2021/09/17 | 0 | 2497
هل حقاً رحلت؟
حتى هذا اليوم الخامس من رحيلك، لم أستوعب!
إلى متى؟
لا أدري!
ما أعرفه أن زوادتي في الطريق ملأى بك.. لم تزل حتى لحظتي هذه، تروي عطشي، ولو تخيلاً!
أو مجرى العروق، وعقلي الباطن!
وأنا اليوم عائد من مجلس العزاء المقام في بلدتنا، توجهتُ إلى أداء صلاة المغرب، في مسجد الإمام علي عليه السلام، خلتُني سؤصلي بإمامتك، كعادتي التي فيها لا أتصور أحدًا غيرك، حتى أتفاجأ بعدم وجودك، لظرف ما، وقد نوبت غيرك، فأستسلم، وأظم أسئلتي المختلفة وليست الفقهية فحسب حتى أراك، لأنك تعتني بالإجابة علي وإيصالها إليّ حتى الفهم التام بأسلوب بسيط مليء بابتسامتك الرطبة التي لا تغادر شفتيك أبداً.. عندما وصلتُ المسجد.. آه ثم آه..
لم أزل ذاهلاً!
مذ سمعت بخبر موتك، وجئتُ من مدينة الخبر وحضرت تشييع جنازتك، وكأنك لست أنت.. إلا أني الآن تنبهتُ بأني خرجتُ من مجلس فاتحة العزاء المقام عليك!.
مرتبكاً، محزوناً، منهار الروح، مقبوض القلب.. دخلتُ المسجد، فوجدتُ سجادتك والمحراب ومنبر الحسين عليه السلام إلى جانبهما يبكون عليك!.
بلى يبكون، معيتهم المصلين.. يرددون سورة أم الكتاب، ويحوقلون، بقلوب منكسرة، جعل جسدي ينهار..
هل حقاً رحلت؟
لم أستوعب!
لم ترحل من ذاكرتي..
ولن ترحل بالتأكيد، ولا أعتقد أن ذاكرتك فرغت من المواقف التي دارت بيننا، روحك الآن شديدة القوى منكشف لها كل شيء.. تتذكر.. ليس فقط لأننا جيران بالأمس، في أزقة البلد، وكنت للجار بما أنزل الرحمن من الحق له، بل كنتَ أكثر من ذلك، قارورة دواء ناجعة، تشفي كل متناول لها على حد سواء، كأسنان المشط..
بل أنت معلمي..
ولم آتِ بجديد عندما أقول هذا!
فأنت معلم الجميع، بالطبع ليس فقط في الحوزة العلمية، وأنت تعطي درس الفقه، أو الأصول، أو اللغة العربية، أو ممارسة الخطابة وإمامة المصلين، وغيرها التي اعتدنا على أن يقدمها معظم علماء الدين داخل الحوزة، بل وخارجها حيث درَّستَ في منزلك العامر، كما علمنا، كتاب قطر الندى وبل الصدى وجزء من الألفية في اللغة العربيه، وغيرها.
في عمري الثالث عشر ، عام ١٤٠٢هـ تقريباً، بينا كنتُ، في المدرسة المتوسطة، تكأدني ثقل طلب المعلم بخط الدرس على لوحة ورقية، لأعلقه على جدار الصف. لم أجد أحدًا كغيري من الطلاب يخطه لي، لكن كأنما الوحيَ الإلهي ساقني إليك، رغم ظني بأنك ستكون ضمن بعض طلبة العلوم الدينية الذين سيتعللون بالانشغال عن مثل هذه الهوامش بالنسبة إليهم. خاب ظني، فقد خططتَ لي الدرس، غضون ساعات، بصدر متسع، وسلمتنيه شاكراً لي لأني اخترتك! سبحان الله!، أنت من تشكرني!
وخلتُني سأدفع لك المال، ولأني لا أملكه، جهزتُ في جعبتي الكثير من عبارات الشكر والثناء والتقدير لأتلوها على مسمعيك، إلا أنك دفعت باللوحة إليّ، ولم تنتظر مني شيئاً.. فغادرتك راقصاً بهجة وحيوية ونشاطا..
