2024/03/24 | 0 | 1536
قراءة في ديوان: (قبل التيه برقصة) للشاعر الناقد الأستاذ هاني الحسن
الوصول لجمالية الحياة..
لا شك أن من يرى أن الشعر إنما يُكتب لمجرد الاستمتاع والإمتاع وحسب فهو مخطئ تمامًا، فالشعر هو وسيلة لغاية مهمة ألا وهي الوصول للجمالية الحقيقية للحياة، والشعر يُفلسف العلقة بين الشاعر والحياة؛ خاصة إذا ما كُتب بفلسفة شاعرية مشرقة، فالشعر أعلى قيمة من الفلسفة ذاتها، لا غرو إذا ما علمنا أن الثابت تاريخيًا أن الشعر أقدم من الفلسفة بمراحل، فالشعر يمثل تجربة حياتية صرفة، وقيمة إنسانية جمالية، ورؤية عميقة تعبر عمّا يجول بداخل الشاعر، الذي يتولى نقل ذلك كله إلى الآخر بكل تفنن وتمكّن حيث يستقلّ الشاعر اللغة ويطير بجناحي الخيال الخصب؛ ليصل إلى المتلقي بكل رشاقة وبراعة، ولن يصل إلا إذا كان الشاعر محاطًا بالقلق، مسكونًا بالشك، ممسوسًا بالدهشة الشعرية التي يبحث عنها ليودعها نصوصه الشعرية بشاعرية بديعة، وهذه هي السمات الشعرية العليا التي تمثلت في نصوص شاعرنا الهانئ الروح والقلب معًا الشاعر والناقد الأستاذ هاني الحسن في ديوانه: (قبل التيه برقصة)، ذلكم الديوان الأشبه برحلة مكوكية في عالم مليء بـ(جذوة الشعر) المفتوحة والمتفتحة على الحياة، تحكي غربة الشاعر الذي يصدح بـ(غناء منفرد) للتغزل تارة بـ (حلوة الثغر)،وأخرى بـ (ذات شال أحمر)، يستسيغ ذلك بعد (عودة الضحكات) إلى قواعد روحه سالمة، يصنع ذلك كلما تحرك بـ(جيش من شبق) ملوّحا بـ (سيف القصيدة)، ماضيا بـ (خطوة التيه) المليئة بـ(جذوة الشعر) الملتهبة، و(رغبة الحب) العائمة على (الريح الأقوى)، والتأمل الصّرْف في (تضاريس وجه مرآة) الذات المنزوعة من (حديث الأضالع)، و(رفيف بوح) مغمور في (خمرة الآمال)، وذلك بُعَيدَ رَمْي (زجاجة) في ممرات الوجدان، وقراءة (رُقْيَةِ الحَظِّ) بـ (أقصى تخوم الشك)؛ ليَعْبُرَ تلكم (الجسور) ببراءة (طفل في الأربعين)؛ وَيداويَ ببسلم يراعه (جرح القصيدة)، فيرفعها بـ (قبس من شُعلة الحنين) (إلى سدرة المشتهى) بـ (ألف رقصة) ورقصة؛ كَيْ يُثْبِتَ بذلك أنه (رسول الحب) السَّاكن كـ (تيهٍ بين الرُّوح والبَدَن).
لغة سامية، وخيال مجنَّح..
من الواضح أن الشاعر في هذا الديوان يعيش بروح شاعرية مقرونة بالتأمل في كل شيء من حوله، يتحرك من خلال نصوصه بخطى مهندسة ومدروسة في اللاوعي يشدك من أول النص إلى آخره بحبكة شعرية متينة، لا ينتمي للمحاكاة بقدر ما يكتب بمقدرة شاعرية بليغة، بلغة سامية متعالية على النمطية، فلغته سهلة ممتنعة، وهي مثقلة بالتراكيب اللغوية التي يُحسن فيها رسم الصورة الشعرية عن كثب، ويمكن لنا أن نصنف شعره بأنه واقع في مساحة الشعر غير المألوف في بعض القصائد، وهذه التجربة واضحة الملامح في قصائد عدة من هذا الديوان، ومنها: (طفل في الأربعين)، و(رفيف بوح)، و(الريح أقوى).
