2023/11/23 | 0 | 1949
شخصية الشاعر باعتبارها نصاً قابلاً للقراءة.. «طرفة بن العبد بين مأساة الطفولة ونرجسية الشباب».
اليمامة
نحن والشعر في عامه العربي، كما قال طرفة بن العبد يوماً في معلقته الشهيرة واصفاً القدر: «... لكالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْياهُ باليَدِ». فالشعر مربطه جزيرة العرب وفي بيئته الأولى التي تخلق فيها، فمهما ارتحل بعيداً «فحبله» مشدود إلى وتده؛ يعود به دوماً إلى دائرة ارتكازه. والأحساء باعتبارها إحدى تلك المواطن التي شهدت بواكيره، تحتفي بشاعرها الرمز طرفة بن العبد ضمن مشروع وزارة الثقافة لإعادة الوهج لشعراء المعلقات برؤى معاصرة، وهو في العمق منه ترجمة للرؤية السامية لمجلس الوزراء بتسمية عامنا هذا (2023) بعام الشعر العربي. لهذا كان اختيار طرفة، وبهذا تتظافر الجهود لإعادة قراءته.
تحتفي الذاكرة الشعرية العربية بالنسق والمثال من أشعارها المؤسِسة لمبانيها الإبداعية، وتأتي المعلقات وفرائد النصوص والمقطعات الشعرية في عهد ما قبل الإسلام لتحدد لها فيما بعد النموذج، والطريقة المثلى المفترضة للقول الشعري. ثم تتقلص مساحة الاصطفاء وتنتخب ثلاثة من شعراءها ليعتلوا قمة هرمها؛ أحدهم طرفة، وذلك بتحكيم من مرجعها العتيد لبيد بن ربيعة. هذا وبعدها تستخلص الشعرية العربية طرفة وتقول: «طرفة أشعرهم واحدةً» أي أن معلقته تَفضُلُ كل قصيدة أخرى لغيره من الشعراء؛ وحكموا بتقدمه على سائر الشعراء بإجادته وصف الناقة في معلقته على نحو لم يسبق إليه، بل يميل بعضهم إلى عده أشعر شعراء الجاهلية. آخرون، مثل ابن سلام في الطبقات، نسبوا إليه وإلى بقية قومه من شعراء “ربيعة” أنهم أول من نبغ في الشعر. ويتفق معه المستشرق رينولد نكلسن، بأن طريقتهم التي جروا عليها في الشعر، بقيت بلا تغيير إلى نهاية العصر الأموي.
هذا على مستوى الرفعة الأدبية والمقدرة الشعرية لأديبنا طرفة بن العبد وقومه، أما المكانة الاجتماعية لطرفة فيمكن استطلاعها من خلال تاريخ الثراء المادي والثقافي للمنطقة التي ولد وترعرع فيها - أي إقليم البحرين القديم، أو هجر، وتمتد مساحة تجواله وإقامته، إلى إقليم الجزيرة الفراتية؛ بين أعالي نهري دجلة والفرات العريق بحضارته، والذي نهضت فيه حضارة عربية عظيمة قبل الميلاد بقرون بعيدة، والتي يمكن تحديدها مباشرة بعد انهيار دولة الآشوريين الذي رافقه هجرات ضخمة من قبائل عربية زحفت من الجزيرة العربية إلى هذه النواحي. وفي الفترة بين القرنين الخامس والسادس الميلادي – الزمن القريب من ميلاد طرفة – كان لهذه المنطقة العربية ثقل سياسي مؤثر، وكانت الدولتان الكبيرتان (الساسانية والبيزنطية) تحسبان حسابه وتتجنبان ما أمكن التدخل في شؤون هذه القبائل واستقلاليتها. ثم هناك دولة المناذرة في الحيرة، والملك عمرو بن هند المتميز بالرعاية الفائقة والاهتمام بالشعر والذي تواصل معه طرفة وعاش ردها من الدهر في بلاطه، وكان صديقاً حميماً لعمرو بن أمامة، أخي عمرو بن هند لأبيه، هذا بالإضافة إلى أن أحد أخول طرفة من النمر بن قاسط كان عاملاً للملك عمرو على جباية ما كان للعرب في البحرين، ذلك غير ثقل قبيلة طرفة السياسي وعراقتها.
