2023/02/13 | 0 | 2351
الكتابة للحياة قراءة في ديوان ( على وتر الغمام ) للشاعر / حسين البطاط
ِبين يدي ديوان ( على وتر الغمام ) للشاعر حسين البطاط الصديق الذي يقاسمني خبز الحروف وحلوى المعرفة وربما أقلام الرصاص منذ الطفولة على مقاعد الدرس ، هذه المعاني تجعلني متردداً في الكتابة عن ( وتر الغمام ) خشية أن أميل إلى البِرِّ به كصديق على حساب البِرِّ بالنص كصديق آخر أحب أن أكون ناصحًا له أيضًا ، لكني على أية حال أجد أن بياض النص وصفاء اللغة تأخذني نحوهما بمسافة واحدة .
وأول ما يمكن الجزم به أنِّ هذا الشاعر قد أمعن في ارتياد أنماط التجريب وارتياض سبل الأغراض في ديوان صغير ، غير أن ذلك لم يأتِ على حساب اللغة ، فقد ظلّت محافظة على تماسكها وصفائها ، وجاء النسيج الشعري عاكساً لشخصية الشاعر وصفائه وسهولة طبعه ومخلصاً للغته وفيًّا لحروفها كوفائه لحبيبته في هذه الأبيات :
غَنِّي كما شاء المغنِّيِ أنتِ التي سَلَّيتني فلطالما عاودتُ عينك وإلي متى أبني فيخـــ
طوفي على جفني تري مرّغتُ فيها جلَّ أيا كيف أكتوت من هجرك هيهات أن أنساك أو
وانسي همومَكِ واطمئني بالرغم من شجوي وحزني فانثنيتُ قرير عينِ طئي على الفور التبنِّي
من بينه العين الكسولة مي وأحلامي الجميلة الأنفاسُ في روحي العليلة أسعى إلى طلب البديلة
وهكذا تبدو لغة الغزل لدى الشاعر لغة متمسكة بجذورها القديمة ، فهي تواجهنا بكل مقومات الغزل القديم من التظنِّي والتذلُّل والخشوع أمام الحبيبة ، غير أنِّه تنازل قليلاً عن بعض نزعات الفحولة التي درج عليها بعض الشعراء قديمًا رغبة منه في الوصول لرضا الحبيبة إلى درجة المصارحة بعدم الرغبة في غيرها :
هيهات أن أنساك أو
أسعى إلى طلب البديلة
وبالرغم من صحة سلامة هذا البيت وانسجامه مع ما قبله لكن التصريح به أحال النص من كيانٍ لغوي شعري إلى كيان لغوي اجتماعي يرتبط بالرهانات والعقود الاجتماعية ؛ فإنّ مجرد التلفظ باستحالة النسيان والتلويح بعدم طلب البديلة ينطوي على تلويح بالنقيض، وكثيراً ما يبدأ الشاعر قصيدته في وصف جمال المحبوبة لكن مشاعره تنسرب وراء تلك القسمة في الحبَّ الطفولي على المبدأ المشروط ؛ أنا أحبك فأحبيني :
قرأت بعينيّ الحياة وطالما فهلاّ كتبتِ لي كتابًا موثقًا ولا عجبٌ أني اتخذتك قِبلةً
رأيت بعينيك الجمال مرصَّعا وعقدًا أراه في يديَّ موقّعا لأسجدَ فرضًا في هواكِ وأركعا
وهي لغة رغم روعتها إلاّ أنها تجعل لغة الحب في الشعر أقرب إلى البراغماتية منها إلى الطهارة والقداسة ، كما تحيل الشعر من كيان لساني جمالي إلى كيان اجتماعي .
و(على وتر الغمام) العتبة الأولى التي تنضوي تحتها هذه الباقة من القصائد تعتمد هذا البناء على التركيب الذهني الناقص الذي يحاول إِشراك المتلقين في استكمال البناء ؛ فالمسند محذوف يحتمل عدة تقديرات ، والحذف باب بلاغي واسع يقول عنه عبدالقاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز" هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر ؛ فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدكَ أنطقَ ما تكون إذا لم تنطق ، وأتمَّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبن".
والمسند المحذوف يمكن أن يُقَدَّر بـ [ غناؤنا على وتر الغمام ] أو [ نغني على وتر الغمام ] وبالرغم أن المحذوف والمذكور في هذه العتبة ينتمي دلاليا إلى حقل الشعر والغناء كدلالات حافة إلا أن الحضور الكبير للقصائد الإخوانية والاحتفاء بالمجتمع وبالإخوان والأصدقاء جعلنا نجزم بأن العنوان قد انفتح على جزء من قصائد الديوان الوجدانية والغنائية ، وانغلق على الجزء الآخر وهو الإخونيات ، فالشاعر وسط فرحته بهذا الصيد الثمين من الإخوانيات نسي أنّها تغلق النص عادة على المتلقي وتفتحه للطرف المقابل الذي تدور حوله القصيدة من دون القارئ الذي يبدو متجمهراً على مدارج القراءة فقط ، وليس على وتر الغمام ، وهذا يعني الحب الكبير للمجتمع من قِبَل الشاعر ، كما أَنّه لا يكتفي بالصيغة الجمالية للشعر، أو أنه لا يؤمن بأن الشعر هو فنّ متعه اللغة فحسب ، بل هو عنده متعة لغوية تُقدم وظيفة عاطفية تجاه المجتمع والإخوان والأصدقاء ، ما يجعل لغة الشاعر قسمة بين الكلاسيكية التي هي مطلب للجماهير ، والرومانسية التي هي مطلب المشاعر الدافئة وحفز الحب على الكتابة.