وللخيال المجنح في شعر شاعرنا الحسن حكاية أخرى، فخياله يندفع من خلال فوهة مدفع الذات التي عادة ما ينطلق منها حينما يريد أن يُفجّر الفكرة المغلفة بالحكمة، يقول:
كلُّ العيونِ تُرِيدُني جَسدًا يُرَى وَأَنَا الخَيَالُ مُمَوَّجٌ وَمُحَرَّرُ
لـَمْ أَنْزِفِ الـمَعْنَى الـمُؤَجَّلَ فـِي دَمِي إِلّا وَأُفْسِدَ فِـي الحَنَايَا بَيْدَرُ
أَوْ أَنْبَعِثْ بِكَتَابَةٍ لِـهَـوَاجِسِي إِلّا وَضِلْعٌ مِنْ ضُلُوعِيَ يُكْسَرُ
لا تختلف هذه الطاقة المليئة بالموهبة الشعرية في قصائد الشاعر الخليلية عنها في التفعيلة إلا بمقدار ما تتوقف السردية عند القافية التي لم أجد أنها تعيق الشاعر لا تعبيرًا ولا تصويرًا ولا رسم دهشة؛ ذلك لأن الشاعر مسكونٌ بالقلق محاط بالشك لا يعترف باليقين أبدًا، فهو يسير متلبَّسا وملتبسًا بالشك والقلق:
إنَّ القَصِيدَةَ لَبْسُ الرُّوحِ مِنْ وجَــــــــع فَهلْ يَعـــيشُ الذِي بالشّكِّ ما التَبسَا؟
مساحة موزونة من المجاز:
يعطي الشاعر مساحة موزونة للمجاز في شعره، حيث يحمّل المفردة ما لم تحتمل وربما أخفى حقيقته الوجودية خلف مفردات المجاز وأضمر هُويَّته فيها، وفي بعض نصوص هذا الديوان تجد كمية لا بأس بها من الذكاء الشعري في استخدام المجاز، فالشاعر يأخذ من عالَمِ المجاز ما يعينه على حمل المفردة على غير حقيقتها بحيث لا يكون المجاز السمة الخالصة في شعره الذي ينصرف إليه بكله ويتكئ عليه وحده في كل ما يأتي عليه من نصوص، يقول:
فِي حقيقةَ مَا أُحِسُّ وأشعرُ إذْ أَخْتفِي خَلْفَ المجازِ وَأُضْمِرُ
ويقول:
أَلْفَيْتُ مِنْ لَبَسِ المَجَازِ هُوَيَّتِيَ وَفَصَمْتُ عُرْوَةَ مُنْتَهَى الإِيمَانِ
تفاوت كميّ وكيفيّ..
أما عن التجربة الشعرية لدى شاعرنا الحسن فهي تجربة متصاعدة في كمية الرؤى، والتدفق الشعري، والهمس الوجداني، والقيمة الجمالية، والحبكة الشعرية، والثراء اللغوي الذي يتفاوت بين نص وآخر، فمن أقدم نص في هذا الديوان كتبه الشاعر الحسن في عام 1996م القصيدة المعنونة بعنوان: (ذات شال أحمر) وإلى آخر ما نشره في هذا الديوان تجد ذلك التفاوت الكمي والكيفي كذلك، خاصة ما يتعلق ببعض ملامح النص، وأخص بذلك الرشاقة الشعرية ومتانة النص السِّمتينِ الَّلتينِ تنمّان عن تطور الشاعر عبر تاريخه الشعري، كما أن إحساسه العقلي والوجداني وحتى البناء الشعري والأسلوب المتمثل في استخدام الاستراتيجيات الشعرية والأدوات الناهضة بالنص والمضامين كلها ساهمت في صنع الفرق بين كل جيل من أجيال نصوص هذا الديوان، لا غرو فإن أربعة وعشرين عامًا كفيلة بأن تصنع هذا التفاوت الملموس؛ لذا فإن هذا الديوان يقدّم مجالاً خصبًا للدراسات والقراءات النقدية التي تبحث عن الفروقات في نصوص الشاعر، وهذا أمر نادر في قبال ما يُطبع من دواوين بعض الشعراء المعاصرين الذي يُصدرون دواوينهم خلال عام أو عامين أو أقل أو أكثر ربما لا يصل لهذا العمر الشعري الزاخر بالمقارنة.