وعندما يقترب التراث الأدبي من شأن طرفة الشخصي، فهو يتناوله من خلال أربعة محاور: ضياع إرثه المادي بحجب عائلته ميراث أبيه عنه وعن والدته، والثاني لنبوغه وقوله الشعر في سن مبكرة، أما الثالث فهو سلوكه الشخصي المثير والمتطرف في نزواته وتبذيره الذي عابته قبيلته، أما الرابع هو نهايته المأساوية. وفي كل محور، تتشكل حكاية ثقافية أو سردية تحاول سد الفراغات وتشذيب النتوءات التي تبرز في بنيتها عن طريق المخيال القصصي لتفسير ما لغز من ردات فعله أو مواقف الغير اتجاهه. ولهذا تصخب نبرة السارد التاريخي المفسر بالتقريع والشدة تارة، والشفقة بالتبرير والتعاطف تارة أخرى، وأحياناً تنحو باتجاه الأسطرة كما في حكاية تقويله الشعر في سن مبكرة جداً بأبيات تنسب أيضاً إلى كليب أخي المهلهل، وقد يكون طرفة استشهد بها، والتي مطلعها:
يا لَكِ مِن قُبَّرَةٍ بِمَعمَرِ
خَلا لَكِ الجَوَّ فَبيضي وَاِصفري
لكن المؤكد أن نصه في عتاب أعمامه لمنعهم ميراثه ووالدته كان من نصوصه المبكرة والذي يقوله فيه:
ما تَنظُرونَ بِحَقِ وَرَدَةَ فيكُمُ
صَغُرَ البَنونَ وَرَهطُ وَردَةَ غُيَّبُ
لهذا، ومن أجل بناء سردية معاصرة تلقي الضوء على أبعاد شخصيته، وتفسر نوازعه ومحرضات تصرفاته وتضمنتها نصوصه الشعرية، نجد لزاماً علينا استبدال أدوات المقاربة التي وظفها السلف والاستعاضة عنها بالمناهج النقدية الحديثة؛ كالاتجاه النفسي الذي يتخذ من علم النفس سبيله لتحليل الدوافع النفسية والمؤثرات الخارجية، وصلتها بحياة الشاعر ومنجزه.
وأيضاً بالذهاب مباشرة إلى نصوصه والاشتباك معها؛ أخذاً بنصيحة الشاعر الروسي يفجيني يفتوشنكو بأن «سيرة الشاعر الذاتية شعره، والأشياء الأخرى مجرد هوامش». وذلك حسب المتاح، وإذا لم نتمكن من استنطاق نصوصه بشكل تام من أجل استكشاف أبعاد شخصيته، عندها لا يسعنا سوى أن نعتبر شخصيته المرسومة تاريخياً، بمثابة النص الذي نجتهد في قراءته.
الطفولة وعي مبكر بالذات:
في العام السادس والثمانين قبل الهجرة النبوية الشريفة، وفي إحدى النواحي بصحراء “هجر” – أو الأحساء - ولد لأسرة تنتمي إلى قبيلة بكر بن وائل العدنانية معجزتها الشعرية عامر أو عمرو، والملقب بطرفة. صغيراً تفتح وعيه الكبير وقلبه الذكي على قضيتين أثرتا عميقاً على بنية شخصيته ووجهت سلوكه: يتمه المبكر وما نتج عنه من حجب لميراثه المادي من قبل أعمامه، وما أفرزه ذلك من سلوك عبثي فوضوي؛ حيث غياب الأصول المالية الجأه إلى الاعتماد على الهبات والمساعدات، وجرت عليه مشكلة عدم شعوره بقيمة تنمية المال واستثماره.
أما القضية الأخرى في التأثير على مجرى حياته، فهي نبوغه الشعري المبكر وعبقريته الكبيرة التي حفزها موروثه الجيني عن طريق حمضه النووي والمتأصل في تكوينه البيولوجي؛ فأبوه أخ للمرقش الأصغر، وابن أخ للمرقش الأكبر. أما أمه فهي وردة بنت قتادة أخت الشاعر المتلمس. وله من أمه أخت شاعرة هي الخرنق بنت بدر من بني ضبيعة. هذا غير نظرة الشاعر الجاهلي إلى إبداعه واعتقاده أن له قوى سحرية متجاوزة لحدود الطبيعة، أو نظرة قدامى العرب، حيث في أحد معاني مفردة “شاعر” أنه شخصاً أُنعم عليه بمعلومات خارقة وعلى صلة بقوى ميتافيزيقية كالجن والشياطين.
