2024/12/28 | 0 | 78
القبلة بوصفها ملاذًا للذاتقراءة في ديوان «قبلة تسرق الحزن» للشاعر عبدالله العطية
الجزيرة
عبدالله العطية شاعر.. جعل من القصيدة «مركباً للقادمين» هكذا هو يقولُ:
عد يا حبيبي، فالقصيدةُ مركبٌ
للقادمينَ، ومدرجٌ لمطارِ
ولذا فهو شاعر منذور للحلم الآتي.. ينظرُ إلى المستقبل بعينين زرقاوين.. وجعل من العشق في ديوانه معادلاً للشعر، فحين عشق نطق، وحين أحبّ ابتكر:
شاعر لم تستقر ذاته على خط الاستواء، بل تفرقت بين (ذات نُوَاسيّةٍ) مفعمةٍ بالحياةِ و(ذات معرّيّةٍ) قامعةٍ لمباهجها:
ويعرف جميعنا ما التي أبكت أبا نواس؟ إنها تلك التي:
إلا أن ثمة ذاتًا مَعرّيّة تثوي في الديوان، تُحاذرُ أن تحتفي بمباهج الحياة، وتخشى حتى من ارتكاب لذة الحماقة في الحب، وتكتفي بأن تكون رهينة محبسين اثنين: هما (الشك واليقين):
إن شاعرنا يطلب النجاة بعد أن رنّحهُ الشك واليقين، فآثر العودة.. هذه العودة الرومانسية إلى أحضان ربة الكتابة، والفرار بالذات من عوالم الحب إلى عوالم الكتابة.. هذا التشظي هو ما يجعل من شاعرنا مترنِّحًا بين ذاتين: ذاتٍ نواسية صاخبة، وذاتٍ مَعَريّة هادئة تؤثر السكون والعزلة.. هذا التشظي ليس لحظة وجدانية عابرة، ولكنه يكاد يكون وَسْمًا يشيع في أرجاءَ الديوان.
يتكون هذا الديوان (دار تشكيل، ط1، 1446هـ/2024م، 115 صفحة) من 38 قصيدة، تتعاقبُ بين قصائد طويلة وقصائد قصيرة، وأقلُّها يمكن أن نعده «ومضة شعرية»، أدرجها شاعرنا تحت عنوان «تناهيد صغيرة»، وهي عبارة عن ستَّ عشرةَ تنهيدة، وكنت أحسبُ بأنه يجمعها سلك ناظم هو «الأَلَمُ والتَأوُّهِ والشجون» -كما يوحي به عنوانها الفرعي «تناهيد»، إلا أنها عبارة عن مجموعة من القصائد حار الشاعر أين يدرجها، فآثر أن يجمعها تحت عنوانٍ «تناهيد صغيرة»؛ فبدا بعضها مقحمًا في بعض، فلا قصيدة «لقاء» -مثلاً- ملائمة لمعنى التنهيدةِ طولاً، ولا قصيدة «العَلَم» متوافقةٌ مع التناهيد دلالة، وإنما هي أبيات وطنيّة، كان الأحرى بها أن تدرجَ في القسم الأول من الديوان.
عتبة العنوان
من عتبة العنوان نلجُ إلى هذا الكيانِ الشعريّ الذي انفجرت -بلا ريب- قبله ملايين اللحظات الشعرية؛ فنشأ وتطور حتى أصبح كونًا منظورا على الورق، وتمثل في شكل «قُبْلةٍ» لها مداراتها ومساراتها. وعنوان الديوان أول عتبةٍ تواجهنا.. والعناوين في الشعر الحديث -من حيث بناؤها وأداؤها- أصبحت ظاهرة لافتة للنظر، ومثيرة للأسئلة. فهي «أساليبُ معلنةٌ يتخذها الشعراءُ؛ ليعبّروا عن جوامعِ الصفاتِ المميّزةِ لنصوصِهم، فهي أسماءٌ كأسماءِ الأعلام، تفيدُ التّعيين». حسب شعبان بن بوبكر، (شعرية التجاوز، ص60). من هذا المنطلق، فالعنوان يكون اختزالا ضروريا لمضمون الديوان. فهل أفادَ العنوان «التعيين» حقًّا.. فكان مفتاحًا لمضمون الديوان، أو كان مِغْلاقًا في وجه القارئ؟
يضطلع العنوان بدور إشاري على مضمون الديوان برمته، فهو بمثابة طلقة شعرية يكثف من خلالها الشاعر معركته مع اللغة. ولا شك في أن الشاعر يروم من وراء هذا التكثيف لفت انتباهنا إلى مضمون ديوانه من خلال عنوانه، فوراءه تثوي مقاصده، وتأوي أغراضه، ولسنا مخولين -نحن القراءَ- أن نعترض على اختيار الشاعر لاسم ديوانه.. ولكن علينا أنْ نَتَأوَّلَ ذلكَ الاختيار.
