2012/02/19 | 0 | 5523
التوحيد في العبادة ...إشكالية المفهوم والمصداق -3
التوحيد في العبادة ...إشكالية المفهوم والمصداق -3
معاني العبادة في اللغة والقرآن :
قلنا فيما سبق أن أهل اللغة ذكروا أن العبادة لها معان متعددة وهي كما مرّ :
1- الخضوع والذل .
2- أو مجرد إظهار التذلّل.
3- أو بمعنى اللين والذل .
4- أو بمعنى الطاعة .
إن أياً من هذه التعاريف لوحدها لا تعطي معنى تاماً للعبادة ، فكل واحد منها يشكل افتقاراً ونقصاناً في مفهوم العبادة .
أما العبادة في القرآن فقد جاءت بمعانٍ متعددة أيضاً وهي :
1-العبادة بمعنى الخضوع والتذلل ، كقوله تعالى : {أَنُؤمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} . أي خاضعون متذللون .
ومنه قوله تعالى : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ}. أي جعلتهم خاضعين لا يتجاوزون عن أمرك ونهيك .
2-العبادة بمعنى الطاعة، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} يس: ٦٠ . فإن عبادة الشيطان المنهي عنها في الآية المباركة إطاعته.
{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيًّا} مريم: ٤٤. فقد قابل العبادة هنا بالمعصية وهي الطاعة .
وجاء في حديث الإمام الصادق (ع ) حيث قال : (من أطاع رجلا في معصية فقد عبده)[1].
وعن الإمام الرضا : (... يا ابن أبي محمود لقد اخبرني أبي عن أبيه عن جده عليه السلام ان رسول الله (ص) قال: من اصغي إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس ...)[2]
3-العبادة بمعنى التأله: ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} . وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ}.
ومنه قوله تعالى لنبيه عيسى {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}
والعبادة تكون بالاختيار لذوي النطق , وبالتسخير لغيرهم , مثل قوله تعالى :
{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَـٰنِ عَبْدًا} (مريم-93).
وقوله تعالى {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (الرعد 15).
وللعبد أربعة معان:
1 ـ العبد بالرق مثل قوله تعالى : {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} (النحل 75).
وجمعه العبيد مثل قول رسول اللّه (ص): من خرج إلينا من العبيد فهو حر[3].
2 ـ العبد بالإيجاد وأوضح مثل له قوله تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مريم 93).
ويجمع -أيضا- على العبيد مثل قوله تعالى : {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (الأنفال 51).
3 و4 ـ العبد بالعبادة والخدمة ويقال له العابد أبلغ وينقسم إلى قسمين:
ا ـ عبد للّه مخلصا وحقيقة وجمعه : العباد، مثل قوله تعالى في ما حكاه عن موسى وفتاه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} (الكهف 65).
ب ـ عـبد للدنيا يعكف على طلب الدنيا، ويجمع على العبيد مثل قول النبي (ص): (تعس عبد الدرهم وعبد الدينار)[4].
ولما كان الرب تصدر منه الأوامر والنواهي لهداية الناس يقال لمن أطاعه عبد الرب يعبده عبادة وهو عـابـد, أي أطاعه ويـطيعه وهو مطيع للرب, ولما كان الإله بمعنى المعبود, وتجرى له الطقوس الدينية يقال : عبد فلان الإله يعبده عبادة فهو عابد أي أجرى الطقوس للإله .
فعبادة الإله الخالق جلّ وعلا: إجراء الطّقوس الدِّينية له مثل إقامة الصَّلاة وأداء مناسك الحجِّ وصيام شهر رمضان.
وعبادة الاصنام: إجراء الطّقوس الدِّينية لها.
وعبادة الرَّبِّ: إطاعة الرَّبِّ، لانّ الرَّبَّ هو المربِّي الذي يسنُّ نظام الحياة لمن يُربِّيه. فمعنى قولنا لربِّ العالمين: (إيّاكَ نَعْبُدُ): نطيع أوامرك لهدايتنا إلى الصِّراط المستقيم.
