2024/09/18 | 0 | 1768
التعصب والمتعصبون
( رسالة إلى ولدي 16)
ولدي العزيز .. من التحديات التي ستواجهك أنت وأبناء جيلك في هذه الحياة هو التعصب سواء في البيئة الداخلية على مستوى الأسرة والعائلة أو في البيئة الخارجية كالأصدقاء وزملاء الدراسة والعمل ،وكتابتي لهذه التجربة ليس بهدف التسلية و الاستئناس وتقليب المواجع وإنما الهدف يتمثل في ضرورة اتخاذ قرار صارم لمنع النتائج الكارثية للتعصب عبر خلق حالة من الوعي نستطيع من خلاله أن نمنع الحمقى والجهلة من اختطاف وعي المجتمع .
ماهو التعصب وماهي أنواعه وأسبابه في النفس البشري ؟
-التعصب هو شعور داخلي يجعل الإنسان يتشدد فيرى نفسه دائما على حق والآخر على باطل بلا حجة أو برهان .
-وأما أنواعه كثيرة فمنها التعصب الديني ،والتعصب الرياضي ،والتعصب الثقافي ،والتعصب الفكري .
-وأما أسبابه متعددة أهمها : تضخم الذات ، والجهل ،ونقص المعرفة ، والمصالح الشخصية .
ولدي العزيز من خلال مشاهداتي لأبناء مجتمعي وجدت فيهم العقلاني المنفتح وفيهم المتعصب المغلق ، والإنسان العقلاني يرى نفسه بأنه مشروع ناقص يسعى نحو الكمال من خلال تجاربه الشخصية وقراءاته واطلاعه على أفكار وتجارب ومشاريع الآخرين فهو مرن ومنفتح على الحياة وهو في حالة نقد دائم لأفكاره وآراءه ولذلك من الطبيعي أن تجده وبعد تطور ونضج تجربته العلمية والمعرفية أن يتخلى عن قناعات قديمة ويعتنق قناعات جديدة بحيث يرى بأن هذه القناعات الجديدة لها أبعاد موضوعية وواقعية ومنسجمة مع الثوابت الدينية أكثر من القناعات القديمة ، وهو يرى النقد والناقد مصدر ثراء علمي لإعادة المراجعة والتقييم للمنظومة بأكملها وذلك للوقوف على نقاط القوة لتعزيزها واكتشاف نقاط الضعف لمعالجتها ، وبكلمة مختصرة الشخص العقلاني يتقبل الآخر وبعيد كل البعد عن الشخصنة وهو يمارس النقد ويتقبله لكي لايشعر بأنه ميت قد تم تأجيل دفنه ،وأما الإنسان المتعصب فهو جامد ومُتكلس ومغلق لايقبل التغيير وكسول علمياً ،ولذلك تجده يتغذى سلبياً على عقول ونتاج الموتى ولايستخدم عقله إلا في حدود مايدعم توجهه العاطفي ومألوفاته الفكرية والثقافية التي ولد ونشأ عليها وسيموت عليها " وهو يحمد الله على نعمة الجمود ، فلو فتحت عقله ستجد فيه أُحفورة صَدِأة قد نُقش عليها عبارة لعن الله من بدّل أو غيّر لصالح وعي الإنسان وكماله " وشاهدت المتعصب أنه مزعج ومبالغ في مدحه للأشياء والرموز التي من حوله حتى يخيل لك بأنه يتحدث عن أناس معصومين لايحتمل في كلامهم الخطأ ولايتعرض على عقولهم سوء الفهم فنظرياً يؤمن بأن العصمة لأهلها وأن الحكم الواقعي واحد لايعلمه إلا الله ومن أذن الله لهم بالاطلاع عليه وهم محمد وآل محمد سلام الله عليهم أجمعين ، وأما من الناحية العملية فهو يؤمن بعصمة كل رمز وكل عالم نشأ وتربى على أفكاره وآراءه ورأيته مولعاً بالجدل والسفسطة فدائماً ما أجده يتلاعب بالألفاظ لطمس الحقائق