أما شمائله الأصيلة، فهي حسب ما وصف به نفسه؛ بالظرف واللطافة وتوقد الذكاء:
أنا الضربُ الذي تعرفونهُ
خُشاشاً كرأس الحيةِ المتوقدِ
إذن هذه البيئة الثقافية بالإضافة إلى الموروث الجيني والعبقرية الشعرية؛ عوامل ساهمت في اعتداد مبالغ فيه بالنفس والتمحور حول الذات، وقادوا إلى شبهة اصابته بإحدى عارضين نفسيين: الغرور أو النرجسية، وهذا ما سوف نعمل على اختباره وتحليله في باقي هذه الورقة.
فخر مستحق أم غرور الذات:
بداية، يري علم النفس التحليلي – بنقل الدكتورة أنعام موسى - أن الغرور واضطراب الشخصية النرجسية يشتركان في سمات تجعل التفريق بينهما صعباً إلى حد ما، بل هناك نظرية ترى، «أن الغرور هو سمة من سمات الشخصية النرجسية وأحد مظاهرها. فالنرجسية يكون صاحبها متمركزاً حول ذاته ويشعر بالعظمة وإحساس مبالغ به من أهمية الذات، بل النرجسية هي الدرجة الشديدة لحب الذات»، كما يرى بعضهم
وفي حالة شاعرنا طرفة، نجد أن الذات وانشغالاتها، وكذلك افتخارها تحتل نسبة وازنة من مجمل نصوصه الشعرية، وذلك بلحاظ تقاليد القول الشعري الجاهلي الذي يفترض في الشاعر أن يكون لسان قومه، والشاهد على عصره، وتبعيته الكلية لوسطه الاجتماعي، وألا يُنظر إلى تجربته باعتبارها فردية فحسب، بل تجربة فردية – اجتماعية، كما يقول إحسان سركيس عن الشعر الجاهلي. فهذا الانشغال بالذات «بالتركيز على هول المشاكل الخاصة»، كما يقول عبد الرقيب البحيري، تعدها الجمعية الأمريكية للطب النفسي، أحد الأنماط السلوكية الخاصة بالنرجسية. فمن خلال أشعاره، وكذلك سلوكه العام، نجد أن الانهمام بالذات ليه يتخذ مظهرين:
الأول: هو الوثوقية الشديدة بالنفس حد التطرف، وكذلك العناد في عدم تقبل آراء الآخرين، وعدم رضاه بقيادة الآخرين له، وهذه الثلاث يعتبرها علم النفس سمات أساسية في الشخصية النرجسية. ولعل حكايته زمن رعيه إبله مع أخيه “معبد” وتركه لها بدون مراقبة أو عناية مما أدى بها إلى الضياع بسرقتها، تصلح لأن تتحقق فيها كل تلك السمات. والطريف في الحكاية أن أخوه بعد ملاحظته اهماله، عاتبه وقال له: هل عندما تضيع الإبل سيردها شعرك؟ فأجابه بنعم. والغريب – كما تقول الحكاية - أنه استطاع ردها بشعره؛ وذلك لما ناشد عمرو بن هند بقصيدة حتى يشفع في ارجاعها من القوم الذين سرقوها، فعوضه ما يعادلها عددا.
