
2025/09/18 | 0 | 125
في ديوان «فصلٌ من مواعظِ الضلِّيل» .. رحلة الشك واليقين.
اليمامة -محمد الحميدي
أجزاُء الحياة ال تنفصل، فكل جزٍء يكمل اآلخر ويستدعيه، حيُث الذاكرة حلقة الوصل بينها جميعها، إذ هي مفتاُح الولوج إلى األعماق القصَّية للذات، وهي كذلك مفتاُح الوصول إلى العالقِة بينها وبين األشياء المحيطة بها، ومن ِضمنها التاريخ والثقافة الشاعر األخير إال إلى شاعره األول، الذي فتَح باب والمروَّيات الشفوية والمكتوبة، وفي عالم الشعِر ومروياته ال يمكن أن ينحاَز القصيدة وأشعَل نارها.
من هنا يأتي حضوُر ”امرئ القيس“ داخل األشعاِر والقصائد، إذ يَّتخذ شكلين هما المضمُر والبارز، فالمضمُر يكون عبر التأُّثر والمتابعة، كحاِل الشعراء في تأثرهم ومتابعتهم لمعاصريهم وسابقيهم، أما البارُز فعبر االستدعاء واالتكاء، كما فعَل الشاعر صادق النمر في ديواِن ”فصٌل من مواعِظ الضِّليل“.
ثَّمة سؤاٌل يتكرر مع كِّل استدعاء: ما الذي يستطيُع ”امرؤ القيس“ تقديمه لشاعٍر تأَّخر عنه ألف عام؟
كُّل شاعر يمتلك إجابة خاَّصة به، ُتعطي التجربة أبعادها وترسُم بداياتها ونهاياتها، كاشفة عن تمُّيزه وقدرته على االبتكار ومجاوزة الشعراِء األسالف، فالشاعُر استدعى امرأ القيِس؛ من أجل أن ُيسقط عليه تجربته في الرحيِل واالنتقال من الشِّك إلى اليقين، لذا ضَّجت القصائُد بالبحث عن االستقراِر والسالم؛ ما جعلها في ترحاٍل وانتقال دائٍم ما بين األماكن والشخوص، وهو ما برز في تقسيم الديواِن نفسه، إذ انقسَم إلى قسمين:
القسُم األوُل عنوانه ”فصٌل من مواعظ الضِّليل“، وفيه تكَّشفت العالقة بين الشاعِر وامرئ القيس؛ حيُث اعتمدت على االستدعاِء والتماثل مع تجربته في الشعِر والحياة )قصيدة انفتاق قصيدة..):
”خرجت من المزَّيف للحقيقي
وقَّدمت الطريق على الرفيق
وسرُت بحيلة اإليقاع، َكانت
طريقتي القِصيدة في الطريق
فؤادي: َهودجي، ورؤاي: زاِدي
ولحني: وجَهتي .. قدَماي: نوِقي“
لينتقلَ بعدها للكشف التام عن نفسِه وإحضارها إلى داخلِ القصيدة، لكن حضُوره جاء مخالفاً لتوقعاته وأمنياته:
-”فتقت قصيدتي؛ ألدَّس فيها
رحيق هًوى، ففاجأني حريقي“
حيث تتحولُ القصيدة إلى حريق، وتصبحُ الكلمات نيراناً تلتهم الشاعر وكلَّ الأشياء المحيطة به؛ ما يستدعي سؤالاً ثقافيًّا عميقاً: كيفَ يستطيع شاعر عاشَ حياة لاهية عابثة أن يقدِّم موعظة لشاعرٍ أتى بعده بألفِ عام؟
يستمرُّ السؤال بالحضور في مفاصلِ الديوان، كما يستمرُّ بالحضور مع كل استدعاء لامرئ القيسِ من قبل كل شاعرٍ من الشعراء، منتقلاً من الفضاءِ الفردي الخاص إلى الفضاءِ الثقافي العام؛ ليغدو كل شاعرٍ مسؤول عن تقديم إجابة خاصَّة به، وهذا ما قام به الشاعرُ في ديوانه، إذ لم يكتفِ باستدعاء شاعره، بل اتجه إلى تبريرِ الاستدعاء والكشفِ عن أسبابه (قصيدة مواعظ الضلِّيل):
”الشعر في فمه ناٌر ممَّزقة
والخمر في يده شهٌد، وال شهدا“
ثمَّة حالتانِ وجوديتان تكتنفان الشاعر وتجعلانِ من السهل وقوعه في مصيدة التشابه مع امرئِ القيس، الأولى: حالة الألم الشديدِ والتمزق الداخلي العنيف، حيث الروح لا تهدأُ ولا تستقر، بل تميل إلى الفرارِ من واقعها إلى الهامشِ الفارغ وغير المجدي، وهو ما عبَّر عنه بوضوح في قصيدة (فرار في لجج الفراغ):
“مما تفرُّ؟ وليس ثمَّ فرار
أنَّى؟ وناشبةٌ بك الأقدار”،
أما الثانية: فحالةُ الانغماس في اللذةِ والاستغراق فيها ونسيان الواقعِ الأليم، وهذا ما كشفته قصيدةُ (تمائم) التي تقاطعت مع تجربةِ ابن عربي واستدعتها: مع تجربِة ابن عربي واستدعتها:
”أَّيا رُّب، إَّن الروح خيٌل جموحٌة
وتهرب من إسطبلها آخر الليل“.
