2024/08/15 | 0 | 770
الذاكرة المكتظة. رواية «حجر وليال عشر» للقاص عبد العزيز الجاسم مثالاً..
اليمامة
للقراءة الببليوجرافية لمواضيع الرواية السعودية أن تقودنا إلى حقيقة اهتمام كتابها بذاكرتهم الشعبية واشتغالهم على حفظها من خلال الرواية والقصص القصيرة أيضاً. فحصة الاحالات الماضوية في نسيجهم السردي تحظى بنسبة وازنة مقارنة بباقي المواضيع السردية الأخرى. هذا من جهة الكاتب، وعند المتلقي يكتسب السرد صفة المشاركة في انتاج المفهوم؛ عندما يكون موضوعه مستمداً من صميم الحياة الاجتماعية الواقعي. هنا يصبحُ ذهنُ المتلقي للعملِ، ومنْ خلالِ المخيلةِ، فاعلاً في عمليةِ استبطانِ الأحداثِ، ومشاركا كذلكَ، في وضعِ السيناريوهاتِ الممكنةِ لانفراجِ الحبكةِ الدراميةِ وانحلالها. فيمكنهُ حينئذٍ، ممارسةُ عمليتيْ الإبدالِ والإحلالِ عندما ينظرُ منْ زاويةٍ أخرى للمشاهدِ المكتوبةِ بناءً على تجربتهِ الشخصيةِ. وهذا ما يتجلى بوضوحِ في العديدِ منْ الأعمالِ الدراميةِ المحليةِ، سواءً المرئيةُ منها كمسلسلِ “خيوطِ المعازيبْ” الذي تم عرضه في رمضان الماضي، أوْ في بعضِ الرواياتِ والقصصِ. وهذا ما يجعلُ منْ القراءةِ الانطباعيةِ في هذا اللونِ منْ الرواياتِ أقلَ حياديةً والأكثرِ تهديدا في الانزلاقِ نحوَ الحكمِ الذاتيِ والذوقيِ. فبحسبِ هذهِ التوطئةِ والمحذورِ، يمكننا الانطلاقُ نحوَ قراءةِ رواية “حجر وليالٍ عشرٍ” للقاص عبد العزيز الجاسم، كمثال معاصر على استمرار تفضيل الكتاب السعوديين للكتابة عن الموروث والسيرة الشعبية لمجتمعهم. وفي فعل القراءة هذا، سنسلط الضوء أكثر على الثيمات أو الأفكار المركزية التي يتكشف عنها السرد، وكذلك مقاربة مستويات الأصوات المشاركة في سرد الأحداث وأنواعها. فالرواية تضيء جانباً تاريخياً واجتماعياً مهماً من مسيرة وأحوال الإنسان الاحسائي في ستينيات القرن الماضي وما بعده، إلى قريب من عصرنا الحالي، وقد كتبت بأسلوب الرواية الاجتماعي والتاريخي بغية توثيق مراحل تطور المجتمع وهموم إنسانه، وكذلك التحولات الثقافية إبان ما يوصف بـ “عصر الطفرة” حينما ارتفعت أسعار النفط بعد حرب ثلاثة وسبعين.
تبتدأ فصول الرواية بإصابة السارد الرئيسي في الرواية بفيروس كورونا، مما استلزم حجره في منزله لمدة عشرة أيام، وفي مساء اليوم الرابع من حجره، لفت انتباهه وهو مطل من خلال نافذة منزله فتى يحمل وريقات ويمشي متسللاً أثناء فرض حظر التجوال إلى صندوق النفايات ويرمي بها بعد تردد. أثاره منظر الفتى المرتبك وما يحمله من أوراق، فما كان منه إلا التقاطها للاطلاع على ما فيها. كانت تلك مذكرات تسرد مشكلة عائلة ذلك الفتى مع اقربائها واضطهادهم لها. السارد الرئيسي في الرواية يتخلى عن دوره في الرواية ويفسح المجال للسارد الفرعي “محمد” للحديث عن سيرة أسرته، وقد توزعت على عشرة فصول بعدد أيام الحجر المتبقية.
