أقلام وكتابات
2024/04/21 | 0 | 1526
الداخل مفقود والخارج مولود - مثلث برمودة النفسي
المجتمع والأسرة
كما علمنا وقرئنا الكثير عن مكان في الأرض يُسمى مثلث برمودة ،وحيث أنه مثلث تنقطع فيه الإشارات اللاسلكية والأقمار الصناعية لاتعمل به وحتى لا أحد يعلم أكثر عنه سوى قصص يذكرها الكثيرون من أحداث تناقلوها وسائل الأعلام،وفي ظروف جداً غامضة،أو من مخيلاتهم،ولا أحد يعلم عن حقيقة هذا المثلث سوى أنه "الداخل مفقود والخارج مولود".
مثلث برمودة الحقيقي هو أنه حسب ماسمعنا من القصص أنه حتى السفن والطائرات والبشر الذين يعبرون حول هذا المثلث لايعودون ولا أحد يعلم عن مصيرهم ولا أحد يعلم سوى أنهم فقط أقتربو من هذه البقعة فأختفو تماماً،وليس لهم أثر في الوجود يذكر..
ففي هذا المثلث يتوقف الزمان ،وتتوقف الروايات وتتوقف الحكايا،ويتوقف كل شيء،ولا أحد يعلم عن أي شيء في هذا المثلث لا قبل ولا بعد،ولم يأتي أحد ليحدثنا ماذا بعد..
أنا في روايتي وقصتي هذه فأتحدث عن مثلث برمودة الصحة النفسية ،حيث يوجد قسم "تنويم رجال الحالات المزمنة"والذي فيه يتوقف الزمان منذ لحظة الدخول لهذا التنويم وفي هذا القسم على وجه الخصوص،وتتوقف عقارب الساعه عن العمل،وتتوقف الحياة بأكملها،حيث لو نسئل بعض المرضى متى دخلت في هذا القسم بعضهم يقول منذ عام 1410 وبعضهم يقول منذ عام 1405 وبعضهم يقول منذ عام فقط لا أتذكر بس من زمان كثيرررر و بعضهم يقول لا أتذكر أي عام وليس لدي أي فكرة كيف جيت ولا من أحضرني إلى هنا..
ولو حدثنا أحد أبطال المرضى الذين يتمتعون ببعض الترابط الفكري والقليل من الترابط النفسي،عن لحظة دخوله وشعوره وأحساسه في أول مرة كُتب فيها تاريخ دخوله وتنويمه،وماهو آخر شيء فعله قبل دخوله،وماهو أخر مايتذكره خارج أسوار مثلث برمودة..
لو سئلت أحد المرضى الذين يقطنون هذا المستشفى هل تتذكر تاريخ دخولك. ؟
نعم أنني أتذكر أن لي تقريباً أكثر من 35 عاماً في هذا المكان القاتل،والذي أكثر مافيه حياة هي جدرانه الطويلة وخرسانته المتينة وأتذكر جيداً بأنني دخلت على قدماي وأعلم علم اليقين بأنني لن أخرج من هنا على قدماي،بل على نقالة ومنها إلى ثلاجة الموتى ولدت لأُنسى وسوف أموت ليرتاحون مني..
توقفت الحياة ،الحياة في الواقع تتوقف هُنا في هذا القسم ،ولا يكاد شيئاً يتذكرونه المنومين في هذا القسم سوى الروتين القاتل،والموت البطيئ،وحالات الوفيات التي تحدث منهم وفيهم،أي من زملاؤهم الذين عايشوهم سنوات طويلة،ولربما أصبحو أكثر أماناً لهم من أُسرهم وعائلاتهم،ولربما لايتذكرون إلا هؤلاء الذين أصبحو لهم أخوة وأهل وعزوة و سند،وأصبحو مرتبطين فيهم أرتباط قسري،ربطتهم ظروف الحياة ولكل منهم قصته الخاصة..
الحقيقة والواقع يقول :
في هذا المثلث الجغرافي المترامي الأطراف،لايوجد سوى جدران خرسانية،و غرف خرسانية،ونوافذ صامتة لايمكن فتحها،وعليها شباك حديد،وشباك ألمنيو ساتر،ولايوجد تهوية وأوكسجين طبيعي يدخل في هذا القسم إلا عبر بلكونة الحديقة،تلك البقعة الخرسانية والتي تسمى حديقة وهي تخلو من المعنى والزراعة وتخلو من الأشجار،تراب عفى عليه الزمان،وسجلت عليه أروع الذكريات،وداعبته الرياح تارة،وداعبته أيدي بعض المرضى الذين رحلو تارة أخرى،لايوجد حتى مناظر تربطهم بأي شيء خارج هذه الأسوار التي كُتب على جدرانها إنا ههُنا قاعدون..