إنسانية طافحة وتوحّد مع الذات الشاعرة:
لا شك أن الشاعر الحسن عبر نصوص هذا الديوان تخطى الرتابة المكررة والنمطية المعهودة، متجاوزًا بذلك الأسلوب الكلاسيكي البحت، وربما لامس في بعض نصوصه تلك الحداثة ملامسة لكنه لم يوغل فيها إيغالاً واضحًا، فلا يكاد يُحسب عليها، كما أن هذه النصوص تحمل المتلقي على أن يعيش حالة الجمال الشعري المليء بالإنسانية الطافحة، فلا يكاد يُفرّق بين الشاعر وبين مفرداته؛ لأن المتلقي إذا ما أراد أن يقرأ النص لا بد أن يقرأه من خلال الشاعر لا أن يقرأه بعيدًا عنه؛ ولأن تلكم النصوص مرّت من خلال الشاعر ذاته فلامست وجدانه، وهذا ما يُسمّى بـ(الذات الشعرية) إذ يتوحد الشاعر مع نصه فيكون الشاعر ذات نصه، ويكون النص ذات الشاعر، يقول ميشيل فوكو في هذا المعنى: " مشكلتي أن أصنع ذاتي، وأن أستدعي الآخرين إلى أن يقوموا معي"، لاحظ معي هذا المعنى في قول شاعرنا الحسن في قصيدة: (خطوة التيه):
قُرْبَانُ بَحْثِي لَمْ يَزَلْ فِي تِيهِهِ وِالتِّيهُ نَحْوَ حَقِيقَتِي قَرْبَانِي
كَالصَّخْرِ أَسْئِلَتِي عَلَى هَامِ الرُّؤَى أَمَّا يَقِينِي كَانَ مِنْ أَوْثَانِي
فِي الجُزْءِ مِنْ كُلِّي يَقِينٌ أَوْحَدٌ أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ أَوّلٌ أَوْ ثَانِي
وفي بعض نصوصه خاصةً التفعيلية منها يتضح ذات المعنى بشكل أكثر دقة؛ وذلك في استخدام الشاعر الضمائر الحية التي تجعل من النص منتميًا إليه في حالة من التماسك والتلاحم المتين الذي لا ينفك عن ذات الشاعر وكأنه الوجه الآخر له:
فَخُذْنِي إليَّ لعلي أعُودُ سَريعًا
أطِيرُ وأكسرُ كل الحواجزِ
عُدْ لي ببعضٍ مِنَ الحلم
يلهمني لاقتفاء السُّرُورْ
وكن ليَ بَعْضًا مِنِ العُمْرِ
لاَ تَقْتَفِيهِ الدُّهُورْ
وانتصر النَّص..
على الرَّغم من أن نصوص الشاعر استضافت الحياة بأشكالٍ متعددة حيث النوازع الإنسانية بحلوها ومرّها إلا أنني أدعوه إلى أن يتوحّد مع الحياة أكثر، ويعانقها عناقًا متشبعًا، ويحتضنها احتضان الأشجار لمثيلاتها، فالعناق لغة الحُبّ الصَّامت؛ فإذا ما ولج عالَم هذا العناق فإنه سيكون قادرًا على صنع الدهشة الحقيقية في رسم الصورة الشعرية البديعة؛ نظرًا لما يمتلكه من حِسٍّ شعريّ مثير، وحدس نقديّ لافت، ومشاعر طافحة، وثقافة عالية، ورؤية شاعرية حادّة، وبصيرة متّقدة.
ففي نصوص هذا الديوان تجد الشاعر الإنسان الذي تختلط فيه المشاعر، وتنتفض في نصوصه المعاني، فينتصر النص لصاحبه، حيث يتآزر اللفظ مع المعنى تآزرًا ملحوظًا، وكلاهما ـ أي اللفظ والمعنى ـ ينتميان للنص، فلا يستوحش أحدهما الآخر، وكلاهما يمثلان الشاعر خير تمثيل.
جديد الموقع
- 2024-09-08 عبد الوهاب أبو زيد يشعل منصة قوافي بحضوره الآسر
- 2024-09-07 مذكرات امرأة تزوجت قارئًا
- 2024-09-07 مذكرات امرأة تزوجت قارئًا
- 2024-09-07 وزارة التعليم تحتفي بتتويج أبطال مسابقة تحدي "القراءة العربي" في موسمه الثامن على مستوى المملكة
- 2024-09-07 برعاية أمير الشرقية .. مؤتمر دولي يسلط الضوء على أحدث التطورات في علاج السكري
- 2024-09-07 القراءة تحت الضوء الخافت لا تضر بالبصر
- 2024-09-07 افراح الغزال والسعيد في قاعة الدانة البيضاء بالهفوف
- 2024-09-05 العيون الخيرية تقدم 50 أضحية لمستفيديها مقدمه من مشروع المملكة العربية السعودية بالتعاون مع جمعية الدعوة والإرشاد بالعيون " 380 أضحية قدمت منذ مطلع أغسطس حتى اليوم "
- 2024-09-05 سمو محافظ الأحساء يشارك في ورشة عمل برنامج "شتاء السعودية"
- 2024-09-05 سمو محافظ الأحساء يرأس اجتماعاً تمهيدياُ لمناقشة تشكيل لجنة عليا لتطوير النزل الريفية