أما المظهر الثاني، فيأتي الفخر في مجمله محاولة دفاعية عن نفسه وتبرير لسلوكه في حياته الخاصة، سواء اتخذ صيغة مديح الذات المباشر، أو في ثنايا مساجلة الآخر وهجاءه. ومن الفخر المباشر بذاته، مثلاً عند قوله:
إذا القَّوْمُ قالوا مَنْ فَتَى خِلتُ أنَني
عُنِيتُ فَلمْ أَكْسَلْ وَلم أتبََلدِ
وتارةً تأتي بعض نصوصه معبرة عن افتخاره بذاته من خلال نسبه المتصل بالأسلاف المميزين، وغايته تعظيم صورته. والهدف هنا “برهاني” لإقناع الاخر، كنصه:
وتَفَرَّعْنا مِنِ ابْنَيْ وائِلٍ
هامَةَ العْزَّ وخُرطومَ الكَرَمْ
مِنْ بَني بَكرً إذا ما نُسِبوا
وبَنَي تَغْلِبَ ضَرَّابي البُهَمْ
وقوله التالي أيضاً يصب في نفس المعنى، والذي يورد فيه شجاعة أحد آبائه عند نزاله للملك الغساني وتمكنه من قتله:
وأنمى إلى مَجدٍ تَليدً وسُورةٍ
تَكونُ تُراثاً عِندَ حَيٌّ لهالِكِ
أبي أنزلَ الجَبَّارَ عامِلُ رُمحِهِ
عَنِ السَّرجِ حتى خَرَّ بينَ السَّنابكِ
فهذا اللون من الفخر يعتبره عالم النفس هينز كوت أحد أعراض النرجسية حيث المصابين به يُعرفون «بميلهم إلى البحث عن المثالية في آبائهم أو ما يلي آبائهم من حيث المركز والعطاء».
أما ما يأتي لهدف سجالي قوله:
ولَستُ بِمِحلالِ التّلاعِ لِبِيتَةٍ
ولَكِنْ مَتى يَسْتَرفِدِ القَومُ أْرْفِدِ
وإن تَبْغِني في حَلقَةِ القَوْمِ تَلْقَنِي
وإن تَقْتَنِصني في الحَوانِيتِ تَصطدِ
ومن المحتمل كذلك، أن يكون فخاره بصدقه الشعري وحيازته الكاملة لجميع أشعاره وعدم سرقتها أو جُمل منها، يأتي من باب الدفاع أيضاً، وذلك بقوله:
ولا أغيرُ على الأشعارِ أسرقُها
عنها غَنيتُ وشَرُ الناسِ من سرقا
وإن أحسن بيتٍ أنت قائِلهُ
بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتهُ صَدَقا
هذا عن الحالة الدفاعية عن الذات والتوهم باستهدافها (بغير حق) كما يعتقده طرفة، ويستتبعها بالتالي نزوع نحو العدوانية والتي تمظهرت على كمية الهجاء في شعره. ومن هذا فقد توصل بعض علماء النفس إلى أن الأفراد غير المنضبطين الذين يتصفون عادة بالانفعالية وعدم الالتزام بالقيم الاجتماعية، يقومون بأفعال عدوانية متكررة. ويعاضدهم سيغموند فرويد بقوله: «كلما كانت عملية التطبيع الاجتماعية أكثر إحباطا للطفل الناشئ، زاد عنده الدافع إلى العدوان».
فشعور الإحباط من مجتمعه، وجع رافق شاعرنا من طفولته إلى شبابه، ثم إلى الحادثة التي أوصلته إلى نهايته ومقتله. حيث كان الإحباط ناشئاً من عائلته بحجبه ميراثه، وغياب العدالة التي يطالبهم طرفة بتحقيقها في العديد من أشعاره مثل قوله:
أدُّوا الحُقوقَ تَفِر لكم أعراضُكمْ
عُنِيتُ إنَّ الكَريمَ إذا يُحرَّبُ يَغضَبُ
ثم يأتي الإحباط من عدم مقدرته على التكيف مع مجتمعه لتباين الرؤى وتعنيفهم له بالتبذير واللهو، وآخرها تخليهم عنه وهو مسجون قبل نهايته:
أَسلَمَني قَومْي وَلَمْ يَغْضَبُوا
لِسَوْءَةٍ حَلَّتْ بِهِمْ فادِحَه
كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خاللَتُهُ
لا تَرَكَ اللهُ لَهُ واضِحهْ
كُلُُّهُمْ أَرْوَغُ مِن ثَعْلَبٍ
ما أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بالبارِحَهْ
إلى هنا واحتمالية فرضيتنا إصابة شاعرنا طرفة بالنرجسية تكون شبه محسومة، لكن بتقدمنا في استعراض باقي جوانب شخصيته بمحددات النرجسية، تجعل من فرضيتنا أكثر تماسكاً، وسنكتفي بسرد وتحليل ثلاثة أعراض حسب تحديدات علم النفس الاكلينيكي، ننتقيها ونختبرها من خلال أشعاره وسيرته.