وهو يجيد وبحرفية مذهلة في خطابه للجهلة والحمقى عملية الخداع باستخدام المغالطات المنطقية (التي هي عبارة عن أخطاء في التفكير والاستنتاج مبنية على أسس غير صحيحة) وواضح عليه الإكثار من عبارات " احنا بكيفنا ، واحنا لنا اعتباراتنا ومزاجنا ، وانتو شعليكم منا " فهو يقرر عملياً بتكراره لهذه العبارات بأنه لاتوجد في هذه الدنيا موازين شرعية وضوابط عقلية حاكمة على أفكاره وقناعاته ولذلك تجده يعاني من الانفصام بين المعرفة النظرية والممارسة العملية فهو دائماً مُحلق وغير واقعي ، ولأنه يحمل عقلا تبريريا لكل مايحدث من أخطاء في دائرته فهو يرى النقد بأنه تهديدا وجوديا له ولمنظومته ، وأن الناقد من داخل او خارج منظومته ماهو إلا خصما وعدوا يتربص به الدوائر يحتمي ويختبئ خلف درع النقد والنصيحة .. وبكلمة مركزة المتعصب شخص لايقبل الآخر وعنده شخصنة للأمور ويمتهن جهلا قراءة النوايا ، وأستطيع أن أدعي بأن المتعصب يعاني من جلطة معرفية أصابت أنظمته المعرفية والتفكيرية بالشلل التام ويخشى أن يعلاجها ! .
ولدي العزيز لايخفى عليك أن للتعصب آثار وخيمة على وحدة المجتمع فمن خلال ( الجهل والمصالح الشخصية الخفية ) يستطيع الشخص المسكون بالعصبية أن يخدع نفسه والآخرين بأنه مرسل لمهمة مقدسة وهي الدفاع عن قضايا الجماعة ورموزها وآراءها وبالتالي يقوم بتحريك وحشد الجماهير المستضعفة عن طريق استدعاء الماضي لاستعداء الحاضر عبر تكراره الممل لبعض القضايا ،والأحداث ،والعناوين ،والحكايات ،وقصص جدتي وجدتك والتي يحفظها ويكررها الجميع باختلاف مستوياتهم العمرية والعلمية والوظيفية ، فالآراء والقناعات الخاصة التي يؤمن بها ويتعصب لها ويدافع عنها بدون وعي من يحمل شهادة بروفيسور ويعمل في أرقى الجامعات هي نفسها ماينطق بها ويرددها طالب في المرحلة الدراسية المتوسطة ، وقد أثبتت دراسات علم النفس أن المتعصب مثل النار يبحث عن أي مادة قابلة للاشتعال ليعيش عليها فهو يخلق أسباب التعصب حتى لو لم تكن موجودة ليعبّر من خلالها عن ذاته ، ووجدت أن من أصعب المعارك التي يخوضها المتعصب كما يقال هي تلك التي تدور بين عقله الذي يعرف الحقيقة وقلبه الذي يرفض أن يتقبلها .. ولدي العزيز من أبرز مصاديق التعصب التي عاشها مجتمعنا في فترة زمنية معينة هو التعصب لمرجع التقليد ،ووجدت من يتعامل مع مرجع تقليده وكأنه إمام معصوم أو شيخ قبيلة أو كأحد أرحامه ، وكذلك وجدت من يتعامل معه وكأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويعلم مايدخره في بيته ،والحقيقة والواقع ياولدي ومن خلال تجربة مجتمعي لا تتعامل مع مرجع التقليد إلا في حدود رجوع غير العالم إلى العالم في الأحكام الشرعية فقط وأن العالم المجتهد ليس من اختصاصه واهتماماته مثل تلك الأمور وهي لاتستخدم كأداة للكشف عن أهليته للتقليد من عدمها فهناك أدوات علمية تستخدم للكشف عن أهلية العالم للتقليد .. هل تعلم