لما كنت أتجول في متحف ڤكتوريا وألبرت في لندن في بعض الأيام، استرعى انتباهي تمثالان لهرقليطس وديموقريطوس، وهما مفكران يونانيان معروفان باسم "فلاسفة البكاء والضحك." سُمي هرقليطس بهذا الاسم لكونه كئيباً وحزيناً، بينما كانت تبدو البشاشة تعلو وجه ديموقريطوس.
دائما ما يكون الناس حساسين جدًا تجاه تعبيرات الآخرين الانفعالية. ومن غير المفاجئ أن بينت الدراسات أننا نفضل كثيرًا الناس الذين تبدو عليهم السعادة ظاهرة على أولئك الذين يظهرون حزينين أو محايدين (1). ولكن ما هي التكلفة الإنفعالية من حيث المعاناة والمشقة حتى نكون دائما مبتسمين مثل ديموقريطوس؟ هل من الإنصاف أن نطلب من الناس أن يكونوا كذلك في أماكن عملهم؟ لقد راجعنا الأدلة المتعلقة بالموضوع - والنتائج التي حصلنا عليها كانت مثيرة للاهتمام.
السبب الذي يجعلنا نفضل الوجه السعيد كثيرًا هو لأن مشاعر الآخرين الإيجابية ترفع من صحتنا النفسية مباشرةً. على سبيل المثال، أثبتت دراسة أنه في حالات مواعيد التعارف السريعة، الناس الذين يظهر أنهم إيجابيون يساهمون في إعلاء مشاعر الآخرين بشكل أكثر (2، 3)، ويُرغب في أن يُضرب موعد تعارف ثانٍ معهم.
الصورة: إضافة تسمية توضيحية لـ هرقليطس وديموقريطوس،
وهما مفكران يونانيان معروفان باسم "فلاسفة البكاء والضحك."
ولكن ما هي التبعات الإنفعالية المترتبة على محاولة أحدهم لكي يبدو سعيداً حتى يتمكن من إسعاد الآخرين؟ نتائج الدراسة الرائدة التي نشرها أرلي هوكشيلد Arlie Hochschild قسّم مثل هكذا "عمل عاطفي [العمل العاطفي هو عملية إدارة المشاعر والتعابير والإيماءات لتلبية متطلبات الوظيفة العاطفية] (4) " إلى نوعين: التمثيل العميق والتمثيل السطحي (5، 6). نحن نستخدم التمثيل السطحي عندما نقوم بتعديل تعابير الوجه وإيماءات الجسم دون تغيير فعلي في حالتنا الإنفعالية (مشاعرنا الداخلية) - على سبيل المثال، التبسم، حتى لو لم نكن سعداء حينها.
التمثيل العميق، من ناحية أخرى، هو عندما نحاول ان نغير شعورنا وذلك بالتفكير في شيء يثير المشاعر المرغوبة أو يقلل من أهمية تجربة سلبية. قد، على سبيل المثال، تفكر في اجازة قادمة عند التعامل مع عميل صعب أو تتعرف على شيء ترغب فيه عن العميل. كلا النوعين من التمثيل يمكن أن يساعدانا على تطوير علاقات أفضل في البيت وفي العمل إلى حد ما، ولكن عموماً، التمثيل العميق يساعد على ممارسة شعور أكثر واقعية. في الواقع، وجدت دراسة (7) ان نوادل المطاعم الذين يمارسون التمثيل العميق يحصلون على إكراميات أكثر من غيرهم.
الثمن الباهظ على العمال
يتعرض موظفو قطاع الخدمات بشكل واضح للضغط من أجل أداء عمل عاطفي - يكبتون مشاعر معينة أو يبالغون فيها ليجعلوا العملاء سعداء كنوع من الحث على العودة. وقد اكتشفت معظم الدراسات التجريبية حول العمل العاطفي تبعات سلبية. الذين يمارسون التمثيل السطحي "يخفون مشاعرهم"، مما يخلق صراعاً داخلياً غير صحي بين المشاعر المعرب عنها والمحسوس بها. وبينت مراجعة لـ 95 دراسة (8) أجريت في عام 2011 أن اداء التمثيل السطحي مرتبط بإرهاق عاطفي (9) وتوتر وانخفاض في مستوى الرضا الوظيفي (10)، وانخفاض في مستوى التعلق بالوظيفة أو برب العمل. كما أنه يخلق مشكلات نفسية جسدية: اضطراب النوم وصداع وألم في الصدر.
