2023/09/28 | 0 | 1595
في مذهب العشق كل شيءٍ قربانٌ للعشق.
اليمامة
العشق، وكقيمة إنسانية كبرى باستطاعتها أن تخلع على سائر “القيم” كل ما لها من “قيمة”، وشيفرة كونية يحمل اسرارها الشعراء؛ وتبعاً لذلك تتقدم القصيدة وتحتفي بنفسها باعتبارها الوسيط الحامل لتلك المعاني الجميلة والسامية التي يتشارك فيها البشر. داعية تسامح ووئام، وسفير أدبي عابر للقوميات والأعراق. وتدعي القصيدة أيضاً انها الأجدر بالنيابة عن باقي الأجناس الأدبية في الكشف عن توحد البشر في عواطفهم وتشابههم في طرائق التعبير عنها. ففي الخيال (الشعري)، لا يشكل إيماننا الخاص سوى بعض الممكنات، لكننا نستطيع أن نرى باقي الممكنات في إيمان الآخرين؛ وهو ما يدعونا للتفهم والتسامح، كما يقول الناقد الكندي نورثروب فراي. فالعشق باعتباره مظهراً للتسامي العاطفي بنشدانه التوحد مع ذوات أخرى نجده متشابهاً في سلوكه ومفهومه لدى شعراء المعمورة. وعندما يقول الأحوص:
«إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الهَوَى
فَكُنْ حَجَراً مِنْ يَابِسِ الصَّخْرِ جَلْمَدَا».
فما كان عليه أن يقول أكثر من هذه الكلمات حتى يتضوع الفضاء بتلك المشاعر الرقيقة التي في حقيقتها تضاهي مخزون عمر بأكمله من العواطف.
يضعك الشاعر هنا في تحدٍ وجودي ويدفع بك؛ ليس أن تختار بين أن تصبح بشراً أو جماداً، إنما يستفز كينونتك ويجعلها تجري عمليات بحث حسابية مستعجلة لتثبت له أن الحب قد طرق بابك في يوم من الأيام. وحتى “شبهة” حب غابرة تستعين بها؛ دليلاً تقدمه في مرافعتك لتقول له إنك قد ارتقيت بإنسانيتك إلى مصاف الملائكة.
المتصوف والشاعر التركي “يونس إمرة” يعزز هذا المعنى، بل يقوله بتمامه:
«اسمعوا أيها المحبين، العشق كالشمس / والقلب الخالي من العشق كالحجر / ماذا ينبتُ على قلبٍ من حجر، وفي اللسان سم زعاف / مهما نطق بعذب الكلام فهو كالخصام / يرق وجه العاشق الصبوح ويصبح شمعة / وتظلم القلوب المتحجرة لتصبح شتاء قاسياً».
فهذا التطابق الغريب بين المعنيين عن مفهوم العشق العربي - التركي، يدفعنا إلى الاقتراب من مفهوم الشعر نفسه؛ باعتباره الكاشف عن طبيعة العواطف الإنسانية الكبرى، وأن الشاعر هو كاهن المعبد القديم. رؤى وأحلام رقيقة تتشوقها الأرواح، يلتقطها الشاعر وهي تسبح مرتحلة في سديم الكون فيفك شيفرتها. ومهمة الشاعر الحقيقي، حسب نورثروب فراي، ليست في أن يخبرنا بما حدث، بل بما يحدث: ليس بما وقع، بل بنو ع الشيء الذي يقع دائماً. إنه يقدم الينا الحدث “النموذجي” المتكرر، وهو ما يسميه ارسطو “بالحدث الكوني”، والذي هو العشق في موضوع استشهادنا.
إذن، العشق وعندما نقاربه بمفهوم الحدث الكوني، وأنه عاطفة استثنائية متجاوزة للعقل وأبراج مراقبته، فجلال الدين الرومي – الذي استعرنا عنوان المقالة من نصه التالي - يسند هذه الرؤية ويتوسع في شرحها ويضيف عليها:
«هل يسلك العقل سبيل اليأس؟ / لا بد من العشق حتى يحيل الرأس قدماً تجري إليه / العشق لا يكترث لشيء أما العقل فلا.. / ... / العشق لا يستسلم، يحترق ويُحرق ويذوب، لا يعرف الخجل والحرج.. / … / صفيق الوجه لا يلتفت وراءه».
إن هذا المزيج من الألم والنشوة المتجاوزة، هو نوع من السعادة القصوى بقدر ما هو ألم خالص. فهل هذا ما عناه الاصمعي لفعل العشق وأثره وحين ارتداده سلباً على القلوب:
«مساكين أهل العشق حتى قبورهم
عليها تراب الذُل بين المقابر»!؟
فكارثية غياب العشق واضمحلاله؛ واعتبار أنها حالة متوقعه منه، ليصح عليه صفة «صفيق الوجه الذي لا يلتفت وراءه» كما تقدم من نص الرومي، هو ما يضطرنا إلى الانتقال لجانبه المضني والمظلم لتتبع أثر انسحابه. فتلاشي أثر العشق من مشاعر أحد طرفي معادلة الحب يكاد أن يهدد بانهيار الوجود بأكمله على رأس الطرف المتضرر لأنه المعادل الموضوعي للحياة. وبهذا المعنى نجد أن شاعرة جائزة نوبل البولندية “يسوافا شيمبورسكا “قد عبرت عن العشق وتمثلته في نصها “يوتيبيا”؛ حين يضمحل الوجود بغيابه:
«عندما ينظر إلي / أبحث عن انعكاسي / فوق الحائط، وأرى فقط/ مسماراً، خُلعت من فوقه لوحة».
