2022/03/03 | 0 | 3713
قراءة في ديوان(شرودٌ مؤجل) للشاعر عبدالمجيد الموسوي
اليمامة
في زحمة الإصدارات وسعار التأليف الذي أرهق أكتاف المكتبة وفي زمن تهافت المحتويات التواصلية يطلّ علينا هذا الديوان من نافذة التأجيل رغم كلِّ هذا الوجه الجمالي الذي يجعلك تعيش موسيقى لغوية على أوتار مكتشفة، لكن الأصابع التي عزفت عليها عرفت كيف تتعامل معها؛ لتعطي أنغاما دافئة وموسيقى حالمة على مقام الجمال والأدب.
كل ذلك نابعٌ من حساسية الشاعر في التعامل مع قصيدته من حيث التحكيك وتهذيب الزوائد حتى صار الكيف من غير نظرٍ إلى الكمهو المطلب الذي حققه الشاعر في هذا الديوان المكثّف بلاغيًّا ودَلاليًّا وهذا _لعمرك _مؤهل عال من مؤهلات الترشيح والتقبُّل لدى عالَم المخاطَبين فيما نحسب، فالشعر قبل أن يكون حيادا عاطفيًّا، هو تحرير لغوي دقيق ونشاط كلاميّ عميق، كلّما حرّره شاعره بلغةٍ دقيقة ومكثَّفة برقت درره و بلغ أثره، وهو أمر غير خاف في هذا الديوان جعله يظفر بعناية القارئ.
(شرود مؤجل) هو العتبة الأولى لهذا العمل الأدبي الذي انضوى تحته 43 نصًّا ما بين قصيدة ونتفة ومقدمة وإهداء، والجميل أن هذا الديوان من إصدارات ابن المقرب الأدبي، ومن تنسيق الشاعر إبراهيم بوشفيع وتصميم الغلاف للشاعر علي النمر وهذا يعني أنّ الديوان حظي بعناية فائقة من أهل الدراية والفن قبل أن يخرج في صورته النهائية.
بُِنيت العتبة الكبرى للديوان بناءً منقطعا عن نصوصه المنضوية تحته حتى تتحول العلاقة بينهما إلى مسافة توتر تستوقف القارئ في محاولة شغرها تأويليًّا، فهذه العتبة المركّبة تركيبًا وصفيًّا تكشف غالبا عن علاقة المؤلف بنصوصه ورؤيته لها وعن الوجه المتواضع الذي يريد الشاعر أن يخرج به للمتلقي في ديوانه الأول، فمن وظائف العنوان إمّا أن يعرض صدعًا أو فجوةً في فكر ونفسية المؤلف، وإمّا أن يزيل غموضا في فكر المتلقي، ومن الواضح أن اختيار الدال(شرود) يدل على روح أدبية متواضعة لدى المؤلف إذا ما قارناها بمستوى جمالية النصوص المحمولة.
كما أنّ الدال (مؤجَّل) يشي بكمية المعاناة والتردّد أمام مسؤولية الكتابة والطباعة، وهي حلَّة صار على المؤلِّفين لزامًا ألّا يخلعوها أمام شهوة الطباعة وحماس النشر حتى يتأكّدوا من أنهم أمسكوا بحبل القصيدة وأوقدوا شمعة الحياة بمثل لغة شاعرنا الموسوي:
وأمسكتُ حبلَ القصيدةِ
أملأ دلوًا من البوح
أشرب معنى شفيفًا
ولكنني من لظًى
ما ارتويت
ورحتُ أمشّطُ صحراء
روحي وأطلق كل جيادي
لأصطادَ معنى عميقًا
ورغم العنا ما اهتديت
وأبقى أُجدّفُ شطرَ
القصيدةِ، لاشيءَ يبرق لي في الخيال لأكتبَ مقدار بيت
إن الإحساس الموسيقي العالي بمسؤولية الكتابة من أجمل الجمال، وهذا النص رغم انتمائه للنصوص(الأنَوِيَّة) وهي نصوص باهتة؛ لأنها تحرص على نقل مشاعر الناصّ بنصِّه وليس مشاعره بالأشياء من حوله، فهي نصوص أنانية تنكفئ على نفسها، لكن بالرغم من ذلك فإن أناقة لغة الشاعر وكثافة الموسيقى وتصاهر المفردات مع تراكيبها بشكلها المتماسك جعلنا نشعر برغبة في كسر أسوار الأنا فإذا بنا نعيش التجربة بشكل جماعي في نص بديع، لما يقدّمه من وفاء للغة والمجاز، وما يؤديه من التزام أمام مكتبة الأدب العربي وتاريخه العريق، ومن هنا نفهم معاناة الموسوي وتردده في ثنائية ( الكتابة /المحو) و القصيدة التي (تكتبني/ أكتبها) فهو لايكتب حتى يدنو البحر منه وتهمس له الريح:
فلن أكتفي أن تجيء
القصيدة طوعا؛ لتكتبني
أو تجيء القصيدة جَبْرًا
لأكتبَ ماتشتهيه الخواطر
حتى وإن مدَّت الريحُ
أعناقها للسماء وشدّ
الجميع السُّرى للرحيل
فلن أركب الموجَ حتى يمور لي البحرُ،
يدنو إليّ
ويملأ بالفيض
راح اليدين
لتهمس لي الريح هلّا اكتفيت
إن القصيدة في مستواها الدلالي لاتخرج على سطح الورق حتى يلِج البحر في دواة الشاعر، ويفيض الحبر، وتهمس الريح للخاطر بكتابتها، وهي حالة للكتابة من فيض الإلهام لا من فيض الاهتمام تجعل النص يكتب شاعره ويعينه عليه.