وبرغم تكاثر قصائد الإخوانيات في الشعر فإن ممارستها لا تبدو سهلة بالشكل الذي يتصوره بعض الناس ، وذلك لأن كل كتابة تعدَّ مسافة وجدانيةً بين الشاعر ومن يكتب عنه ، وهذه المسافة كلّما اقتربت تثاقلت خطوات القدرة على الكتابة وتباعد الإبداع ، لدرجة أن بعض الشعراء يفشل في الإبداع عند الكتابة عن أقرب الناس إليه من أب أو أم أو أخ .... غير أن الشاعر البطاط قد خرق هذا النمط ، فهذا الديوان الذي لم يتجاوز ثلاثين قصيدة ونتفة تقريبًا طوَّف في عوالم التجريب الشعري ، وقد ساقته اللغة إلى أقدار المحبين ، وأخذته ناحية الفضاء الاجتماعي، بالقدر الذي أخذته إلى قَدَر الإبداع الشعري وعلى مسافة واحدة تقريبًا .
أما اللغة التي تمثل الشعر الحقيقي في هذا الديوان ، فهي لغة الأزمات ( الموت ، المرض ) فهو عندما يكتب يجعل النص في مواجهة الأزمة الواقعية ، فكأنه يكتب رُقْيَةً لغوية أو تَثْويبَهً شعرية تُحفِّز على استعاضة أو استعادة اللحظات الجميلة للحياة في مواجهة الأزمة ومخاتلة الظروف القاسية للمأساوي والتراجيدي ، وقد كتب في ذلك عدة قصائد من أهمها ( لمّا توضَّأ ) في رثاء الفقيد الشاعر المحبوب الأستاذ / معتوق العيثان رحمه الله :
لمّا توضّأ من سنا إبريقه
لم تحتمله الأرض في تحليقِهِ
لا تثقلوا المرثى عليه فإنّه
ماضٍ بزادٍ مترفٍ لطريقِهِ
يامن تَعتَّق بالخلودِ فذكره
حيٌّ هنا بزفيره وشهيقِهِ
ولعلَّ قوة الإبداع في شعر الرثاء ترجع إلى ثورة المشاعر التي تُهيجها المأساة في كوامن النفس الإنسانية بشكل عام والمبدع بشكل خاص ، وهذا المعني نلمسه في عبارة نقلها الجاحظ عن أحدهم يسْأل أعرابيّا " ما بال المراثي أجود أشعاركم ؟ فقال : لأننا نقول وأكبادنا تحترق " فاللوعة مصدر إلهام ووقود قابل للاشتعال وإشعال التجربة الشعرية بأكملها ، وهذا ما نلحظه في قصائد الرثاء ، وكذلك في قصائد أخرى تحفيزية يواجه بها علل وأمراض الآخرين ، وفي قصيدة ( نموذج للحياة ) التي كتبها في مواجهة مرض والده المقعد بسبب جلطة دماغية فقد على إثرها النطق يحاول الشاعر أن يَبُثَّ في دواخل النفس شعورًا بأن والده ما يزال يمتلك أدوات الفعل والتواصل ، وبأنّ ملكاته لا تزال تؤدي وظائفها بشكل طبيعي ، وكأن الأمر في سباق مع العي والمرض ، فراح يناجيه بهذه القصيدة قَدَمًا و يداً وحسًّا ومعنى :
خذني إليك إلى طريقك شعْلة
حتى يُضيء لي الطريقُ الأبلجُ
ضعني على قدميك موفور القوى
فلربّما تقوى النهوض وتدرجُ
دعني وحرف البوح يصدح علَّه
يحكي حكايا العارفين وينهجُ
ألِفتك هذي الأرض فوق ترابه
روحًا وريحاناً يفوح ويُبهجُ
وتبثُّ في النخلِ الحراك فربما
بلحٌ تحرِّكه بدارًا ينضجُ
وهذا ما لاحظناه أيضًا في قصيدة قالها في صديق إثر مرض عارض :
لمثلِكَ لا يضنُّ هنا القصيدُ لأنّك نكهةُ الجلسات تحلو ( أبا حسنٍ ) لقد جدَّدت عهدًا فلا بأسٌ عليكَ ولا مَلامٌ
وفي مغناك يأتلقُ النشيدُ فيحلو مبسمٌ ويطيب عود وعهدك بالوفا عهدٌ تليدُ وعافية تدوم ولا تبيدُ
حيث يصبح الكلام على المرض أداة لمغالبته من أجل العافية والسلامة ، فالنص يقدّم وظيفته الاتصالية التي تثير في المبدع إحساسًا بالعطاء والتجاوز ومزيدًا من الانتشاء في التواصل البناء ، كما تثير فيمن قيلت فيه القصيدة إحساسًا بالحياة ، وشعورًا بالصحة ، ومزيدًا من النشاط ، وقدرة على مغالبة المرض أو نسيانه .
جديد الموقع
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد
- 2024-11-21 القراءة للكسالى
- 2024-11-21 القراءة واتباع الأحسن
- 2024-11-21 روايات أسامة المسلم بين جيلين.
- 2024-11-21 ( غرق في المجاز، مَجازٌ في الغرق ): قراءة في ديوان الشاعر جابر الجميعة
- 2024-11-20 الدكتور عبدالمنعم الحسين يدشن حملة التشجير الثالثة ببر الفيصلية