الصائغ الأحسائي المعمر ناشي بن علي المهنا ،،، خمسة عقود في دبي 

            تعتبر الأحساء إشعاع حضاري ومنارة اقتصادية منذ القدم، يقصدها سكان الجزيرة العربية من حاضرة وبادية، فهي واحة نخيل ومهد للعلم والعلماء والشعراء والحرفين الذين استلهموا إبداعهم في الموروث الفني من النخلة التي تحيط بهم من كل جانب، واستوحوا جودة نتاجهم من طيب ثمرها من رطب وتمركماً وكيفاً. حيث اشتهرت الأحساء بوفرة الحرفيين المهرة في شتى الحرف، فكانت حرفتهم  مضرب المثل في الاتقان والأبداع حتى أصبحت الأحساء علم على نتاجهم حيث يُقال " المرتعشة الحساوية" و"البشت الحساوي" وغيرها الكثير، وذلك لجودة عملهم وإتقانهم المتناهي الذي يرغب في اقتناءه أهل الأحساء وخارجها، فشجع ذلك أهل الأحساء بالسفر والهجرة للعمل في دول الخليج حيث ينشط الطلب على نتاج حرفتهم في بلد في بعض الأوقات ويكسد في بلد آخر. ومن هؤلاء الحرفيين الأحسائيين الصائغ المحترف المرحوم ناشي بن علي المهنا.

     (أحساءُ) يا جَنَّـةً بالنخلِ تلتـحـفُ           يكادُ يُشرِقُ في عليــائِها السَّـعَـفُ

      ما بين جَنبَيكِ.. لم يبرحْ يُـوَحِّـدُنا           أَصْلٌ بهِ يلتقي الأحفادُ والسَّــلَــفُ

      وفي ثراكِ أقـــامَ الفـــنُّ معبــــدَهُ           للناسِ، فانطلقَ الإنسانُ والحِرَفُ

        الشاعر الكبير جاسم الصحيح

                                      مكث الصائغ الأحسائي الحاج ناشي بن علي المهنا رحمه الله في دبي قرابة سبعة وأربعين عاماً متواصلة دون أن يقطعها بزيارة الى موطنه الأحساء، وبدأت رحلته في الثلاثينات الهجرية من القرن الماضي بعد أن تزوج في صباه في الأحساء وغادر إلى دبي في مقتبل عمره سعياً لطلب الرزق حيث عمل صائغاً في دبي، وبعد أن طال سفره في دبي بدون رفقة زوجته طلقها بوكالة لأحد أقاربه حيث لم ترغب بالسفر، وتزوج من امرأه أخرى في دبي وكان نسله منها، حيث استمر مع زوجته الأخرى في دبي قرابة أربعة عقود قبل أن يقرروا جميعاً الرجوع الى الأحساء هو وأولاده وبناته وزوجته الدبوية التي ذهبت معه إلى الأحساء حيث تقدم الى أبنته أحد أبناء عمها من الأحساء وتزوجت منه وعلى أثر ذلك نزلوا جميعاً الى الأحساء ، فقفل ناشي الى الأحساء التي غادرها في عمر العشرين ورجع لها في نهاية الستين من عمره  وكان أبنه أحمد -أبي هاني- له من العمر ثلاثة شهور أثناء عودتهم من دبي وكان ذلك في نهاية السبعينات الهجرية[1]. ولَم يكن مكوثه الطويل في دبي وبعده عن الأحساء أمراً غريباً، فكان المكوث في دبي دافئ رؤوم كدفيء أمه الأحساء رغم بساطة العيش فيها آنذاك إلا أن أهلها كانوا هم الإضاءة واللمسة الحلوة التي تضفي على تلك القطعة المالحة من الأرض حيث كان البحر مصدر الماء والغذاء على الغالب، لكن طبيعة أهلها هو ما يميز أرضها بسعيهم دائماً نحو الأفضل منذُ القدم باستقبالهم الوافد وما يجلبه معه من حِرَف وعلم وثقافة ومعاملتهم له بكل احترام وتقدير وعدل ومساواة، ليكون باعثاً للتوافد على بلادهم والاستقرار فيها، حيث لقى الحاج ناشي المهنا رحمه الله المحبة والتقدير من أهلها، فقد كان يصيغ حلي الذهب من المرتعشات الحساوية والسبحة الحساوية (المرية) والبناجر[2] لكريمات الشيوخ، ومنهن الشيخة حصة المر زوجة الشيخ سعيد آل مكتوم والدة الشيخ راشد بن سعيد رحمهم الله، ولعموم أهل دبي وغيرها من الأمارات، فكان الشيوخ والأعيان يصحبونه في طلعاتهم البرية في مواسم الربيع لما يكنونه له من محبة وتقدير. وكان بصحبته من الصاغة الحساوية في دبي أحمد العبد العزيز الناصر، وعبدالحميد الدجاني، وعبداللطيف الدجاني، وحسين السمين، وأسرة آل الأمير من معازيب البشوت الحساوية وغيرهم من الحساوية في الفترة التي واكبت وجود الصائغ الحاج ناشي المهنا في دبي آنذاك. ولَم يكن بعده عن الأحساء عقوقاً لها وزهداً منها بل كان رجوعه إليها رجوع الأبن المشتاق لأمه التي استقبلته استقبال الأم الرؤوم التي لا تكره أبنائها حيث عوضه الله حرمان البعد عن الأحساء الذي دام قرابة الخمس عقود في دبي، بأربعة عقود آخرى في الأحساء حيث كان من المعمرين الذين امتدت أعمارهم بستة سنوات بعد المائة، حيث خدم المهنة إلى آخر عمره المديد. كما كان له اهتمامات في الطب الشعبي، حيث كان يقصده من شتى مدن وقرى وبادية الأحساء وحتى من بعض دول الخليج ممن يعاني بعض الأمراض مثل "البوصفار" وغيرها من الأمراض التي تُعالج بالكي[3]، إلى أن لبى نداء ربه في مسقط رأسه الأحساء عام 1417هـ رحمه الله. 

                                           مرتــــعشـــة حســـاويــة

                     الصايغ الحاج أحمد بن ناشي المهنا (أبي هاني) يستعرض مرتعشة حساوية .

[1] مقابلة مع الحاج أحمد بن ناشي المهنا (أبي هاني) في محله في سوق الذهب بالهفوف في 15/1/2019م.

[2]  نوع من معاضد اليد الحساوية وتكون عريضة  وثقيلة.

[3]  إفادة من الأستاذ حسين علي المحمد علي، مراسل هجر.