2024/11/09 | 0 | 193
حادثة شارع الكوت
كنت أراهن - على الأقل بيني وبين نفسي - أنه لا يستطيع تجاوز الشارع الذي يفصلنا، كان كعادته كل مرة أرى ملامحه من بعيد، يبتسم لي ملوحا بكلتا يديه حتى يتأكد أني أراه.
وكونه شارعا رئيسيا وحيويا، كان لا يخلو من ضجيج البائعين والمارة، بالخصوص أن قبالة سوق القيصرية يقع في الجهة المقابلة محال تجارية لبيع الأرزاق والأواني والمكسرات وينشط كثيرا يوم الخميس من كل أسبوع، حيث يحط فيه أصحاب البضائع المتنقلة الذين يأتون من خارج الهفوف من قرويين وبدو رحّل محملين بشتى اليضائع المتنوعة. كان نهار الخميس بالنسبة لنا نحن أبناء الكوت الساكنين في الطرف الشرقي منه، المجاورين للسوق هو مرتع للتسلية والاكتشاف الجميل لعالم الناس.
في هذا اليوم تحديدا من كل أسبوع كان يرفع يديه ويسلم بعد ابتسامته ثم يختفي وسط الازدحامK في البداية كنت أظنه سلاما عابرا تفرضه المجاملة، وذلك عندما تقع عينك على شخص يشتبه في معرفته المسبقة بك فتبتسم له وكل واحد منكم يذهب في طريقه. لكن سلامه تكرر في كل يوم خميس وبنفس الطريقة والابتسامة ذاتها، والأدهى والأغرب أن توقيت سلامه في كل مرة لا يتجاوز الساعة التاسعة صباحا. طبعا كنت في عمر لا يسمح لي أن أعرف مواقيت ساعات اليوم ولا دقائقها. لكن عندما أسترجع تفاصيل هذه الحادثة الآن، فأنا لا أملك سوى التخمين بدلالة القرائن التي أتذكرها.
في الأسابيع الأولى لم أعره انتباها واهتماما، لذلك لم أدقق في تفاصيل وجهه ولا ملابسه ولا جسده، إذ مثله أمثال يعبرك يوميا، ولا مجال عندك للتفكير في توقع رؤية أشخاص مميزين يلفتون نظرك، فأنت في مثل هذا السن لا تفكر سوى بشيء واحد هو اكتشاف عالم السوق تحت ضغط التسلية.
لكن حين تكررت الحادثة أصابني خوف وارتباك، حتى أنني تخلفت عن الذهاب إلى السوق لمدة أسبوعين متتاليين، وتخوّفت أن أخبر والدتي أو والدي. لكن سرعان ما صرفت النظر ونسيت الموضوع تماما. فقررت في الأسبوع الذي يليه أن أذهب بكامل نشاطي ولعبي برفقة شباب الحارة.
وحدث ما لم أكن أتوقعه تماما، بينما كنت أنظر إلى عربات البيع المصطفة على جانبي الشارع، والتي كانت تبيع السبحات والأحجار الكريمة، وأصوات أصحابها «غالبا من الأخوة اليمنيين» ترتفع وتنخفض حسب رؤية الزبون، كنت أمامه وجها لوجه، كان متكئا على عربته، وصوته كأنه قادم من ليالي ألف ليلة وليلة، عرفني وعرفته، ابتسم نفس ابتسامته، وخمّنت سريعا أن تفاصيل ابتسامته عن قرب تختلف حين تشاهدها عن بُعد. لحظتها شعرت باطمئنان شديد، لأن ابتسامته الغامضة عن بعد تحولت إلى براءة شخص يريد أن يقول بابتسامه ما يريد أن يقوله بالكلام. «لا عليك أيها القارئ بعد هذه السنين أنا أحاول استرجاع الموقف من الطفولة متأولاً هذا الموقف بوعي الكبار».
وقبل أن أبادره بالحديث، حيث شجعتني ابتسامته بالسؤال عن نظراته الحادة من بعيد، وتلويحه يديه كلما رآني، قال لي: اسمي عامر وأنا لا أعرفك، لكن لا تستغرب من تصرفي.
في هذه الأثناء أخرج من جيبه صورة لشخص بالأبيض والأسود مكتوب خلفها «استديو الزهراء أخي علي يوم الجمعة سنة ١٩٧٥م».
وضع الصورة أمامي وقال لي أنك تشبهه تماما حتى ظننت أنك هو وقد عاد من عالم الأموات، لم أنبس بكلمة من صدمتي واندهاشي.
والمفاجأة الكبرى التي لن أنساها طوال حياتي أني رأيت الشخص نفسه في زيارتي صنعاء عام 2005.
وهذه قصة أخرى تتطلب سردا ومقالا آخر.
جديد الموقع
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد
- 2024-11-21 القراءة للكسالى
- 2024-11-21 القراءة واتباع الأحسن
- 2024-11-21 روايات أسامة المسلم بين جيلين.
- 2024-11-21 ( غرق في المجاز، مَجازٌ في الغرق ): قراءة في ديوان الشاعر جابر الجميعة
- 2024-11-20 الدكتور عبدالمنعم الحسين يدشن حملة التشجير الثالثة ببر الفيصلية