بدا العنوان من حيث الأداء دالًّا على مضمون الديوان، مُكَثِّفًا لمحتواه، ولكن من جهة أخرى بدا العنوان مرتبكًا من ناحية بنائه المجازي، فأي معنى للفعل «تسرق» الذي بدا قَلِقًا هنا. إن القبلة -حين تنفجرُ بين عاشقين فإنها تتجاوز فعل السّرقة، ومع تقديري لشحنة المجاز البلاغي في العنوان إلا إنني لم أستطع فهم كيف تسرقُ القبلةُ الحزنَ، لماذا لا تبيده -مثلا- أو تمحقه.. فيصبح الحزنُ هشيمًا تذروه القُبل؟
سأحاول أن أقف على بعض دلالات القبلة في الديوان، وكيف أنها أصبحت علامة سيميائية تحيل على سيرورة من الدلالات.. لعلي أرصد منها بعضها.
عرف الإنسانُ القبلة منذ القدم، فأوّلُ قبلةٍ عرفتها البشرية، يعود تاريخها إلى العام (3500 ق. م). وجدت مدونة في ألواح طينية في حضارة وادي النهرين. وفي تراثنا العربي نتذكر جميعًا قُبلةَ عنترة، ذلك العاشق الشهم الوفي الذي أشغلته (عَبْلته) عن (لُعْبَتِه)؛ أي (حُبّه) عن (حَرْبه)، ليقول:
فالقبلة في التراث الإنساني فعل اجتماعيٌّ، ورمزي تحيل على الإخلاص والود والاحترام والتقدير والحب، وللقبلة دلالاتها التي تختلف باختلاف أمكنتها، فهناك قبلة الجَبين (دلالة السمو والرفعة)، وقبلة الوجنتين (دلالة الحب)، وقبلة الخضوع والخشوع، وقبلة اليد التي ترمز إلى الامتنان. فما تشكلات القبلة في هذا الديوان وما رمزيتها؟
حفل الديوان بالقبلة موضوعا، وبمتعلقاتها معجما، فكان لها حضورها اللافت، وتجلياتها المهيمنة، إذا تجلت في عتبة العنوان نفسه؛ انتهاء بعتباته الأخرى، من قبيل عناوين بعض القصائد، مثل قصيدة «قبلة من عيون الجميلة» ص10، وقصيدة «قبلة الصبح» ص46، ومن قبيل المعجم اللغوي الثري، مثل: «الشفاه»، و»العناق»، و»الفم»، و»الثغر»، و»الشّفَة»، و»الشفة الحمراء»، و»الخد»، و»الاشتهاء»، و»الفستق»، و»الاحمرار الملمع»، و»الرّشف»، و»الرَّشْفة»، و»الشفتين»، و»الغمّازة»، و»الشفاه المؤتلقات»، و»الانتشاء»..
هذا الحقل الدلالي يرجع رجوع الفرع إلى الأصل، وهو «القبلة» بوصفها مَجَازًا إلى فردوس الجسد، وكأن شاعرنا يدعونا إلى التغني معه بالقبلة رمزًا لكل مباهج الحياة؛ لهذا يتعاظم صوت القبلة في أرجاء الديوان، وما علينا سوى محاولةِ الوقوفِ على بعض دَلالاتها:
ومن دلالات القبلة في الديوان كونها رمز الاتحاد والتبادل: ولهذا معانٍ روحية وحسية، وله حضوره الثقافي في التراث الديني والأدبي، كما في «نشيد الأناشيد»، أو في «ديوان الشعر الصوفي»، مثالا.
