شعر وأدب واندية ادبيه
2015/11/03 | 0 | 3611
الجمل الاعتراضية في شعر الحرز ..!
( هاني الحسن )
اللغة العربية من ضمن اللغات التي تشتهر بالبلاغة والثراء من بين اللغات المسموعة والمكتوبة ، فكما نعرف بأن هناك لغات ليس لها نظام مكتوب، وربما انقرضت كثير من اللغات لعدم وجود قاعدة لها عريضة من المتحدثين الناطقين بها على امتداد البسيطة..
وقد يكون السبب الجوهري هو عدم وجود نظام كتابي يسهم في بقائها وخلودها ، ومن أسباب خلود اللغة العربية تكفل الله بحفظ القرآن العربي اللسان الذي هو بمثابة المرجع اللغوي المتسالم عليه، والمتفق على استقامته وعدم اعوجاجه ..
وفي مجال اللغة عند العرب يأتي شعر الفحول والمتقدمين مما يحتج به في لغة العرب على خلاف المتأخرين الذين ربما لا يصل الاتفاق في بعض القضايا عندهم بشكل يبعث على التسليم ..
وليس هذا موضوعنا بقدر اتصال ثراء لغتنا العربية ببعض الاستخدامات الوظيفية التي صاحبت الشعر كما يوجد لها أيضا من القرآن ما يعزز استخداماتها . .
واخترت استخدام الجملة الاعتراضية كموضوع وجدته ظاهرة للعيان في ديوانين لشاعر هجر الأستاذ الكبير ناجي الحرز مؤسس ورئيس منتدى الينابيع الهجرية الأدبي وهما (نشيد ونشيج) و(خفقان العطر ) ، وأرى أن تسليط الضوء على هذه الظاهر مفيد أدبيا ولغويا تعليميا ونقديا لمعرفة أبعاد هذا الاستخدام وأحكامه من عدة نواحي أتناولها تباعا في هذا الموضوع ..
ولكن يحسن بنا بيان بعض الأمور التي تقدم للموضوع بشكل يسهّل علينا توضيح المطلب، ومن ذلك تبيان ماهية وأشكال وإعراب ووظيفة الجملة الاعتراضية قبل الدخول لنماذج من شعر أستاذنا الحرز ..
أولا: ما هي الجملة الاعتراضية وماهي أشكالها؟
هي الجملة التي تتوسط شيئين متلازمين كالمبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، والصفة والموصوف، فقد تكون اسمية أو خبرية أو طلبية أو استئنافية، ولها أيضا مواقع وأشكال أخرى، ولسنا بصدد حصرها بقدر توضيح بعضها للخروج بتصور عام عنها ، ولا نغفل بأن لكل نوع وشكل هدف مختلف ..
ثانيا: الجملة الاعتراضية إعرابا
من المتسالم عليه لغويا تقريبا بأن الجملة الاعتراضية لا محل لها من الإعراب ، فهي زائدة مضافة للمعنى ، بحيث أنها لا تؤثر في حالة عدم تواجدها على المعنى وعلى سياق الكلام ..
ثالثا : وظائف الجملة الاعتراضية
ذكر علماء اللغة عدة وظائف للجمل الاعتراضية ومنها :
1ـ تقوية الكلام.
2ـ تحسين المعاني.
3ـ التوكيد .
4ـ إظهار الأهمية .
5ـ التقرير .
وقد قال العرب : إن من سنن العرب أن يعترض بين الكلام وتمامه كلام لا يكون إلا مفيدا ..
وبالنظر لقيمة شعر الأستاذ ناجي الحرز دلالة وبلاغة واشتقاقا لغويا فإنا نسلط الضوء على جمله الاعتراضية التي تزيّن بها ديواناه (نشيج ونشيد) و (خفقان العطر) وللمعلومية فهما ليسا بالجديدين تاريخا في طرحهما ، ولكنهما ـ والحق يقال ـ لجديران بالتفحص والتقصي لاقتناص الممكن مما يتأتى من إبداعهما وإسهامهما في إثراء المكتبة العربية الشعرية ..
خامسا : نماذج من شعر الحرز
وهنا سأعرض للأمثلة وأصنفها حسب نوعها إعرابيا وتصنيفها حسب ورودها في ديواني الأستاذ ناجي الحرز (نشيج ونشيد) و (خفقان العطر)..