١ – معاقرة الخمرة محاولة انفصال عن الواقع أم مظهر للتمرد:
في اقتصاد الندرة، حيث صحاري الجزيرة العربية المجدبة، وواحاتها القليلة، يمثل شرب الخمر حالة ترفية لارتفاع أثمانها قياساً على غيرها من السلع، وفي حالة طرفة المادية الصعبة، واقباله الكبير على اقتناءها يكون فعله مدعاة للتوقف والمساءلة كما فعل معه قومه:
وما زال تشرابي الخُمُورَ، ولَذتي
وبيعي وإنفاقي طَريفي ومُتلدي
إلى أن تحامتني العَشِيرةُ كُلها
وأفردتُ إفرادَ البعيرِ المُعَبدِ
فهو ينفق النفيس والغالي من أجل الحصول عليها حتى وإن اضطره ذلك إلى بيع إحدى نياقه وما تمثله من قيمة لابن الصحراء، لقايض بها الخمرة:
لا تَعِزُ الخَمرُ إن طافوا بها
بِسِباءِ الشَولِ وَالكُومِ البُكُرْ
فهذا الانسياق وراء شراء الخمرة بالرغم من ثمنها الباهظ الذي لا يستطيع توفيره من فائض ماله، هي في الحالة الطبيعية وغير النرجسية تعتبر حالة إدمان، ويمكن فهمها على أنها «تمثل لحظة الانفصال عن الواقع، حاملة معها الإحساس المريح (والمؤقت) لتهدئة النفس إزاء ما ينتابها من قلق وضيق». والواقع أيضاً، أن طرفة يعتبر الإسراف في شرب الخمرة مذمة؛ كما جاء في هجاءه لنسيبه عبد عمرو بقوله:
لَهُ شَربَتانِ بالنهارِ وأربَعٌ
مِنَ الليلِ حَتى آضَ سُخداً مُوَرَّما
ويَشربُ حتى يَغمُرَ المحضُ قَلبَهُ
تَرى نُفَخاً وَردَ الأسِرةِ أسحَما
لكن بالرجوع إلى بعض أقواله عن مجالس الخمرة واللهو وأهميتها لديه، ينكشف لنا الملمح الخفي وراءها والذي يمكن تأويله بأن ذلك جزء من افتخاره بنفسه، يستعرض بها للدلالة على عظم شأنه ومكانته وتعبير عن كرمه:
وإنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجَمِيعُ تُلاقِني
إلى ذُرْوَةِ البَيْتِ الكَريمِ المصَمَّدِ
ندامايَ بِيضٌ كالنُّجومِ، وقَيْنَةٌ
تَروحُ عَلَيْنا بَيْنَ بُردٍ وَمُجْسَدِ
وهذا لا ينفي تعبيره عن استطابته شربها، لكن يقرن هذا القول بإظهار كرمه أيضاً، وإن كان على نفسه، كما في قوله:
كَريمٌ يُرَوَّي نَفسَهُ في حَياتهِ
سَتَعْلَمُ، إن مُتْنا، صَدَى أيُّنا الصَّدِي
وإذا كان الهدف من تباهيه بشرب الخمر يكمن وراءه إبراز للذات والتباهي بها، وهو عرض نرجسي، فمن المحتمل أن تكون الخمرة وسيلة تمرد أراد بها مقارعة مجتمعه الذي يعيبه عليها؛ حيث المصاب بالنرجسية يبالغ في إظهار العجرفة، وعدم الاكتراث لمعايير السلوك المشترك، وإن المصابين بهذا الاضطراب – كما يقول علم النفس - يشعرون بأنهم فوق أعراف وتقاليد وأخلاق الثقافة التي ينتمون إليها، كما يرفضون التغيير والتوجيه من قبل الآخرين طالما أنهم يعتقدون بالكمال. من جهة أخرى، قد يكون للخمرة اسهامها الكبير في تعزيز اصابته بالنرجسية، وإلى فشله في التكيف مع مجتمعه، لأنها تجعل الإنسان «ميالاً إلى التأمل، كما تجعله مستقلاً، وكلاهما ينزع لخلق شخصية مستقلة غير مقيدة، وكثيراً ما يعسر عليها أن تتلاءم مع عالم الناس العادي المألوف».