حينذاك وكأن خطك الأزرق الذي دونتَ به الدرس، شعرتُ وكأنه يقول لي بإمكانك أيضاً أن تكون خطاطاً مثله، فارسمنا كما رسمنا هذا الشيخ الورع الزاهد التقي، فما لبثتُ حتى، وكأنما الله سددني، فبدأتُ أتقلد الخط، فتعلمتُ، وغدتْ الحروف تخط ذاتها من بين أناملي وعينيك ترقباني بغبطه، وأنفاسك تسددني بفرح، وابتسامتك تزين الحروف وترسمها في قلبي بإتقان لم أعهده، بل لم يعهده معلمو مدرستي الذين دائماً يكتبون في دفتري (حسِّن خطك)، أدهشتهم جميعاً، فنهجت نهجك مع الآخرين، فذاع صيتي في البلد خطاطاً.
أرأيت؟..
ألم أقل لك بأنك معلمي؟
ولم تكن أيضاً تعلمنا دروس الفقه والتربية، ونحن في عمر الزهور، في البرامج الصيفية السنوية وفي برامج الاعتكاف والتكليف، أو تعلمنا ونحن شباباً حيث تقوم بدور الإصلاح وبناء جيل واع ناضج من خلالنا، أو تعلم شيوخنا بعد أن تنهي صلواتك اليومية في المسجد.. كنتَ تزيدنا علماً وتناقشنا بأريحية، دون أن تخاف فوات وقتك الثمين، بل كنتَ معلماً لكل شخص على حده، كلٌ في مجاله، ومعلمي خاصة في كتابة القصة الأدبية القصيرة.
بلى كنتَ كذلك!
فعندما بدأتُ الكتابة فيها، عام ١٤١٢هـ، اخترتك خصيصاً لتدفعني، وفعلاً تم لي ذلك، فلقد صححتَ، وجهتَ، نقدتَ، قوّمتَ، أضفتَ، بنيتَ، وحفزتَ.. حتى زججتَ بي إلى أعماق بحرها المتلاطم لأغوص وحدي، واثقاً مطمئناً، فقررتُك عيناً، حين فزتُ بقصصي بالمراتب الأولى في مؤسسات وأندية الأدب والثقافة المختلفة.
بالتأكيد تذكر هذا.
لاشك بأن روحك النقية هي من كانت تسعى معي، حتى كنتُ ما لم أكن؟
وربما يتوقع آخرون بأن روحك بعد هذا غادرتني.
لااااا..
بل لازمتني إلى أن شاركتُ في مناسبات أهل البيت عليهم السلام بكلماتي المتواضعة، بل اقتحمتُ دائرة العزاء لاصطف مع كتاب شعر العزاء بل مع الرواديد مردداً، إلا أني لم أستطع الإكمال في هذا الصدد، فانشأتُ مجلة (الرسالة) في البلد، فدعمتَني بقوة الرأي، بالمال، بالإشراف، بالتصحيح، بالمراقبة، بالمتابعة، بالاحتواء..
فشعرتُ بأنكَ لستَ فقط معلماً دينياً أو ثقافياً، بل صديقاً لروحي التي انفتحتْ عليكَ، لتستشيرك في أخص خصوصياتها، فشاركتك أموري العملية، الاجتماعية، الاقتصادية.. تزودني بالرأي وتحثني على الدرب، بصدر نفاث بالرحابة والمسرة، ما يوافق الشريعة لنفوز برضا الله دنيا وآخرة، ثم ما يرضينا.
لم تنس بالتأكيد هذا؟
و مؤكد أنك لم تنس مشاركتي إياك فيما يخص مناسبات أهل البيت عليهم السلام، أفراحهم وأحزانهم، وفي الزواج الجماعي، رحلات العمرة والزيارة، وكثير من البرامج الدينية والثقافية مباشرة أو جندياً خلف الكواليس..