اضطرابٌ وحيرةٌ وتشتُّتٌ وبحثٌ موغلٌ في الروح عن الحقِيقَة، إذ كلُّ ما يراه وهمٌ وزيفٌ وخداع؛ ما جعله يندفعُ إلى استكشاف طريقته والانفرادِ بتجربته، لتستقلَّ عن تجربة امرئ القيس وتنفصلَ عنها (قصيدة تمارين الفقد): ”ماذا أحاوُل أن أقوال
ال زلت أحترُف الذهوال..
عيناي صاريتان، وجهي
موجٌة والريح ُطولى
وأمُّد في الكلمات ُنسًغا
قاحاًل أنوي الهطوال
وأموت مراٍت ألحيا
مرًة لتكون أولى“
القسمُ الثاني عنوانه “من بقايا المدُن في فمي”، وفيه يرتحلُ الشاعر بشكوكه وأوهامه بحثاً عن الحقيقة، متقاطعاً مع رحلة امرئ القيسِ في بحثه عن استعادةِ ملك أبيه والانتقام من قاتليه، وكما أن رحلة امرئ القيس لم تُسفر عن شيء كذلك رحلةُ الشاعر لم تسفر عن شيء، فالأسئلة التي خرج بها لم يحصَل على إجابتها، لذا عاوده الحنينُ إلى مدينته التي انطلق منها، فمن الانبهارِ بـ”غرافيتي سان فرانسيسكو..” والاندهاشِ بثلوج “نوتنجهام”، تباغته “الدمام” وتحضرُ في روحه وثنايا قصيدته (قصيدة نوتنجهام):
”وحين رأيت قطن الثلج، ينزل دون ترتيب..
على وجنات )نوتنكهام(، شيبًا غير مخضوب“
”ذكرُت مدينتي )الدمام( ذكرى الدفء والطيب
ذكرُت البحر واألنسام، ال تأتي بمندوب“
يتكرَّر الحنين إلى الوطن في كل رحلة يخوضها، فعندما يزورُ “أنقرة حيث مرَّ امرؤ القيس”، يتذكَّر مدينته الموغلة في التاريخ، ويسميها باسمها القديمِ “الجرْها”؛ لتكافئَ المدينة التركية وتتفوَّق عليها:
بأرض الترك أجلس في مقهى
”بعيدًا
بدون حنيٍن يعُربٍّي إلى )الَجْرها(“
وعندما يزورُ “مدريد” يتذكَّر مدنها وتاريخها وخصوصاً “باييلا..” أو “بلنسية”، لكن حينما تأتي رحلة “العودة الأخيرة إلى سان فرانسيسكو” يصل إلى اقتناعٍ بضرورة الشعر، وأن الخلاصَ والإجابة على الأسئلة الوجودية لا تتمُّ إلا من خلاله:
”الشعر آخر مخلوق يلوُذ به
قلبي، كما الذ عرياٌن بمستوِر “
معَ إدراكه الناضج بضرورة الشعر يأتي إدراكه الآخر؛ بأن الإجاباتِ التي يبحث عنها لا تكونُ إلا في مدينته التي نشأ وترعرع فيها، ومن هنا حضورُ “الدمام” بشكل متكرِّر، إذ يهرعُ ناحيتها كلما استبدَّ به الحنين والشوق (قصيدة صوغة الدمام):
”طَّوفت في مدن الدنيا على عجٍل
يا ليتها طَّوفت عمري على مهِ
ليقطعَ الشك باليقين ويصلَ إلى إجاباته التي طالما بحثَ عنها (قصيدة في ليلة سماوية قدريَّة):
أدرُبَك يا إلهي هكذا
باُألحجيات َمِلي؟
أم اِّني كنت أركُبِريبتي
فُشغلت بالَعَطِل؟“
، حيث الحقيقُة
معَ نهايةِ الرحلة والعودة إلى الديار تتكشَّف الحقائق وينجلي الزيف، ويرى “رأي العين..” ما كان محجوباً ومتوارياً، حيث الحقيقةُ الوحيدة والأكيدة هي حقيقةُ المدينة التي انطلقَ منها وعاد إليها؛ ووجدَ عندها الراحة والهدوء وإجابةَ الأسئلة التي طوَّحت به وتسبَّبت برحيله:
”بدأت العمر أحسُب أنني
قد جئُت من غيمة
وأن الشمس لي أٌّم
وأن الريح لي هَّمة
وحين رمى علَّي الوقت
من جعَباته سهَمه
تكَّشفت الحقيقة أنها
وهٌم رَمى وهَمه
جديد الموقع
- 2025-09-22 رئيس العدالة: الفوز على الهلال هدفنا
- 2025-09-22 ادارة المساجد بالاحساء تحتفي باليوم الوطني السعودي 95 تحت شعار عزنا بطبعنا
- 2025-09-22 إطلاق حملة التطعيم ضد الإنفلونزا الموسمية في الأحساء
- 2025-09-22 "فن النحت على الخشب" ورشة تدريبية لمستفيدات ضمان الأحساء
- 2025-09-22 سمو محافظ الأحساء يزور مستشفى الصحة النفسية ويكرّم منسوبيه
- 2025-09-22 كــل عـام ٍ فـي بـلادي مـجد
- 2025-09-22 الهوية الوطنية والذاكرة التراثية في شعر شباب عكاظ: دراسة تحليلية لنصوص الشعراء الفائزين.
- 2025-09-22 الإنطلاق بعد الستين إلى رحاب حياة جديدة يحدث فرقًا لك وللآخرين
- 2025-09-22 هديرُ الصمتِ: رحلةٌ عبر البوذيّة
- 2025-09-21 المرأة الريفية في الأحساء: نموذج للتمكين والمشاركة الفاعلة