ياولدي بأننا في زمن قد نُخدَع من خلال البروباغاندا والتي تعني الدعاية والترويج وذلك بنشر المعلومات بطريقة موجهة من وجهة نظر واحدة بهدف التأثير على آراء أو سلوك أكبر عدد ممكن من الأشخاص فمثلاً قد تجد شخصاً يدعي بأنه يشافي المرضى ويعالج العقم ويقضي الحوائج وغير ذلك فعن طريق البروباغندا يستطيع أن يُسوّق أفكاره ومشاريعه ، فلو فرضنا أن تواصل معه مائة شخص لطلب العلاج وقضاء الحوائج ولو قلنا بأن عدد الذين تشافوا وقضت حاجتهم بالصدفة هم خمسة أشخاص أما الباقون اللذين لم تستجب دعوتهم أو تقضى حاجاتهم وعددهم خمس وتسعون شخصاً فإنهم وبكل تأكيد لن يتكلموا لأي شخص لاعتبارات كثيرة منها أنها حالات خاصة غير قابلة للنشر وكذلك يمكن أن يستنهضوا عناوين دينية كأن يقولوا بأن الله لم يُرد لنا قضاء حاجاتنا لحكمة يعلمها الله ،وبالتالي لا أحد يعرف من المجتمع كم عدد ونسبة فشل هذا المدعي في دعواه ، أما الخمسة فيستطيع مدعي "الغفلة" أن يجعلهم خمسة آلاف شخص عن طريق الدعاية والتسويق والتوجيه المقصود منه وغير المقصود من الجهلة والمغفلين .. ولدي العزيز ليس من أدوار ووظائف مراجع التقليد فتح مراكز للقراءة لمعالجة العقم ومن يعانون من أمراض جسدية ونفسية ،وليست هي الحاكمة والكاشفة لجواز تقليدهم أو لا ، فدورهم الرئيسي هو تشخيص واستنباط الأحكام الشرعية ،وليس تشخيص واستنباط ومعالجة الأمراض النفسية والجسدية .. وهنا يجب الإشارة بأنه قد تجد بعض البشر من يملك مواهب وكرامات وخصائص لايملكها أكبر مراجع التقليد فهل يعني ذلك بأننا نقدمه كمرجع للتقليد ؟! ثم نحن قد لانعلم أصلاً ماهو تفسير مثل هذه الأمور وهي قطعاً لاتعني بالضرورة القرب من الله سبحانه وتعالى .. ولذا إن لم ننتبه ونستخدم الموازين الشرعية والعقلية في اختيار مراجع التقليد سيأتي زمان نرجع فيه للفتوى لقارئ القرآن ولقارئ الأدعية وللخطيب الحسيني ومن له سمعة وشهرة في أخذ الاستخارة ومن يستثمر ويروج للكرامات والمقامات والمسميات الوهمية ( للأسف الساحة الشيعية مليئة الآن بهذه النماذج ) .. ولدي العزيز لكون أن المتعصب أعمى قد انغمس بدون وعي في شخص ما أو في فكرة ما ويريد من الآخرين أن يحذوا حذوه فقد وصل بنا الحال بأن يجتمع الأب بأبناءه وأحفاده ويوصيهم بتقليد (س) من العلماء ويبدأ اجتماعه معهم بالخطبة العصماء يتم فيها تحديد ضوابط ومعايير عبثية لاختيار مرجع التقليد ويقول بأن المرجع الفلاني نعرفه ونعرف أباه وأمه ونعرف خاله وعمه وهو من بيت طيب وجدكم رحمه الله قد أوصى بهذا العالم والتاجر الفلاني يثني عليه والوجيه الفلاني يمدحه ويزكيه وهناك كثير من الخطباء يشيدون به وهو من منطقتنا وكل عائلتنا قلدوه " وكأن الوالد المحترم يريد أن يخطب لأحد أولاده من هذا البيت وليس ليوضّح ضوابط تقليد العالم" ويضيف ياعيالي لاتشرقوا ولاتغربوا ترى الموضوع بسيط ولايحتاج له تعقيد ويختمها بعبارة " رضا الله من