2023/06/15 | 0 | 2064
نصوص الشاعرة مستورة العرابي نموذجاً.. الجانب الميتافيزيقي للشعر السعودي المعاصر.
اليمامة
تنفتح القصيدة السعودية المعاصرة على الذات في سعيها لاستبطان المعنى الوجودي والتعالق مع الروح الكونية من خلال مفهوم “الحقيقة الشعرية”. فالحقيقة متشظية، وطرق الوصول إليها «بعدد أنفاس الخلائق» كما يقر ابن عربي، والشعر باعتباره نوع من الإدراك العميق ونتيجة للتأمل الذاتي الباطني، يصبح واحداً ضمن متنافسين مؤهلين للاقتراب من الحقيقة؛ بجانب الفلسفة والتصوف كما يقول عالم الأديان المقارنة والتر ستيس.
وبالتركيز على منهجي التصوف والحقيقة الشعرية، تبرز لنا مجموعة من المشتركات الدقيقة، حيث تتقاطع الحقيقة الشعرية مع التصوف في لحظة الإشراق الروحي، وتفترق عنه في مقدمات الممارسة وطرق الوصول؛ وأيضاً موقع اللغة في كليهما؛ حيث الحقيقة الشعرية تنطلق من اللغة إلى استكشاف المعنى، والتصوف معاكس لاتجاهها بنزوعه نحو المعنى أولاً، ثم يتم استظهاره عن طريق اللغة. أو بتعبير إدوار الخراط عن الصوفية المستحدثة، والتي يلتقي فيها مع والتر ستيس في حقيقته الشعرية كونها «بحث وليس قرار، ونزوع قلق في صميمه وليس مثولاً راسخاً على قاعدة عقيدية، سؤال وليست إجابة».
وبالنظر إلى مخرجات الشعرية السعودية المعاصرة في جانبها الميتافيزيقي أو الماورائي، يمكننا ملاحظة أن الفاصل بينهما – أي الشعرية الصوفية - أضحى دقيقاً إلى اقترابه من الامتزاج للوهلة الأولى، وعند بذل المزيد من الجهد، وأيضاً بنفي المقدمات السلوكية للمريد الصوفي، يبرز لنا جلياً أن نزعة التصوف في نصوص شعرائنا مغايرة عن الصوفية الطرائقية، وأكثر التصاقاً بالحقيقة الشعرية كما تم وصفها.
وكأحد النماذج الممكن الاستشهاد بها وقراءتها، هي مجموعة نصوص الشاعرة مستورة العرابي الأخيرة “ما التبس بي.. ما غبتُ عنه” الذي تكتسي فيه القصيدة معان روحية كنتاج لتجربة دينية عميقة من دون لبس. والشاعرة في افتتاحيتها لنصوصها الروحية – نص “لا تنتظر شيئاً - تمنحنا الحق في ممارسة التأويل على نصوصها من دون الشعور برهاب “تقويل النصوص” بغير ما تشير إليه، أو الخشية من الوقوع في منزلق الإفراط في التأويل كتهمة حاضرة عند مقاربة مثل هذه النصوص بالمنهج الانطباعي التفسيري.
مستورة تدعونا إلى الاشتباك الحقيقي مع نصوصها من دون تردد، وأن التأويل في أحد معانيه هو الذهاب بالمفردة إلى أقصى مدى يحتمله المعنى: «لا تنتظر شيئاً / تعلم أن توفر كل تأويلٍ / لآخر خطوة / وأذهب بعيداً / حيث لا ظلٌ ولا قدمٌ ولا معنى طريق». وفق هذه الإجازة الممنوحة لنا لممارسة التأويل، وبهذه القراءة الموجزة سنقارب نصين للشاعرة لاستطلاع الشاعرية الروحانية بمفهوم الحقيقة الشعرية.
ففي نص “العرّابة”، تُصعِد فيه الشاعرة من لغة الخطاب ويأتي التأزيم نتيجة لانصهار الروح في أتون تجربة روحية محرقة تكشفها. فبيدٍ عزلاء إلا بما هيئتها لها لهفة الروح المتشوقة للسمو والاقتراب من الحقيقة النورانية ترحل. تَجِدُ في مسيرها علها تقتبس من النار المقدسة ضوء ينير عتمة الوجدان: «ما لذّ لي / إلا اقترابي من سلام النار / من نار السلام».