مثلث برمودة النفسي،هو أشبه بذلك المثلث الذي سمعنا عنه الكثير من القصص والخيالات ولك أن تطلق معي الخيالات وتتخيل،أن الذين عبرو بجانبه سحبهم التيار والدوامة،وأخذتهم الجاذبية،ودخلو هذا المثلث ولا أحد يعلم عن مصيرهم،وعن حياتهم،وعن ظروفهم،هل هم أحياء،هل يأكلون،هل يشربون،هل يعلمون كم الساعه الآن.. ؟ هل يعلمون كم لون في الحياة غير الأبيض والأسود،هل يعلمون أن لهم عوائل و أسر ولربما أبناء وأخوة،وأهل،ساهمو في دخولهم دوامة مثلث برمودة،و هرعو بكل سرعه للأبتعاد عنهم،وتركهم وحيدين في منعزل الحياة،في أروقة المثلث النفسي،الذي فيه وجدو أنفسهم مع واقع مرير مرير جداً للتعايش معه..
مثلث برمودة النفسي في واقعنا ،قصص وحكايا وألام وجِراحات نازفة منذ أعوام طويلة،ولم تجد اليد الحانية التي تمسح عليها لتبريها،ولم تجد الأذن الصاغية التي تسمعها لتشفيها،ولم تجد الكلمة الحنونة التي فقدوها ولم يجدو سوى سهام غدر الحياة في خاصرتهم،حتى أصبحو مشردين في دهاليز مثلث برمودة النفسي،يقتاتون على وجبة الغذاء في الفطور والغداء والعشاء،والتي فقط تبقيهم أحياء يتنفسون،وقلوبهم تنبض بكل ماتعنيه الكلمة(اه ، اه ، اه ) لعلني أستطيع أن أكمل سطوري وأنا في حالة صحية بلا دموع وبلا عاطفة،أحاول فقط أن أضع ماعشته بلا كثير من المجملات..
أتمشى في دهاليز هذا القسم في المناوبات الليلية ،ولا أسمع سوى صوت هدير المياه المتسرب فقط،والساعات القاتلة والبطيئة هي من تحكم المشهد،هي من تحكم أرض القسم ،لاحياة ولا صورة معلقة على جدار تذكرني وتربطني بخارج هذه الزنزانة اللعينة،ولا تمثال يربط ذاكرتي بالمجتمع والشارع والمدرسة والجامعة،ولا لوحة تربط الماضي بالحاضر والمستقبل،كل ماأراه هي جدران مبرسلة بالبرسلان الخاص وجزأ من الجدران مصبوغ باللون الأبيض فقط،وأرضيات جلدية من الفينيل،وسقف مستعار من الديكور وفتحات تكييف مركزي يهب ببرودته بعض الأحيان،وأبواب لغرف ومستودعات طبية مغلقة بأقفالها وجدران مؤصدة بأرتفاعاتها وعرضها..
أتجول في هذا القسم لأرعى بعض المرضى في المناوبات الليلية وأحيان للوقوف على راحتهم،ولا أتذكر شيئاً سوى أن هذا المكان خانق جداً،وقاتل جداً،ومميت ويفتقد الحياة وروح الحياة النابضة،ولا أستطيع وصف سوى أنه لايوجد في هذا القسم سوى الصمت المطبق،وأن الثواني فيه أيام والشهور عبارة عن عقود طويلة من السنوات،ولا يوجد صوت جديد في هذا المثلث سوى صوت التلفاز وصوت المرضى مع بعضهم المرضى،والذين أعتادو سماعه مع بعضهم حتى أن بعضهم كفيف البصر فأصبح يميز صوت مريض اخر من مريض اخر،وممرض آخر من ممرض آخر..
أعلم بأن بعض المرضى لديهم مخاطر ومخاطر جداً عالية و كبيرة ،ولكن يبقى الأهل والعائلة والأسرة بالعناية والرعاية الصحية،لمن لديهم القدرة تصبح جزأ كبير من العلاج النفسي،و تصبح جزأ كبير ومكمل للعلاج الدوائي،ولكن فقدان هذا الدور الأسري والأجتماعي يُصبح مسبب كبير جداً لعدم تجاوب المرضى للعلاج والأنتكاسات المتكررة،والتي بها تجعلهم مقيدين الحرية،ولن أخوض كثيراً في هذا الجانب..