الخضوع لغير الله هل يعد عبادة ؟
هل أن مطلق الخضوع يعد عبادة؟ وهل نهى الله عنه أو أمر به ؟
للإجابة على هذا يحتاج أن نعود إلى القرآن الذي هو المرجع الأساس لتحديد المفاهيم القرآنية وإذا ما رجعنا إليه وجدنا ما يلي :
1-الأمر بالخضوع والذلة أمام الوالدين :
{واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمة} (الإسراء/24).
(اخفض) صيغة أمر دالة على وجوب التذلل أمام الوالدين ، فكيف يأمر بالتذلل لهما ثم يكون هذا التذلل عبادة لهما ؟! بل أن خفض الذل لهما من الإحسان الذي قابل به الله تعالى العبادة في قوله تعالى ( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴿الإسراء: ٢٣﴾
2-السجود للأنبياء كما حدث لنبيين ، أحدهما ما حدث لآدم عليه السلام من أمر الملائكة بالسجود له : (وإذْ قُلنا لِلمَلائِكةِ اسْجُدوا لآدَمَ) (البقرة/34)
وثانيهما: ليوسف عليه السلام وتحقق رؤياه : (إنّي رأيتُ أحدَ عشَر كوكباً والشَّمسَ والقَمَر رأَيتُهُمْ لي ساجِدِينَ) (يوسف/4). كما يحكي تحققه بقوله سبحانه: (ورَفعَ أبَويهِ عَلَى العَرشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقالَ يا أبَتِ هـذا تَأْويلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلها رَبِّي حَقّاً} (يوسف/100).
فهل سجود الملائكة لآدم يعدُّ عبادة له ؟
وهل سجود أخوة يوسف مع أبيهم عبادة ليوسف ؟
ولا خلاف في أن السجود خضوع لهم ، ولكن هل هذا الخضوع عبادة؟
ولو أقر بأن السجود خضوع – كما هو الصحيح – كان عمل الملائكة وأخوة يوسف عبادة .
3-التذلل للمؤمنين:
{فَسَوْفَ يأْتِي اللهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذِلَّة عَلَى المُؤْمِنينَ أعِزَّة عَلى الكافِرينَ} (المائدة/54).
فإن المؤمنين يتذللون للمؤمنين ولا حرج في ذلك .
والخلاصة : أن مجرد الخضوع والتذلل لا يعدّ عبادة وإلا اعتبرنا جميع المؤمنين الذين يتذللون لمؤمنين آخرين عابدين لهم ، بل أن خضوع الولد لوالديه عبادة لهم وكذلك الخضوع الذي ليس بعده خضوع أمام الحكام والرؤوساء وخصوصاً الطغاة منهم فلا يتنفس ولا يتكلم ولا ينظر إليه إلا بكل أدب واحترام وإجلال بل إن دخوله عليهم كدخوله على الله من شدة خضوعه والتذلل أمامهم، فهل أن هذا الخضوع هو الخضوع الذي يعدّ عبادة أو أن سلاطين الجور لا مشكلة في الخضوع والخنوع لهم طمعاً في مالهم وخوفاً من بطشهم !! وهذا يخرج الموضوع عن دائرة العبادة .
جديد الموقع
- 2024-12-03 الحضور الأدبي في فكر الأديب
- 2024-12-03 إيلون ماسك والقراءة
- 2024-12-03 قراءة في كتاب (مزاج الكتابة، الكتابةمفهوما، ومزالق، ومقومات)
- 2024-12-02 بر الفيصلية وحي الملك فهد ومسجد الإمام الصادق في رحلة بحرية.
- 2024-12-02 كيف يتعامل الأطفال مع الشائعات وماذا نستفيد من ذلك؟
- 2024-12-02 حُب الحسا أجنني إلى كل مسؤولٍ رسميٍ، وناشطٍ اجتماعيٍ وتفاعلي بالتأثير..
- 2024-11-30 ثلاثة يجب الحذر منها
- 2024-11-30 "جمع من شيعتنا ومحبينا".. إيمان وأُنس
- 2024-11-30 هل نبحر نحو الهلاك؟
- 2024-11-30 إلى أمين الأحساء مع التحية سعادة المهندس: عصام الملا (سلمه الله)