ويمكن لقارئ ديوان «قبلة تسرقُ الحزن» أن يلاحظ بسهولةٍ أبعاد ذلك التبادل في بعديه: الروحيّ، والآخر الحسي، فتشيع في أرجاء الديوان الألفاظ الدالة على القبلة الجسدية، مثل قوله:
*كم أهوى شفتيك وغمازة هذا الخدْ
*أنا الثغرُ الشَّهِيُّ لثغر أنثى
تداوي قلب مكتئب حزين
*بها شفةٌ إذا ما حدثتني
بشيء شفَّ عن معنى مبين
*أشتهي حاء وباءْ
وتفاصيلَ من الفستق يا أحلى النساءْ
أشتهي عينيكِ
رمشيكِ
وخديكِ
إذا حل العناءْ
والألفاظ الأخرى الدالة على القبلة الروحية، مثل قوله:
*وحين تغادر نحو المتاهة
خذ قبلة من عيون الجميلة..
** **
*أيا منجل الورد دعنا هنا
نودع أغصاننا في الولاء
ودعنا نقبلهم قبلما
تُطلُّ، فتسلبُ منا السناءْ
فدعنا على جرحنا نلتظي
فنحن وجرح الحسين سواءْ
** **
*فما كفارة الأشواق إلا
معانقة العيون مع العيون
وما القربان للعشاق إلا
عناق فراشة نار المنون
*أتيتُ لألقي عليكِ مزيداً من الشعر والأخيلةْ
وأرجمَ شوقي الكبير بسبع قُبلْ أشفي غليلي من الأسئلةْ
ولو ألقينا نظرة على الشواهد السابقة يتبين لنا أن القبلة -في أجلى معانيها- تجلٍّ من تجليات خطاب الجسد، (فاللثم واقتطاف الجنى، والثغر الشهي، والقبلة المشتهاة، والشفة الحمراء).. فجميعها تجليات لذلك التبادل الحسي، وفي المقابل نلاحظ -وإن بشكل أقل- حضورَ تجليات التبادل الروحي أو الرومانسي، حيث الاكتفاء بالنظرة معادلاً للقبلة، وبقبلة الوداع، وبالانتحار عشقا؛ قربانا لوجه الحب كما تنتحر فراشة النّار. ولا يخفى على القارئ -أيضاً- محاولة الشاعر لفت أنظارنا إلى تلك القبلة المقدسة، حين استدعى الرقم «سبعة»، راجمًا شوقه بـ»قبلاته السبع» المقدسات، فأحالنا بذلك على «الجمرات السبع» في الحج، وهذه إحالة رمزية -من عشرات الإحالات التي يؤثّث بها الشاعر ديوانه- إلى التراث الديني في ترصد القبلة.
إذن تبدو القبلة في الديوان ليست مجردَ قبلة لغويةٍ، وإنما أصبحت ملاذا للذات في لحظة أولاعها وأوجاعها:
بادليني قبلةَ الصُّبحِ؛ لكي
يتجلى منكِ إشراقُ الصباح
ودعي كل مجاز في الهوى
يتعرى عن رداء الانزياح
وخذي ما لم يقله شاعر
من «مباح الشعر» أو «غير مباح»
فمنذ عتبة الديوان الأولى.. تستوطن القبلةُ أحاسيس الشاعر وجوارحه، بانفتاحها على السماوي المتعالي تارة، وبانفتاحها على العوالم الحسية تارة أخرى؛ إمعانًا من الشاعر في حماية الذّات من بؤس الواقع.. فلا شيء كالقبلة ملاذًا ومعتصمًا!
جديد الموقع
- 2024-12-28 افراح البقشي تهانينا
- 2024-12-28 المخطوطات الأحسائية والعالمية والباحث في التاريخ
- 2024-12-28 أفضلية الورقي.. أسباب أخرى
- 2024-12-28 برامج جديدة متاحة لعلاج للمصابين بالتأتأة
- 2024-12-28 بقايا دخان السجائر الإلكترونية من المواد الكيميائية المترسبة على أسطح الأشياء قد تلحق ضررًا بالجهاز المناعي للأجنة
- 2024-12-26 نحو معارض للكتاب الخيري
- 2024-12-26 معادلة الانتصار الإلهي والقيم العليا
- 2024-12-26 أحياة هي أم ظروف حياتية؟
- 2024-12-26 د.نانسي أحمد أخصائية الجلدية :العلاج البيولوجي أحدث وأهم الخيارات في معالجة الصدفية
- 2024-12-26 "ريف السعودية" ونادي الشباب يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز المسؤولية المجتمعية