الثيمة الأولى - الصراع الاجتماعي:
الرواية، إذنٌ؛ تنتسبُ إلى اللونِ الاجتماعيِ في السردِ، ويتشكلَ فضاؤها في قرية المطيرفي في الأحساءْ مكانا، وفترةِ سبعينياتِ القرنِ الماضي وما بعدها زمانا. أما موضوعُ الروايةِ الرئيسيِ والذي تعالجهُ، فيرتكزُ على مفهومِ “ العائلةِ الممتدةِ “ مقابلَ “ الأسرةِ النواةِ”، ثمَ تبرزُ أثناءَ سردِ المتنِ الحكائيِ ثيماتْ أخرى فرعيةً، مثلٌ الحجرِ الصحيِ والمعاناةِ معَ الأمراضِ. فمنْ طبيعةِ الرواياتِ الاجتماعيةِ أنها تنبني بشكلٍ أساسيٍ على مفهومِ الصراعِ الاجتماعيِ، والذي يحدثُ في الغالبِ نتيجةَ تعارضِ المصالحِ بينَ طرفينِ أوْ أكثرَ. لذا يبني عالمَ الاجتماعِ الألمانيِ “ رالفْ دارندورفْ “ نظريتهُ الاجتماعيةُ عنْ هذا النوعَ منْ الصراعِ، فيشيرُ إلى «أنَ المجتمعَ في الغالبِ يتألفُ منْ جماعتينِ متضادتينِ: إحداها مسيطرةٌ، وأخرى خاضعةٌ. ويحدثَ عادةَ صراعٍ بينهما نتيجةِ لوجودِ حالاتٍ منْ عدمِ الرضى حولَ كيفيةِ تقسيمِ المواردِ الماديةِ، مثلٌ: السلطةُ والدخلُ والملكيةُ، وأيضا نتيجةَ لغيابِ الانسجامِ والتوازنِ والإجماعِ في محيطٍ اجتماعيٍ معينٍ». وهذا بالضبطِ ما يمكنُ أنْ ينفرزْ كأحدِ أهمِ الجوانبِ سلبيةً في تقاليدِ العوائلِ الممتدةِ بمفهومها التشاركيِ في المواردِ والتنازعِ حولَ سلطةِ الحفاظِ عليها، وكذلكَ خللُ التوزيعِ الذي قدْ لا يخضعُ لمبادئِ العدالةِ والإنصافِ. وهذا ما يمكنُ أنْ يتمظهرْ على شكلِ صراعاتٍ لا تقتصرُ على مجردِ الفوزِ بامتيازٍ معينٍ وحسب، ولكنها تتعدى ذلكَ إلى الرغبةِ في إخضاعِ الخصومِ. وهذا بالضبطِ ما دارتْ حولهُ الروايةُ؛ بالعرضِ والتوصيفِ. الجدُ والجدةُ والأعمامُ والأحفادُ في بيتٍ واحدٍ يتنازعونَ ويتناحرونَ، والمحرك الأول لهذه النزاعات كان بفعل الجدة التي تسيطر على موارد العائلة والقرار فيها.
الثيمة الثانية - المرض:
أبرزت الرواية ألوان متعددة لأشكال معاناة الإنسان مع المرض، وعن صراعه من أجل التحرر منه، وكيفية تسلطه على نمط حياته وأسلوب معيشه، حيث الثيمة الأخرى التي يمكنُ استخلاصها منْ الروايةِ هيَ المعاناةُ معَ المرضِ، وقد أبرزتْ الرواية أشدَ أمراضِ واحةِ الأحساءْ فتكا وإعاقةٌ لحياةِ الأفرادِ الذينَ يصابونَ بهِ؛ أيُ مرضِ فقرِ الدمِ المنجليِ أوْ “ التلاسيميا “. فالروايةُ عمدتْ على وصفِ حالةِ أحدِ شخوصِ الروايةِ “ سعيدٌ “ منذُ بواكيرِ طفولتهِ إلى شبابهِ، وكشفتْ عنْ حقيقةِ المعاناةِ لهذهِ الشريحةِ منْ أفرادِ المجتمعِ بتفاصيلِ دقيقةٍ لظروفِ المرضِ والمعاناةِ والنهايةِ المحتومةِ لبعضِ تلك الحالاتِ. هذا بالإضافة إلى أمراض القرية وموجات الوباء كالكوليرا التي انتشرت في كامل محافظة الأحساء.
الثيمة الثالثة - الحجر:
أما الثيمة الثالثة، فكانتْ عنْ مفهومِ “ الحجرِ “ أيْ العزلِ والتوقفِ الطارئِ عنْ ممارسةِ الإنسانِ لحياتهِ العاديةِ، نتيجةُ لظروفِ الإصابةِ بالأمراضِ المعديةِ، أوْ للوقايةِ منها، وكذلكَ للاحترازِ في حالةِ منعِ التجولِ الناشئِ عنْ الحروبِ. فالروايةُ تتحدثُ أولاً عنْ حكايةِ الساردِ الرئيسيِ في الروايةِ والذي يصابُ بفيروسِ الكورونا، مما يستدعي عزلهُ لمدةِ أسبوعينِ، ثمَ تتداعى ذاكرةَ الساردِ الثاني في الروايةِ “ محمدْ “ عنْ ظروفِ الحجرِ الصحيِ إبانَ تفشي داءِ الكوليرا في الأحساءْ في السبعينياتِ الميلاديةِ، مما فرضَ على الواحةِ الحجرُ الكاملُ ومنعُ الدخولِ أوْ الخروجِ منها إلا للذينَ حصلوا على اللقاحِ. ويأتي مفهومُ منعِ التجولِ أثناءَ حربِ تحريرِ الكويتِ عامَ ١٩٩١ م ليضيفَ إلى الأحداثِ لونا آخرا منْ محدوديةِ الحركةِ. فهذهِ الثيمة، تناثرتْ أحداثها في جنباتِ الروايةِ، وأيضا قفزَ مسماها إلى عنوانِ الروايةِ.