رضا الوالدين " وصلى الله وبارك ! . ولدي العزيز .. حتى لاتصل للعصبية دون قصد لاتحاول أنت وأبناء جيلك أن تُعلّم وتُدرّس الأطفال شجرة أسرة أي عالم من العلماء ، فأنا قد أتفهم بأن تقوم عائلة بتعليم أطفالها شجرة عائلتها أو شجرة أسرة النبي محمد صلى الله عليه وآله والأئمة الطيبين الطاهرين سلام الله عليهم ، وكذلك قد أتفهم أن يقوم باحثا بتأليف كتابا يتناول فيه شجرة أسرة عالم من العلماء من الأسر العلمية البارزة ، أما أن تعلم وتدرس الأطفال شجرة أسرة عالم من العلماء فمع احترامي وتقديري لجميع العلماء هذا مالم أستوعبه ولن أفهمه إلا في نطاق تكريس العصبية بين أفراد المجتمع .. ولدي العزيز قلّد من شئت من مراجع التقليد وفق الضوابط الشرعية المعروفة ولكن إياك ثم إياك أن تستثمر في العصبيات فقد وجده من سبقك من أفشل الاستثمارات التي لم تجني منها إلا الخسارة للفرد والمجتمع " دعوها فإنها منتنة " .. كما لاتحاول عبثا إنشاء لجان هي أشبه بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى لتكون مهمتها مراقبة ومتابعة الأرحام والمؤمنين في أي مسجد يصلي هذا ولأي خط ينتمي ذاك لتقوم من خلالها بفرز من يستحق ومن لا يستحق أن يُزوج أو أن يُشرك في المشاريع والبرامج العائلية والمجتمعية .
ومن باب أخوك دينك فاحتط لدينك أقول لك وأبناء جيلك .. قو أنفسكم وأرحامكم والمؤمنون عداوة وقودها الجهل والعصبية .
ولدي العزيز ليس بالضرورة أن تقتنع بكل ماورد في هذا المقال فلك قناعاتك ولي قناعاتي ، ويبقى العاقل من وعظته التجارب .
إضاءة : هل نستطيع أن نطبق قاعدتي الفراغ والتجاوز الاجتماعيتان على الأحداث التي وقعت في الماضي بين الأرحام والمؤمنين؟ أعتقد أننا نستطيع ذلك فنحن طيبون ونستحق أن نتعصب للأخلاق الحسنة وللقيم والمثل العليا كصلةالرحم والحب والمودة والرحمة والعفو والمغفرة والتسامح بين الأرحام والمؤمنين .
( إن أحسنت فمن الله ثم من حسن ظنكم بي وإن أسأت فمن نفسي والشيطان ) .
جديد الموقع
- 2025-01-14 أسرة المهناء بالمطيرفي تحتفي بزفاف ابناء الحاج "جواد " تهانينا
- 2025-01-14 " المؤرخ وتدوين تاريخ الأحساء الموسوعي "
- 2025-01-14 أسباب الإخفاق في الإلتزام بقرارات العام الجديد
- 2025-01-14 هل بإمكان الجزر أن ينظم نسبة السكر في الدم؟
- 2025-01-14 محتوى الكلمات ينشط العمليات الدماغية التي تجري في اللاوعي وتشكل انفعالاتنا وقراراتنا وسلوكنا
- 2025-01-13 تنظيم علاقة الإنسان بريه
- 2025-01-12 إل جي تطلق متجرها الرائد في المملكة العربية السعودية بحفل افتتاح كبير
- 2025-01-12 البلادي يشدو بشدة القافلة في أمسية غناء البادية في ختام "معرض الإبل عبر العصور"
- 2025-01-12 7 شعراء يؤثّثون سادس أمسيات مهرجان الشارقة للشعر العربي
- 2025-01-12 تحت شعار تمرنا من خير واحتنا سمو أمير الشرقية يرعى انطلاقة النسخة العاشرة من مهرجان تمور الأحساء المصنّعة