مؤكد بأنك ستشهد أمام الله لي بذلك، وستشهد بأني اخترتك لعقود قرآن معظم أبناء وبنات عائلتنا، وكتابة الوصايا، وتدوين المبايعات، وتلقى الصدقات، والتبرعات، وحسابة الأخماس والإرث، والكثير الكثير..
فلم أجدك متذمراً، أو متبرماً، أو معرضاً، أو معتذراً..
لافرق بين منتصف الليل أو وقت الظهيرة في إجابتك مطالبي..
ولا فرق بين أن أراسلك بالرسائل النصية أو عبر برامج التواصل الاجتماعية المختلفة أو عبر المحادثات الهاتفية المباشرة، فتجيبني شهابياً.
بل لو تاخرتُ في عمل خاص بي، تسأل عن الأسباب، لتدفع بها عني، وتعزز مسيري حتى يتكلل بالفوز إلى جانب فوزي بروحك العالية الخصبة المرحة الفرحة الهادئة.
والكثير الكثير مما يراد له أن يُذكر!
وعلى هذا، الآن تريد مني أن أتقبل رحيلك؟
لا أريد أن أتقبله!
ولا أتقبل حقيقته!
فقلبي الذي ربيته على حبك ووجودك وعلى عطاياك، حتى كنتَ لي كأخ أكبر، بل أكثر، لايتحمل أن يستيقظ على حقيقة هذا الأمر المفجع.
آه، ثم آه..
لن يرغمني على التقبل أحد، إلا أمر الله الذي هو فوق كل أمر، ومشيئته هي فوق كل مشيئة، تجبرنا أن نتجرع الحقيقة مهما علت مرارتها وقسوتها، لأننا راحلون أيضاً، وإلا لك العتبى إن فعلنا.
فيا مربيَّ وأخي ومعلمي وصديقي وشيخي الحبيب الفاضل(حبيب بن علي الصعيليك)، أعذر تقصيري، وقصوري، ولك عاطر سلامي، وخالص دعائي، لروحك المتواضعة، المنشرحة، أزف نفحات روحي، وريحان قلبي، ووالله كم تمنيتُ لو كنتُ متُّ دونك، أو قبلك. فرحمك الله رحمة الأبرار والصالحين، وجزاك الله عنا خير الجزاء، وأسكنك جنات النعيم، مع محمد وآل محمد الطاهرين عليهم الصلاة والسلام أجمعين. ونسأله تعالى أن يبقينا على المسير الذي تركتنا عليه وروحك تشاركنا وترقبنا وتحقق لنا مزيداً من الفوز دنيا وآخرة.
عظم الله أجرك ياسيدي ومولاي ياصاحب الزمان.
جديد الموقع
- 2024-12-04 ذاكرة التفاصيل لا يكتمل بلوغها إلا في سن المراهقة عند الأطفال
- 2024-12-04 حياتنا
- 2024-12-04 *جهود مميزة لمؤسسة رعاية الفتيات بالأحساء في تطوير الفتيات الأحداث*
- 2024-12-04 أمير الشرقية يكرم داعمي جمعية "إيثار"
- 2024-12-04 يضاف للكليه التقنيه الرقميه للبنات بالأحساء
- 2024-12-04 سمو محافظ الأحساء يتوج فريق شرطة المحافظة بطلاً لبطولة القطاعات الحكومية تحت شعار وطن بلا مخدرات
- 2024-12-04 النيابة العامة: إيقاف مواطن بتهمة الاحتيال المالي والاستيلاء على أموال بلغت قيمتها (69) مليون ريال وعدد من العقارات
- 2024-12-03 عوامل احتمال الإصابة بالسكتة الدماغية الحادة
- 2024-12-03 اتحاد الغرف الخليجية يشيد بالمخرجات الاقتصادية لقمة الكويت ويعلن دعمه للتعاون المشترك
- 2024-12-03 برعاية سمو أمير المنطقة الشرقية سمو محافظ الأحساء يفتتح المؤتمر الدولي الثاني للجمعية الطبية البيطرية بجامعة الملك فيصل بالاحساء