بهذه المقدمة تقتحم الشاعرة قلعة المعنى الصوفي في نصها من دون المرور بالمسالك التقليدية المعروفة في هذا النهج، وفي مسيرها نحو “الحقيقة”، تتجاوز مرحلتين للسالك الصوفي وهما: “الشريعة” “والطريقة”. وتذهب مباشرة إلى “التجلي” طاوية في مسيرها محطتي “التخلي” “والتحلي”، وذلك خلاف التقليد الطرائقي الصوفي: «وأنا الطريقة / والتصوف / والتجلي والختام».
تمضي في طريقها من دون ما خرائط معدة إلا بما يوحيه لها قلبها ساعة انجذابه؛ ميممه اتجاه المطلق. هي ابنة “اللحظة” كما يصفها المتصوفة في أدبياتهم، وهي بدورها لا تحذو طرائقهم، لكن تبادلهم الود وتمضي عنهم في سلام: «وأنا وحيدة مذهبي / حيث المذاهب جمرةٌ أولى / وظنٌ لا يُلام».
بعدها، تشير الشاعرة إلى أن تجربتها الروحية متفردة، ليس لها حدود أو مداخل، ولا يمكن أيضاً أن تُحاكى. أو كما يرى بينيدتو كروتشه في فلسفته الجمالية: «إن التجربة أمر شهودي يتأبى على النقل ويستعصي على التكرار»، وكذلك المقولة الصوفية الشهيرة: «لا تكرار في التجلي»، فالشاعرة تقرهم على ذلك: «لا تأخذوا مني / خرائط للحقيقة / فالحقيقة محض كبريت / وينذر بالضرام».
أما نصها الشعري الآخر “مدد”، فباختطاطها لعتبته؛ وهي من المرموزات الصوفية الشهيرة؛ فهي في وارد الاحتفاء بمشاعر رققها الوجد، وأمرع القلب اخضرار بعد جدبه، كنسائم لطيفة تجرف كل ما تكلس في الروح من وحشة الاغتراب الوجودي، لذا تهزج الشاعرة في جذل: «هل تعشب الكلمات حين / تمسّها روحي / وهل يطغى الجسد / أنا رقصةٌ غيبيةٌ / أهذي / وأهذي / ثم أدخل سدرةَ المعنى /وأخرج لا أحد». وهكذا، يأتي الخروج محمولاً بالمعنى الصوفي كولادة ثانية؛ روحية، بعد الولادة الأولى الطبيعية.
وحده العارف الذي خاض غمار التجربة يختص بها بعد إيابه من رحلته الروحية المشوقة فينشد استدامتها كلون من تطلعات الروح وانشدادها إلى موطنها الأول قبل التخلق: «من في انحناءاتي / يقص لها الحكايا كلما غادرتُ / عن بلد. / أنا رعشة ليليةٌ / أخلو / بها وحدي / وأسألها المدد».
أخيراً، وما يمكن قوله في استعراضنا لبعض نصوص الشاعرة مستورة العرابي، أن الشعرية الروحانية “الميتافيزيقية” في المشهد السعودي المعاصر مغايرة للخطاب الصوفي. تبتعد عنه في تقليدية السلوك وطرائق الترقي الروحية، وتقترب منه بالجامع الموحد بينهما؛ أي نزعة القلق الوجودي وأسئلة الكينونة، وكذلك استخدامها لبعض مفرداته؛ إلى حين أن تبتكر لها لغتها الخاصة.
جديد الموقع
- 2024-11-14 البلدية والإسكان والبريد السعودي سبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية
- 2024-11-14 السير الذاتية وتابوهات المجتمع
- 2024-11-14 في ديوان «هاجسُ الريح»لهاني الملحم.. ما نتوقعه من الشعر، وما تعد به القصيدة.
- 2024-11-14 يمثل الأحساء والمنطقة الشرقية في البطولة نادي وأكاديمية بادل بول إلى نهائيات دوري بارنز السعودي للبادل
- 2024-11-14 افراح الأجود و البجحان تهانينا
- 2024-11-13 هل يُطاع الله من حيث يُعصى؟
- 2024-11-13 سمو محافظ الأحساء يستقبل رئيس وأعضاء اللجنة الوطنية للنقل باتحاد الغرف السعودية
- 2024-11-13 تحالف الأسودان ، خلاص الحسا وسكري القصيم
- 2024-11-13 زواج ثنائي "المجحد والعوض تهانبنا
- 2024-11-13 مركز الملك سلمان للإغاثة يشارك في معرض "واحة الإعلام" بالتزامن مع استضافة المملكة للقمة العربية والإسلامية غير العادية في الرياض