٢ – الترحال كمظهر لعدم الاستقرار النفسي:
وإني لأمضي الهَمَّ عِنْدَ احتِضارِهِ
بِعَوجاءَ مِرقَالٍ، تَرُوحُ وتَغتَدي
عندما نريد رسم خريطة تجوال طرفة ومسارات ارتحاله، فهي تجوب بنا مساحات شاسعة من الأراضي والبقاع، ومسافات إن حاولنا قياسها بسنوات حياته القليلة فسوف نصل إلى نتيجة عدم استقراره سوى أيام معدودات في كل موطن أناخ فيه راحلته، بما فيها وطنه. فإذا استثنينا الحيرة في العراق، واليمامة، فترحاله قاده «إلى اليمن، ثم إلى النجاشي في الحبشة أيضاً»، كما تشير بعض المصادر.
فعدم الاستقرار في موطنه باعثه القلق أو “الهم” كما عبر عنه طرفة في بيته السابق، وهو ناشئ إما من عدم مقدرته على التكيف مع محيطه الاجتماعي بسبب شكواه من مراقبة مجتمعه له وتشنيعهم على حياة الترف والمجون التي يحياها من جهة، أو من سوء وضعه المالي الذي يعتبر عائلته مسؤولة عنه نتيجة حرمانه إرثه، فيسعي بترحاله إلى تعويضه واكتساب معيشته بواسطته. فهذا الوضع أوجد في نفسه القلق، وعلم النفس التحليلي برأي الدكتور سالمان واندرسون يفترض أن عاملي «عدم الإحساس بالطمأنينة وعدم الرضا عن المكانة الاجتماعية هما سمتان من سمات النرجسية».
أما لو كان في حالة نفسية مستقرة، فهو بالتأكيد سيرفض هذا التطواف المنهك، لأنه في عمق شعوره يعتبر التغرب عن الموطن بمثابة المعادل الموضوعي للموت، كما في قوله:
وَلَيْسَ امْرُؤٌ أَفنى الشَّبابَ مُجاوِراً
سِوى حَيَّهِ إِلا كآخَرَ هَالِكِ
٣-نهايته المأسوية، عدم خبرة في الحياة أم فرط اعتداد بالذات:
مثلت حادثة مقتل طرفة قمة تأزم الحكاية التراثية بإشفاقها على مصيره الذي ترى أنه كان بإمكانه تفاديه، لكن ما ليس بمقدورها حينها، هو تفهم حقيقة دافعيته سلوكه، وهذا ما نحاول قراءته لاستكمال سرديتنا. فلنمضي إلى الحكاية:
ذات يوم وعندما كان عبد عمرو بن بشر – نسيب طرفة وابن عمه – منادماً للملك عمرو ابن هند، نظر الملك إلى كشح عبد عمرو (قوام جسده) وقال: لقد أبصر طرفة حسن كشحك حيث يقول: «أنّ له كَشْحاً إذا قامَ أهْضَما...»، أي تشبيه له بقوام المرأة. وفي لحظة انفعالية ندم عليها، أراد عبد عمرو أن ينتقم فيها من سخرية الملك، فما وجد حينها في ذاكرته سوى أبيات قالها طرفة من قبل هجا بها الملك، والتي يقول في مطلعها:
لَيتَ لَنا مَكانَ المَلكِ عَمروٍ
رَغوثاً حَول قُبتنا تَخورُ
وبالرغم من منح العفو والأمان لطرفة وقتها، إلا أن عمرو بن هند حفظها في نفسه وأجل الانتقام من طرفة إلى حين. واتته الفرصة عندما قدم عليه طرفة وخاله المتلمس، الذي هو الآخر قد هجا الملك عمرو بن هند من قبل، وأراد عمرو أن ينتقم منهما، فكتب كتابين إلى عامله في البحرين أوهمهما أن فيهما جائزته. بعدها تختلف الروايات فيما تلا هذا الموقف من أحدث انتهت بنجاة المتلمس ومقتل طرفة. ولكن جميع المرويات تشير إلى شك المتلمس في نوايا الملك عمرو بن هند فاطلع على خطابه وقرأ ما فيه من أمرٍ بإعدامه فمزقه وهرب إلى الشام. أما طرفة فلم يساوره الشك في فرصتين: الأولى من تحذير خاله، والثانية من تحذير عامل الملك عمرو على البحرين وطلبهما منه الهروب للنجاة بنفسه. هنا تكتفي المرويات بنعت قلة خبرة طرفة وذاك لحداثة سنه، ونحن يمكننا الانطلاقة من هذين المؤشرين وربط حالة الوثوقية المفرطة من قبل طرفة اتجاه نفسه، وأنه لا يمكن أن يُغدر به، ووصل ذلك بالنرجسية. فمن المظاهر الاكلينيكية لاضطراب الشخصية النرجسية كما يراها الدكتور سالمان واندرسون، أن المصاب بها يعاني من «ضعف الانتباه تجاه الظواهر الموضوعية للأحداث، ويميل إلى تغيير معاني الواقع عندما يكون تقدير الذات مهدداً». لهذا استشعر طرفة عند تحذير خاله له أن ذاته باتت مهددة، مما أدى به إلى انكار الواقع والتعامي عنه. فبحسب إحدى المرويات أن المتلمس قال لطرفة: «تعلمن والله أن الذي في كتابك مثل الذي في كتابي، فقال طرفة: لئن كان أجترأ عليك ما كان بالذي يجترئ علي، وأبي أن يطيعه».