حتى أن الصور تشابهت ،وتحددت معالمها في عيون من يدخل هذا القسم،أقصد هذا المثلث،ولن يستطيع أن يرى طوال حياته التي يكتب الله له أن يعيش سوى عدد محدود من الصور (ثوب أزرق نيلي،سرير ،غطاء،مخدة،دورة مياه،تلفزيون،حذاء جدار،نافذة،باب،ممرض) ،هل تتصور أن تقضي 35 عام من عمرك أو 40 أو 50 عام من عمرك على هذه الصور فقط،وهذه السمعيات التي تسمعها طوال العقود التي أنكتب عليك فيها أن تدور في دوامة مثلث برمودة.. اه كم هي مؤلمة هذه الكلمات،وهذه السطور وأعلم علم اليقين بأنك سيدي القارئ لن تستطيع أكمال هذا المقال،ولن تستطيع أن تقرأ أكثر مما قرأت،لأن الحدود التي وضعتها في هذا المقال هي الحدود التي شاهدتها وعشتها ولذلك أصبحت حدود مقالي والدنيا فسيحةو سعى..
في كل حياتهم برمجت على الحدود في الصور،وحتى الكلمات،وحتى الأسئلة،وحتى الأفكار،وحتى الآمال ،كل شيء في أنفسهم وعقولهم أصبح له حدود،وهل يستطيع أحد منا أن يعيش حياته 40 عاماً فقط يمشي 50 خطوة في اليوم..! ولا يعرف عن التقنية والتكنولوجيا شيء،ولايعرف عن الشارع والسيارة وأنه يوجد أشجار ويوجد طرق وكباري ويوجد مدينة،وفي تلك الليلة صارت عاصفة،وفي تلك الأوقات صارت حرب،أو ظرف أستثنائي..
ولو حدثت أحدهم هل تعلم أن النساء يقودون السيارات،وأصبحو يسيرون في الطرقات،وأصبحو موظفات في غالب أجهزة الدولة. ؟
من المؤكد بأنها تصبح صدمة له،ولو قلنا لأحدهم هل تعلم أنه يوجد هناك برامج ذكية تستطيع أن ترى وتسمع وتحدث أي أحد في العالم وأنت في مكانك. ؟من المؤكد أنه لن يصدقك،بل سوف تكون بالنسبة له صدمة و صدمة كبيرة جداً لن يستطيع تحملها،السنين توقفت لديهم،والساعات توقفت،ولايذكرون أي شيء سوى أنهم محاطين بأسوار وفي مشافي نفسية للعلاج،وليس لديهم الكثير من الوقت ليعيشونه ،وليس لديهم الحلم والطموح ليعيشون من أجله،بؤساء فقدو المسار وهم أحياء وظلت بهم الطرق لتضعهم على خارطة مثلث برمودة النفسي..
سؤال واحد فقط يتكرر في ألسنتهم ،ويداعب مشاعرهم ومخيلاتهم،وأحاسيسهم ويمنحهم حفنة أمل في مثلث البؤس واليئس (مافيه لي زيارة. ؟)،(مافيه حد سئل عني. ؟) ،(مافيه أتصال جاني. ؟) هذا فقط ماحفظوه وحفظته أنا معهم عن ظهر غيب وإجابته بشكل دائم ومكرر،وبشكل مستمر،أعلم أنها لن تسعدهم ولن تسرهم ولكنها الحقيقة.. للأسف ياأخوي حنا أهلك وحنا أخوانك،و مافيه حد زائر لك،مافيه حد سئل عنك،مافيه حد أتصل فيك..!
إلا بعضهم جا حد وسئل عنه بس لغاية وحدة وهي غاية مالية(مراجعة الضمان الأجتماعي،حساب المواطن،التأهيل الشامل،وكالة شرعية لسحب مستحقاته،أو ثرواته،أو ممتلكاته)وللأستيلاء على ماتبقى من هذه الجثة التي توفيت واقفة،توفيت معنوياً وأجتماعياً ونفسياً..!
أقضي 8 ساعات مناوبة مرات مناوبات صباحية،ومرات مناوبات مسائية في العصر ومرات مناوبات ليلية،وجميع المناوبات بائسة تفتقد للأبتسامة،وتفتقد للحياة،وتفتقد لعنصر الإيجابية،وتفتقد للضحكة التي منها تستطيع أن ترسمها على محياهم،وتجعلهم سعداء،وتحاول تعوضهم عما فات من سنواتهم،وتحاول أن تساهم في بقائهم أحياء مكتفين بأنفسهم ولو تخلى العالم جميعه عنهم وأقربهم عوائلهم،الدولة لم تتخلى عنهم،بل أخذت على عاتقها رعايتهم والأهتمام بهم وأوكلت كل هذه المهام لنا لنرعاهم،ولكن تتبقى نواقص غير الرعاية الصحية،هي الحياة الأجتماعية والأسرية والمعنوية والتي جميعها توقفت ،وأنتهت،وكأنه كتاب دون في آخر صفحاته(الخاتمة)..