1ـ الجار والمجرور :
نرى بأن أداة الجر والاسم المجرور بعده تكرر أربعة أبيات وهي :
* وآمالي التي ازدحمت عجالى
ـ بيوم لقاك ـ ملت من حراني
قصيدة : (حنانك يا شهي)
*وعلى أبواب من لا
زلت ـمن دوني ـ ترعى
قصيدة : (الدمعة الثالثة)
* إني أنا الظمآن يا حسناء وال
ويل ـ من الشوق ـ لمن سقاني
قصيدة : (حسبي)
2ـ أداة النداء :
*وصبري عنك يوشك أن يشق الـ
ـحرائق ـ ياحبيبي ـ في جناني
قصيدة : (حنانك يا شهي )
*فلقد روعت بالهجران ـ يافاترـ قلبي
قصيدة : (الدمعة الثالثة)
*فتسللي كالعيد ـ يا ليلاي ـ
في عيني وليده
قصيدة : (يومان)
3ـ الحال والظرفية :
*ليسلمنا يوم لبس القماط
ـ صغارا ـ إلى يوم لبس الكفن
قصيدة : (الوهم الكبير )
*وتلفت النسرين يسأل
عنك ـ مشدوها ـ بريده
قصيدة: (يومان)
*هي ذاتها الوتر الذي طفحت على
أنغامه ـ بعد الفراق ـ جراحي
قصيدة : (في شرك الدموع )
4ـ الجملة الفعلية :
*أخشى عليك ـ تقول ـ إن فارقتني
فأنا التي أوصلت حبك للجنون
قصيدة : (قالت سأرحل عنك)
5ـ تصنيفات أخرى مختلفة :
*ليس كالشكوى ـ إذا
ملّك من ملّك ـ ذنبا
قصيدة : (الدمعة الثالثة)
* منذ أن عاف لذاذات الهوى
ـ ويح قلبي ـ وأباها من سواك
قصيدة : ( الخطو العاثر )
*أعليّ يا زمن الرواغت حاشدا
ـ كيما أقر على الهوان ـ كتائبا
قصيدة : (هيهات)
سادسا : ملاحظاتي على هذه الظاهرة
وبعد حصر الشواهد تقريبا حسب ما وضعها وأرادها الشاعر الأستاذ ناجي، وليس حسب ما أقرر شخصيا أسجل هذه الملاحظات على الاستخدامات المتقدمة
الملاحظة الأولى: تعدد الأشكال الممكنة للجملة الاعتراضية في بيت واحد ..
يقول الشاعر ناجي الحرز في قصيدته مبينا حال النسرين :
وتلفت النسرين يسأل عنك ـ مشدوها ـ بريده
نلحظ هنا الجملة الاعتراضية عبارة عن حال، واللطيف هنا بأن الجملة الشعرية هنا ثرية التركيب ومتينة السياق بحيث أنه يمكن اعتبار الجملة الفعلية (يسأل عنك ) جملة اعتراضية أخرى.
وتلفت النسرين ـ يسأل عنك ـ مشدوها بريده
أي أن النسرين تلفت بريده مشدوها وهو يسأل عنك ، وهذا محَسّن بديع للمعنى .
وهذا بالضبط موجود في ذات القصيدة في البيت الذي يليه:
فتسللي كالعيد ـ يا ليلاي ـ في عيني وليده
وهنا يا ليلاي أداة نداء ومنادى جملة اعتراضية، ويمكن أن توضع أداة التشبيه والمشبه (كالعيد ) كجملة اعتراضية أخرى:
فتسللي ـ كالعيد ـ يا ليلاي في عيني وليده
فأي عمق تركيبيّ هذا ..!
وهذا يجري في بعض الشواهد الأخرى وإن لم يردها الأستاذ ناجي ..
الملاحظة الثانية : ارتباط الجملة الاعتراضية بالتقديم والتأخير رغم حذفها ..
معروف أن خيارات الشعر تلعب دورا في البناء سواء وفق سياق الوزن أو الكلام الاعتراضي ، وهذا ربما ملاحظ في المثال السابق بشكل أكبر..
وأما السبب الذي يحدو أستاذنا الحرز لمثل هذا الاستخدام ـ مع الوزن ـ التقديم والتأخير ، وهو في لغة العرب من الاستراتيجيات المستخدمة أهمية المتقدم، وهذا أيضا قد يقدح بزناد موضوع آخر في أذهاننا وهو ظاهرة التقديم والتأخير في شعر الحرز فهي ظاهرة أيضا ممكن تناولها من قبل النقاد والخبراء ..