وهي حالة تتقاطع مع دعوة الشاعر الألماني (تشارلز بوكو فسكي) الذي أوصى بالمعاناة قبل الكتابة :
إذا كان عليك انتظارها
لتخرجَ مدوِّية منكَ
فانتظرها بصبر
لا تفعلها إلا إذا كانت
تخرج من روحك
كالصاروخ
إلّا إذا كان سكونُكَ
سيقودكَ للجنون أو
الانتحار أو الموت
إنّ الإحساس بالتجربة والاكتواء بنارها قبل أن تخرج حممُها في دفقات موسيقية متآزرة التراكيب ومتصاهرة مع وجدان شاعرها هو أيضا ما يجعل القصيدة الإخوانية التي عُرِفت عبر تاريخها بالابتذال والكلاسيكية أشبه بابتهالات روحية تحيل ابتذال المديح إلى تلاوة حميدة من نسيج البلاغة والمجاز، والممدوح الصديق إلى ملَك سماوي، وهو ما نلمسه في قصيدة (شاعر يقطف الدهشة من شجر المجاز) التي كتبها في الشاعر جاسم الصحيح وفازت بجائزة راشد بن حميد الإماراتية:
من أي متكأٍ أتيتَ محمّلا
بالفيضِ قل لي من بحقك أرسلكْ؟!
هل كنتَ في رحم السماء معتّقًا
فأتى إلهُ القافياتِ وأنزلك؟!
أوّلتَ ذاتَك؛ كي تعيد جَمالَها
فسعى لك المعنى الأنيق وأوّلكْ
جودتَ شعرَكَ لم تخن آياتِهِ
رتّلته مقدارَ ما هو رتّلكْ
ألقتْ عليك الأبجديّة ثوبَها
فارتدّ منك الشعر حتى ظلّلكْ
وأتت لك الفصحى تضجّ أناقةً
وتقول مغرمةً:حبيبي (هيتَ لكْ)
تبتلُّ منك الروحُ تنهمر الرؤى
مقدارَ ما انهمرَ الجَمالُ وبلّلكْ
تقوم هذه القصيدة على انشطار صوت الشاعر إلى صوتين؛ صوت السائل ( من أي متكأٍ أتيت؟.. من بحقك؟.. هل كنت؟) هذا الصوت يعبر عن دهشة الشاعر بالصحيّح وحبه له وذوبانه فيه، وصوت المجيب المبنيّ عل الجمل الخبرية(أوّلتَ ذاتك، سعى لك المعنى، جوّدت شعرك، رتّلتَه، ألقت عليكَ، فارتدّ منكَ الشعر، أتت لك الفصحى) فكأنّ الشاعر أقام بناءً حواريا أشبه بالمنولوج الداخلي؛ لأنه تولى بنفسه الإجابة عن تلك التساؤلات، والسؤال بطبيعته ذو انتماء شعري، أما الإجابة فهي ذات انتماء خطابي أونقدي، فقد جدّ في تقديم الإجابة بنفسه وتسلّح بالحجج المتكاثرة لكشف خيوط الإبداع لدى النموذج الشعري/ جاسم الصحيح وتدشين لحظات الدهشة والإعجاب والحميمية التي تجمعهما،لقد كانت أسئلته منصاعة لخطرات الطبع، أمّا إجاباته المدججة بالحجج والموازانات وأشكال البديع فجاءت دقيقة الصنع:
أولتَ ذاتك كي تعيد جمالها
فسعى لك المعنى الأنيق وأوّلك
تبتلّ منك الروح تنهمر الرؤى
مقدارَ ما انهمر الجمالُ وبلّلك
والسؤال الذي يراودني أمام هذا النص هو إذا كان عمق التجربة الفنية لدى الشاعر يجعله قادرا على التقاط مشاهد الحياة ومواقفها وإعادة صياغتها في أساليب تعبير راقية، فهل للشعر أن يعكس جماله على روح الشاعرفيصقل أخلاقه؟ وهل الشعر وحده القادر على صناعة هذه المعادلة؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن نفسر جماليات القبح في شعر الهجّائين حين يصدرون غالبا عن بذاءة طبع وسوء خلق ومع ذلك يبدعون؟
جديد الموقع
- 2024-12-22 احنا جيرانه (ص) أهداها الله كفوفه (1)
- 2024-12-22 يا يوم لغتي .. أينك أم أيني عنك
- 2024-12-22 ألم الرفض الاجتماعي
- 2024-12-22 نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته أبكر مما تظن
- 2024-12-22 الكتاب السادس عشر لـ عدنان أحمد الحاجي (تطور اللغة واضطراباتها وعسر القراءة عند الأطفال)
- 2024-12-22 تأثيرات لغوية للقراءة الرقمية
- 2024-12-22 الزهراء (ع) .. المجاهدة الشهيدة
- 2024-12-22 نحو كتب في الشوارع
- 2024-12-22 بين فيزيائية الكتب وكيميائية الكلمات
- 2024-12-22 من أجل القراء المترددين