ومن ناحية أخرى، ارتبط التمثيل العميق ببعض المخرجات الإيجابية - كإنجاز شخصي ورضا عملاء وتعلق برب العمل أعظم. هذا ربما لأنه يساعد على بذل جهود من أجل ممارسة العواطف الحقيقية، وهو موضع تقدير من قبل الزبائن وزملاء العمل. ويمكن أن يساعد أيضا على تمكين تفاعلات اجتماعية مجزية أكثر. ومع ذلك، ليس كل شيء على ما يرام. التمثيل العميق يقترن أيضا بزيادة في الإرهاق العاطفي والمزيد من الشكاوى النفسية والجسدية (سيكُوسُوماتِيّ). بالرغم من الجدل الدائر بين الباحثين، يبدو أن كلاً من التمثيل السطحي والعميق يمكن أن يكونا ضارين بالموظف.
خذ الصورة الكبيرة في الأعتبار. إذا كان العمل العاطفي يستنزفنا ويؤدي إلى تراكم التوتر والإجهاد النفسي فإنه يمكن أن يكون له تأثير سلبي في علاقاتنا. وتقترح بعض النظريات أن قوة الإرادة وضبط النفس يعتمدان على مجموعة محدودة من الموارد الذهنية التي يمكن أن تُستنفد. ويمكن القول بأن العمل العاطفي المتكرر يستنزف هذه الموارد. ونتيجة لذلك، بدلًا من التصرف بلطف مع الآخرين، فإن أدنى مشكلة يمكن أن تنفجر الى ردود فعل عدوانية.
لقد قمت على مدى العقد الماضي بالتعاون مع زميلتي أستا مديسوكيت Asta Medisauskaite بإجراء دراسات في مجال التنمر ضمن الشركات. وأنا أدرك أن العدوانية في الشركات قد يكون سببها الإجهاد (11). وفي الظروف المجهدة نصبح في موقف دفاعي (اتقائي) وحساس بنحو أكثر، وبالتالي، نصبح أكثر عرضة للعمل العدائي. وبالنظر إلى أن العمل العاطفي يخلق توتراً وإجهاداً، فإنه من المنطقي أن يؤدي ذلك أيضا الى الجور والعدوان.
مراجعتنا بينت أنه في معظم الحالات كان التمثيل السطحي مقترنًا بسلوك عدواني تجاه العملاء والزملاء في العمل. وأما التمثيل العميق كان مقترنًا بالعدوانية تجاه زملاء العمل في إحدى الدراسات. وأفاد المشاركون انهم أنفسهم كانوا متورطين في بعض حالات الأعمال العدوانية وأفاد بها أيضًا زملاؤهم أو المشرفون عليهم في البعض الآخر من الدراسات.
في المستقبل نود أن نرى ما إذا كان الجنس (ذكور أو إناث) والخلفية الثقافية والتدريب والتنشئة الاجتماعية في الدوائر والشركات تؤثر في العمل العاطفي والعلاقات في العمل. وكخطوة ثانية نخططها لتنفيذ دراسة نوعية، وإجراء مقابلات مع موظفي قطاع الخدمات. بالإضافة إلى ذلك، نحن نبحث عن سبل لتطوير مشروع تدخل مشترك مع الممثلين المسرحيين والمخرجين، ونقل تقنيات التمثيل المسرحي لدوائر قطاع الخدمات.
في الوقت الحاضر، على الرغم من أننا ندرك أن العمل العاطفي يمكن أن يساعد الدوائر والشركات، فقد يعيق الأداء في الواقع. إذا قبلنا أن لدينا جميعا هرقليطس داخلي يحتاج إلى التألق من خلال مناسبة ما، فنحن قد نكون قادرين على الحد من التوتر والعدوانية في مكان العمل - مما يجعل في نهاية المطاف المكان أكثر سعادة وأكثر إنتاجية.