الملاحظة الثالثة : الاستخدام المتنوع لأجزاء الجملة فضلا عن شبه الجملة والكلمة الواحدة ..
فالشائع كثيرا هو استخدام الجملة الاعتراضية كجمبة تامة المبتدأ والخبر، أو جملة فعلية ، ولكن نجد شاعرا بقامة الحرز ابتكر أو عزّز هذا الاستخدام وجعله مشاعا في شعره وإن قيل بأنه ربما كان موجودا في نماذج سبقته، فالمراد بأنه تعمّد أي الأستاذ ناجي هذا الشيء وأبرزه، فلذا تجد النداء والمنادى، والتشبيه وأداته، والدعاء، والحال وهلم جرا في استخدام الجملة الاعتراضية ، وهذا يجعلنا نبتكر مسمى جديد وأكثر تفصيلا فقد نخرج بـ( العبارة الاعتراضية) أو (شبه الجملة الاعتراضية) أو حتى (الكلمة الاعتراضية ) ، وهذا نحسبه ابتكارا واشتقاقا يضاف كسابقة فيما أحسب اشتهر بها الشاعر ناجي الحرز .
الملاحظة الرابعة : تعدد الصراعات والأصوات التي يمثلها الحرز ..
ميزة الكتابة العالمية، فالعالمية شعور شائع يعبر عنه فيما أزعم بصوت الفرد الذي يتقمص حالا ويسقطها على نفسه، وربما لا تكون حاله بالضرورة، ولكنه يمارس انسانيته وإن لم يمارس نفسه أو ذاته العليا ، وربما هي هي ذاته، ولكنها اندفعت في اللا شعور حتى خرجت بهذا القناع ..
فتجد على سبيل المثال النداء المقحم فجأة في عرض صورة شعرية دليل على التداخل وسماعه للأصوات الداخلية ..
الملاحظة الخامسة : الثراء التركيبي والدلالي للجملة الشعرية لدى الحرز..
تتعدد المادة الخام وهي اللفظة أو المفردة لدى الأستاذ ناجي ، وهو قادر على عجن ثقافة وشخصيته وإسباغ جزء من انعكاساتها في الصورة التي تمثلها جملته الاعتراضية أو ما يندرج تحتها كما أسلفت من قبل ..
وهذا يساعد كثيرا على نظرية تعدد القراءات التي تقفز للذهن في تجربة ناجي أو ما عبرت عنها بعض مدارس النقد بالنظرية التدميرية للمعنى .
الجملة لدى ناجي الحرز في سياق الاعتراض جملة متداخلة النغمة، مختلفة الحس، معقدة العمق ، تحمل الهاجس، وتحمل الباعث والدافع، وتحمل الغاية، وكذلك تحمل في طياتها الصراع بين الواقع والمأمول ..
وليس من السهولة بمكان الرجم بحقائق هذه الاستخدامات وما ورائها إذا اتسع العمق وتعددت الأوجه الممكنة، وهذا في حد ذاته أمر لغوي لذيذ، يشعرك بأنك أمام مبدع لديه ثراء لغوي جم وغزير ، فلا ريب في ذلك كونه نخلة أحسائة باسقة ، ولسان ناطق فصيح غير ذي عوج ..
جديد الموقع
- 2024-12-24 الشاعر علي النحوي يشعل الجمهور بقصائده الفنّية الإنسانيّة
- 2024-12-24 جمعية الأدب بالأحساء تحتفي باليوم العالمي للغة العربية
- 2024-12-22 احنا جيرانه (ص) أهداها الله كفوفه (1)
- 2024-12-22 يا يوم لغتي .. أينك أم أيني عنك
- 2024-12-22 ألم الرفض الاجتماعي
- 2024-12-22 نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته أبكر مما تظن
- 2024-12-22 الكتاب السادس عشر لـ عدنان أحمد الحاجي (تطور اللغة واضطراباتها وعسر القراءة عند الأطفال)
- 2024-12-22 تأثيرات لغوية للقراءة الرقمية
- 2024-12-22 الزهراء (ع) .. المجاهدة الشهيدة
- 2024-12-22 نحو كتب في الشوارع