فهل أدت إصابة طرفة بن العبد بمرض النرجسية إلى موته المبكر ونهايته المأساوية؟ هكذا هي سرديتنا، وبخلاف الحكاية التاريخية، هي مجرد اجتهاد وتبقى مفتوحة على المزيد من القراءات والتأويلات.
الخاتمة:
وفي ختام هذه الورقة، أرى أن رموزنا الأدبية – وطرفة بن العبد أحدهم - لا تسعها قراءة واحدة، بل هو مشروع ثقافي مفتوح على الزمن بتعاقب الأجيال، ليروا فيه ما يثيرهم ويجذبهم، من أجل استدامة تلك الدهشة المبكرة التي لمعت ذات دهر في عيون معاصرو تلكم الرموز. وأن الإبداع الأدبي الخالد ليس مجرد أثر من الأثريات التراثية، فهو يدوم ويبقى حاملاً معه تاريخه الأصلي أو عالمه الذي انحدر منه، ولا يستند في بقائه على طابعه الوثائقي، إنما على صداه الذي يتردد في وعي الأجيال التالية، كما يقول جادامر.
وأخيراً، إن عزاؤنا لتحاملنا قليلاً على شاعرنا المأسوف على حياته - طرفة- وإرجاع الخلل في شخصيته وغرابة سلوكه إلى أعراض النرجسية، هو أن علم النفس يقول أيضاً، وبتقرير من رائديه، إريك فروم وسيغموند فرويد: أن «النرجسية بحد ذاتها مرحلة وراثية تنتقل من أحد الأبوين أو الأقارب». بمعنى أن إصابة طرفة بالنرجسية قد تكون نتيجة لقدر جيني، وأن عبقريته الشعرية التي ولد بها هي إحدى محفزات النرجسية. هكذا نتمنى، لتبقى صورة طرفة في وجداننا عظيمة، كعظم منجزه الشعري.
جديد الموقع
- 2024-11-14 البلدية والإسكان والبريد السعودي سبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية
- 2024-11-14 السير الذاتية وتابوهات المجتمع
- 2024-11-14 في ديوان «هاجسُ الريح»لهاني الملحم.. ما نتوقعه من الشعر، وما تعد به القصيدة.
- 2024-11-14 يمثل الأحساء والمنطقة الشرقية في البطولة نادي وأكاديمية بادل بول إلى نهائيات دوري بارنز السعودي للبادل
- 2024-11-14 افراح الأجود و البجحان تهانينا
- 2024-11-13 هل يُطاع الله من حيث يُعصى؟
- 2024-11-13 سمو محافظ الأحساء يستقبل رئيس وأعضاء اللجنة الوطنية للنقل باتحاد الغرف السعودية
- 2024-11-13 تحالف الأسودان ، خلاص الحسا وسكري القصيم
- 2024-11-13 زواج ثنائي "المجحد والعوض تهانبنا
- 2024-11-13 مركز الملك سلمان للإغاثة يشارك في معرض "واحة الإعلام" بالتزامن مع استضافة المملكة للقمة العربية والإسلامية غير العادية في الرياض