الثيمة الرابعة - العادات والتقاليد:
الثيمة الأخيرة، والتي تناولتها الروايةُ هي العاداتِ والتقاليدَ الشعبيةَ، وكذلكَ الممارساتُ الدينيةُ والمعتقداتُ الشعبيةُ، وجاء بعضها بشكلٍ سلسلَ طبيعيٌ كجزءٍ منْ المتنِ الحكائيِ، وأخرى خارجةٌ عنها بقصدِ الأخبارِ العابرِ والإشارةِ. فقد استحضر الراوي طقوس مهمة كانت تمارس حينها كطقوس العبور: (الولادة والقابلة الشعبية، احتفالات الزواج، ومراسيم الدفن وصواوين العزاء). كذلك المعتقدات الميثولوجية أو الماورائية، والطريقة الشعبية في معالجة الأمراض بشكل بدائي، وقبل عهد المستشفيات الحديثة.
حديث حول بنية الرواية:
المتن الحكائي، وبتعريف توماشفسكي؛ أنه: «مجموعة الأحداث في الرواية والتي تتصل فيما بينها ويتم اخبارنا بها»، وبهذا المفهوم المحدد، يكون متن الرواية المنظورة مشطور إلى قسمين غير متساويين: الحدث لأول هو حكاية السارد الرئيسي في الرواية والذي ابتدأ به السرد في وصف حادثة اصابته بفيروس كورونا وعزله لمدة أسبوعين. والحدث الآخر، والذي تناسلت منه أحداث الرواية المتعددة، هو سيرة معاناة أسرة ضمن عائلة ممتدة يلتقطها السارد الرئيسي بفعل مصادفة ويمنحها المساحة إلى نهاية الرواية.
كانت بداية حلقاتها في الرواية مع إصابة الشخصية الساردة الرئيسية بفيروس الكورونا ووصفه لبعض ظروف “عزله” في مقدمة بسيطة، ثم يتنازل السارد عن دوره في الحكاية، ولا يعطينا سوى إشارات بسيطة عن ظروف المعاناة التي يمر بها المصاب عادة، ولينقلنا إلى حكاية أخرى تحتل ما مقداره ٩٨٪ من متنها، أي حكاية “محمد” العائلية بصراعها وأمراضها، ولينتقل الصوت السارد من الرئيسي إلي الفرعي. وهذا ما أثر في الحقيقة على مفهوم تقسيم فصول الرواية بالتباس تسميتها بعدد الأيام المتبقية في العزل، والذي لا يحضره صوت السارد الرئيسي إلا في خاتمة الرواية، بينما يستمر السارد “محمد” في إكمال حكايته. لكن بالرغم من كل ذلك، احتشدت الأحداث بسلاسة آسرة في الرواية بشكل يوحي أن نقطة النهاية لم تكن في الحقيقية ما يود الراوي أن ينهي بها سرده، حيث تدفق تفاصيل الأحداث وتعددها يوحي بأن كاتب الرواية لديه مخزوناً إضافياً يود البوح به.
أخيراً، ومن خلال جلبنا نموذجاً عن اشتغالات الرواية السعودية المعاصرة، أردنا تسليط الضوء على حقيقة مساهمة هذا النوع من الروايات التي تنشغل بأرشفة الموروث وحفظه من خلال الأسلوب السردي البسيط والسلس، ولأن الرواية هي بجانب وظيفتها الأدبية، تكون فاعلة أيضاً، في الكشف عن النوازع البشرية وسلوكها إزاء مصاعب الحياة، وطرق تكيفها مع بيئتها ومجتمعها لضرورة البقاء والتطور، وأن الأدب هو «تعبير عن الحياة وسيلته اللغة»، كما يقول هدسون.
جديد الموقع
- 2024-11-14 البلدية والإسكان والبريد السعودي سبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية
- 2024-11-14 السير الذاتية وتابوهات المجتمع
- 2024-11-14 في ديوان «هاجسُ الريح»لهاني الملحم.. ما نتوقعه من الشعر، وما تعد به القصيدة.
- 2024-11-14 يمثل الأحساء والمنطقة الشرقية في البطولة نادي وأكاديمية بادل بول إلى نهائيات دوري بارنز السعودي للبادل
- 2024-11-14 افراح الأجود و البجحان تهانينا
- 2024-11-13 هل يُطاع الله من حيث يُعصى؟
- 2024-11-13 سمو محافظ الأحساء يستقبل رئيس وأعضاء اللجنة الوطنية للنقل باتحاد الغرف السعودية
- 2024-11-13 تحالف الأسودان ، خلاص الحسا وسكري القصيم
- 2024-11-13 زواج ثنائي "المجحد والعوض تهانبنا
- 2024-11-13 مركز الملك سلمان للإغاثة يشارك في معرض "واحة الإعلام" بالتزامن مع استضافة المملكة للقمة العربية والإسلامية غير العادية في الرياض