ألا يوحي هذا النص ويستثير ذاكرتنا بنص قريب منه للشاعر عبد الرحمن بن مساعد “البرواز”؟ فمسمار التعليق العاري من لوحة الشاعرة يسوافا، هو البرواز الخالي من لوحته بالنسبة للشاعر الأمير بن مساعد:
«قلتي لي أنسي / وأنا كل ليلة قدامي البرواز / ... / وصورتك رغم الألم / ورغم انها خذت من أطباعك كثير.. وخانت البرواز أشوفها في خاطري / حبيبتي ما بيدي حيلة / لا صرتي الصورة وعيوني البرواز.. وشلون أبنسى».
مضاضة تأخذ بتلابيب الروح وتشدها إلى واد سحيق مغرق في عتمته من تلاشي طعم الحياة جراء رحيلها. حينها يجزع الشاعر من فقده لجزء من ذاته عند انفصالها عنه بعد توحده بها، ويندب عهد الحب الذي لم يُحافَظ عليه. يحاول أن يشيح بكله عنها لكنه يراها باقية وما تزال تحتل كامل مخيلته. “قلة حيلته” وضيق مساحة المناورة في استجداء الحب الراحل بدعوته مجدداً؛ هو ما يلقي بثقله على روحه. وبهذا القليل من الحيلة، يرسم الشاعر خارطة طريق تعافيه للتحرر من أسر حبها. يتخيله “كسيناريو” ماثل أمامه يتنقل به في محطات الشقاء والعذاب لينتهي بخلاصه. يلجأ الشاعر إلى الدمع الذي يصفه توم لوتز: بأنه حيلة وجودية تطهرية للذات منذ ما قبل أرسطو؛ ذلك حين “تعفي” أو “تحرر” الدموع عواطفنا، لتزيل الألم النفسي الذي نشعر به عن طريق تحويل انتباهنا؛ من أفكارنا إلى أجسادنا، وهو ما يؤكده شاعرنا: «حبيبتي لأجل أنسى جرحك وأستريح /
بأبكي.. وبعد البكا بأبكي».
وما قصده أيضاَ، هو ابتكار مخارج تُحرره من “دهشة العشق” التي ترد صفتها في أدبيات المتصوفة. ففيما يتداولونه من قصص رمزية يشيرون بها على علامات الإفاقة من حالة “الوجد” لدى السالك هذه الحكاية: «روي أن الشبلي دخل فجأة على الجنيد وكانت زوجته جالسة، فلما رأت الشبلي أرادت أن تتوارى، فقال لها الشبلي لا عليك منه فإنه لا يراك. وأخذ الجنيد يحدثه حتى “بكى”، عندها قال لامرأته تستّري فقد صحا الشبلي». لذا، عندما يتحرر من دهشة العشق، ستحضر إليه هي بملمحها الجديد الخالي من أي أثر للعشق الذي كان يجذبه فيها سابقاً؛ وهو ما عبر عنه الشاعر بالحديقة الغناء الممرعة التي غادرها الربيع فتصحرت وبهتت: «واكيد في لحظة بتجي وبيجف دمعي /
وعندها صورتك اللي في عيوني /
بتعاف برواز الضما،
بتصير صحرا وهو سما / بتمرني الدمعة الأخيرة /
تاخذ معاها صورتك وتطيح».
يعي أن خروجها من روحه شبيه بمنازعة الموت؛ فيعض على ناجذه ويحتمل الألم فتغيب صورتها ويكف عن مناداتها بالحبيبة، وبهذا يصبح قادرا على كسر البرواز الذي يحتويها.. وبعده سينسى حتماً:
«وكني بها لدمعة سكين جرحها وجهي /
... /
وعندها لا نزلت الدمعة من الجرح الأخير /
وفارقت وجهي أنا /
بغمض عيوني وأكسر البرواز /
وأكيد بنسى».
وبانكسار البرواز لاحتوائه على عشق زائف، تلتئم صورة العشق الحقيقي مجدداً، وتعود مشرقة في تجارب بشرية متكررة؛ ويعمل الشعر حينها على ممارسة دوره في تعزيز هذه القيمة الروحية المشتركة والكشف عن جمالياتها بتعبيرات متطابقة غالباً، وتبعاً لذلك تصبح أسمى وظيفة للشعر هو تعزيزه لتلك القيم.. ولذلك كان عامنا هذا هو “عام الشعر”.
جديد الموقع
- 2024-11-14 البلدية والإسكان والبريد السعودي سبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية
- 2024-11-14 السير الذاتية وتابوهات المجتمع
- 2024-11-14 في ديوان «هاجسُ الريح»لهاني الملحم.. ما نتوقعه من الشعر، وما تعد به القصيدة.
- 2024-11-14 يمثل الأحساء والمنطقة الشرقية في البطولة نادي وأكاديمية بادل بول إلى نهائيات دوري بارنز السعودي للبادل
- 2024-11-14 افراح الأجود و البجحان تهانينا
- 2024-11-13 هل يُطاع الله من حيث يُعصى؟
- 2024-11-13 سمو محافظ الأحساء يستقبل رئيس وأعضاء اللجنة الوطنية للنقل باتحاد الغرف السعودية
- 2024-11-13 تحالف الأسودان ، خلاص الحسا وسكري القصيم
- 2024-11-13 زواج ثنائي "المجحد والعوض تهانبنا
- 2024-11-13 مركز الملك سلمان للإغاثة يشارك في معرض "واحة الإعلام" بالتزامن مع استضافة المملكة للقمة العربية والإسلامية غير العادية في الرياض