والله لا أعلم الكثير عن مثلث برمودة الذي عايشوه قائدي الطائرات وأختفت طائراتهم وأختفو معها ،ولا أعلم الكثير عن قصص ذالك المثلث،ولكنني عشت في مثلث برمودة النفسي،ووجدت نفسي تائه،ضائع لا أعلم كيف أبدأ مع أشخاص أنتهو وأنتهت بهم الحياة لتضعهم على خارطة النسيان،ولا أعلم كيف أقدم لهم منحة تجود بها نفسي وتعزز في داخلهم الأمل وتشعرهم بأنني هنا أخدمهم ولكن قدراتي وطاقتي ضعيفة،وقليلة وبسيطة،وأمكانياتي وحدود مهامي تكاد تكون معدومة،ولا أعلم كيف أستطيع أن أتفوه بلساني بعض الكلمات التي لو نطقتها تحييهم وتهز أرواحهم من الداخل وتبقيهم يصارعون أمواج الحياة العاتية،التي رمتهم على صخرة مثلث برمودة..
أعذروني لم أود أن أتطرق لموضوع بهذه الحساسية وبهذه الواقعية ،ولكني أعاني كما هؤلاءالبشر يعانون،وأصبحت أرى أنهم أحياء وبالأمكان الأستفادة من طاقاتهم،ولديهم الكثير ليقدمونه في هذه الحياة،و لديهم الكثير ليحلمون به غير (علاج للنوم،وسرير ومرتبة وغطاء وثوب نيلي أزرق،ومحيط لايتعدى 50م)،ألايستطيع أهاليهم وأسرهم وعوائلهم أن يبقونهم في منازلهم ولو برعاية صحية ك الظل وفرتها لهم الدولة والقيادة الرشيدة، ك سائقين وممرضين ومساعدين صحيين،ووفرت لهم كل الأدوات وسخرت لهم الخدمات التي تجعلهم بصحة وعافية ورعاية آمنة،ألايستطيعون أهاليهم وأقاربهم أن يتبنون وجودهم في حياتهم ومجتمعهم ليشاركوهم مرضهم وفرحهم و حزنهم،أم هي الحياة التي ضاقت برحابها في أعينهم حطت بهم على قارعة طريق مثلث برمودة النفسي..
في هذا البقعة لايوجد أي نشاط ترفيهي ،ولا يوجد أي نشاط رياضي،ولايوجد أي نشاط يقوم به المريض لينظم مزاجه،وحياته،وروتينه اليومي،ولايوجد مايحافظ به على قوته و قدراته في هذا القسم،لتمنحه نشوة الفوز على منافسة الحياة التي ظلمته،ومنافسة الظروف التي حكمت عليه بالبقاء تحت سقف مثلث برمودة النفسي.
بعد أزدياد حالات الأمراض النفسية ،والطلب المتزايد على الأستشارات والخدمات الصحية النفسية،أصبح علينا التفكير خارج الصندوق،والبحث بشكل جدي وكبير عن حلول و تستطيع وزارة الصحة أن تبدأ بدراسة وضع هذه الأقسام،وتبدأ بدراسة فعلية ومن الواقع لبحث طرق تعزيز حياة هؤلاء المرضى في بيئة فاعلة وبيئة تمنحهم حياة وتعزز في نفوسهم أنه يوجد الأمس واليوم والغد المشرق،وتوجد شمس وأن شمس الغد قد تشرق في حياتهم و تضيئ في أعينهم صور جديدة غير الأبيض والأسود،لن أطيل الحديث ولكن الواقع يتحدث،وبعيداً عن المجاملات وعن تزييف الوقائع،الواقع كفيل بأن يشرح أكثر مما قلته وتحدثت به،في هذه السطور البسيطة..
جديد الموقع
- 2024-12-19 (قصة عجائبية من المخيال الاجتماعي الشعبي) (حلال المشاكل...القصة التي حفظتها أمهاتنا عن ظهر قلب)
- 2024-12-19 جمعية ابن المقرب تحتفي باللغة العربية في يومها
- 2024-12-19 سلطة النوع الأدبي وقراءة النص
- 2024-12-18 لماذا يتفوق الطلاب على الطالبات في مادة الرياضيات؟: وكيف يمكن تضييق الفجوة بينهم في هذه المادة
- 2024-12-18 الغذاء السيء لكل من الأم والأب قد يؤثّر سلبًا ويسبب ارتفاع الضغط وأمراض الكلى المزمنة في نسلهما إلى الجيل الرابع
- 2024-12-18 ورشة المرأة في اللوجستيات _ بمؤمر سلاسل الإمداد و الخدمات اللوجستية بالرياض
- 2024-12-18 جامعة الملك فيصل بالاحساء تحقق المركز الثالث في قياس التحول الرقمي لعام 2024 على مستوى قطاع التعليم والتدريب
- 2024-12-18 سمو محافظ الأحساء يدشن "برامج أكاديمية ريف السعودية"
- 2024-12-18 الأحساء.. وجهة سياحية تنبض بالتاريخ والطبيعة الخلّابة
- 2024-12-18 اللغة العربية في التعريب