَــدْ أَقَـامُوا مَأْتَــمًا حُـرًّا مُعِــزًّ ... لِــرِجَالٍ وَنِـــسَـاءٍ وَصــِــغَــــارِ
ويلُ صَهيــونَ من رَبِّ عَــزيزِ ... ذِي انْـتِــقَامٍ وَعْـــدُهُ يَــوْمَ الْبِـــدَارِ
هَــرَعَ الْقَــوْمُ بِــدَعْـمٍ نَــاصـــِرٍ .. لِلــرُّوحِ وَالْأَبْـدَانِ طُـرًّا بِاقْــتِـدَارِ
وتـَـرَى جـَـيشاً شـُـجاعاً سَاهراً ... حَوْلَ الْحِمَى مُنْتَظِرًا رَفْعَ الشِّعَارِ
وَمُـحِــبُّـونَ عَلَى وَعْـدٍ بِـنَصْــر ... كُلُّــهُــمْ فِي أُهْــبَـةٍ فِي الِانْــتِـظَارِ
سَيِّـدِي يَا قَــائِمَ الْأَطْهَارِ عَـجِّـلْ ... كُلُّنَا جُـــنْدٌ بِــرَهْنِ الْأَمْرِ سَــارِي
نَمْتَـطِى صَهْـوَةَ أَمْــرٍ بِـجـِـهَـادٍ ... نَحْوَ أَرْضِ الْقُدْسِ شُعْثًا بِافْـتِـخَارِ
ولقد اقـْـتـَصرَ بـنا المـقام على الشعراءِ المحليين فقط تماشياً مع عنوان مقالنا، وإلا فالحديث ذو شجون. وكم سطر شعراؤنا صوراً جميلة جياشة بالعواطفِ التي تنم عن صدقِ الموقفِ والدعم المعنوي لأبطال فلسطين وشهدائها من الأطفال والنساء والرجال، الذين نرفع لهم أكفـنا بالدعاء بأن يثبت اللهُ أقدامهم وينصرهم لينالوا الحرية، والفتح على أيديهم...." وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ".
جديد الموقع
- 2025-01-11 الشاعر والناقد الدكتور عبدالله الخضير يمثّل المملكة في مجال النقد في مهرجان الشارقة للشعر العربي.
- 2025-01-09 قد لا يكون نمو دماغ الرضيع بنحو أسرع مما ينبغي دائمًا حالة صحية
- 2025-01-09 العوامل التي أدت إلى سقوط الإمبراطورية البيزنطية - وماذا بإمكاننا أن نتعلم منها
- 2025-01-09 هل «القرية - المدينة» نموذج معياري لقراءة النصوص ؟
- 2025-01-09 سمو محافظ الأحساء يؤدي صلاة الميت على إبراهيم آل هاشم
- 2025-01-09 فريق طبي في مدينة الصدر الطبية ينجح بإنهاء معاناة مريضة استمرت 3 سنوات
- 2025-01-09 المركز الوطني لعلوم وتكنولوجيا الفضاء في جامعة الإمارات العربية المتحدة يُعلن عن موعد إطلاق القمر الاصطناعي الأول " العين سات -1" لتعزيز البحث في مجالات الاستشعار عن بُعد
- 2025-01-09 الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة حتى الأحد المقبل
- 2025-01-09 إي تخصص أختار؟
- 2025-01-08 طلب النجاح أم الخوف من الفشل