كيف يفهم الأطفال ما يجري حولهم بتفاعلهم مع الآخرين، أثارت شغف علماء النفس من فترة طويلة. يمكن للأطفال تعلم مهارات وأعراف اجتماعية مهمة من خلال التعلم القائم على الملاحظة والذي يتضمن أيضًا الاستماع بالملاحظة. [التعلم القائم على الملاحظة هو التعلم الذي يحدث من خلال مراقبة سلوك الآخرين، وهو شكل من أشكال التعلم الاجتماعي (1)]. بيد أنه حين يستمع الأطفال إلى حوارات وأحاديث والديهم أو معلميهم (وهذا ما يقومون به بالفعل!) سيكتشفون قريبًا أن "نسبة كبيرة" منها تنطوي على ثرثرة وشائعات تدور حول تناقل أخبار الناس (القيل والقال)، وفقًا للبروفيسور بول هاريس.
يوضح هاريس: "إنها ثرثرة عمن سيخرج مع من، ومن سُرح وفُصل عن وظيفته، ومن أطفاله متميزون في المدرسة، وما إلى ذلك". وهذا بدوره يطرح السؤال التالي: إلى أي مدى يقبل الأطفال ما يقوله لهم الكبار (أولياء الأمور والمعلمون، مثلًا) أو يشككون فيما يقولونه لهم، خاصة عندما يتعارض مع فطرتهم؟
دراسة جديدة نشرت في المجلة البريطانية لعلم النفس التنموي (2) تقدم بعض الأفكار المثيرة للاهتمام حول الشائعات والتطور والنمو في مرحلة الطفولة [النمو الجسدي والإدراكي والانفعالي والاجتماعي (3)].
بالرغم من أن الدراسات السابقة ركزت على ما يبعث الأطفال على الثقة أو الشك في مضمون الشائعات، فإن هذه الدراسة (2)، التي شارك في تأليفها هاريس وثلاثة باحثين من الصين، تذهب إلى أبعد من ذلك. حيث تناولها بدراسة ما إذا كان الأطفال يحاولون تلقائيًا معرفة ما إذا كان مضمون الشائعة (أو الثرثرة) التي يسمعونها من الكبار صحيحة أم لا، وما هي العوامل التي قد تدفعهم إلى التحقق من صحتها بشكل أكثر. يرى الباحثون أن الحصول على إجابات على هذه الأسئلة من شأنه أن يساعدهم على فهم كيف يتفاعل الأطفال مع الشائعة (أو الثرثرة) ويتعاملون معها، وكيف تتطور مهارات التفكير النقدي لديهم.
لسبر أغوار أسئلتهم هذه التي أثاروها، قام الباحثون بحشد 64 طفلاً من روضة أطفال في مقاطعة تشجيانغ شرقي الصين، واستعانوا ببرنامجين تلفزيونيين مشهورين للرسوم المتحركة: سوبر وينغز (4) Super Wings
ودورية المخالب (5) PAW Patrol.
تم توزيع الأطفال بسن 5 سنوات و 6 سنوات عشوائيًا إلى مجموعتين مختلفتين وتمت دعوتهم بشكل فردي لمشاهدة البرنامجين التلفزيونيين. ونُقلت إلى أطفال إحدى المجموعتين شائعة عن إحدى شخصيات البرنامج التلفزيوني المفضلة لديهم بينما نُقل لأطفال المجموعة الأخرى شائعة حول شخصية لا يحبونها.
سمع جميع الأطفال رسائل إيجابية وسلبية حول شخصيتهم - والتي قيل لهم إنها متعلقة بحدث وقع في الحلقة السابقة من البرنامج التلفزيوني الذي كانوا يشاهدونه - ثم سُئلوا عما إذا كانوا يصدقون ذلك. بعد ذلك، استأذن الشخص الراشد (القائم على التجربة) الذي نشر الشائعات لمغادرة الغرفة وتم استخدام كاميرا مخفية لمراقبة ما إذا كان الأطفال، الذين تم تدريبهم بالفعل على التبديل بين حلقات مقاطع الفيديو على شاشة تعمل باللمس، بعد مغادرته حاول هؤلاء مباشرةً معرفة ما إذا كانت الشائعة التي سمعوها صحيحة أم لم تكن.
النتائج الرئيسة:
الأطفال بسن 6 سنوات كانوا أكثر احتمالًا من الأطفال بسن 5 سنوات للتحقق مما إذا كانت الشائعة التي سمعوها صحيحة.
إذا لم يثق الأطفال في الشائعة التي سمعوها، فمن المرجح أن يحاولوا معرفة ما إذا كانت صحيحة.
مجموعتا الأطفال من الفئتين العمريتين كانت أكثر احتمالًا لئلَّا يثقوا في صحة الشائعة التي سمعوها ومن المرجح أن يحاولوا التحقق من صحة الشائعة التي تعرضت سلبًا لشخصياتهم المفضلة مقابل ما لو تعرضت لها إيجابًا.
لم يكن هناك اختلاف حقيقي في جهود الأطفال للتحقق من صحة الشائعة سواء تعرضت سلبًا إو إيجابًا للشخصيات التي لا يحبونها (غير معجبين بها).
التعمق في دراسة الشائعات
هنا، يتأمل هاريس في نتائج الدراسة الجديدة عن الشائعة وتبعاتها الأوسع:
لماذا كانت معرفة ما إذا كان من شأن الأطفال، في الدراسة التي أجريتها، محاولة التحقق مما سمعوه من شائعات من الأمور التي لها إهمية؟
من الناحية العملية، هذا مهم لأن الكثير من الشائعات كاذبة. ولكن بشكل عام، كان هذا جانًبا من سؤال أوسع عن مدى سذاجة الأطفال الصغار العفوية وعدم تكلفهم عناء الاستكشاف والتحقق، وفي بعض النواحي في المجال المادي، هذا التوصيف لهم صحيح - فهم غير جيدين في التحقق من صحة الشائعات. هذه النتائج مشجعة بعض الشيء، بمعنى أنه ربما عندما يكون للأطفال مصلحة في المعلومات التي سمعوها، أي فيها مصلحة شخصية لهم - لأنهم، على سبيل المثال، مهتمون جدًا بهذا الشخص المعين أو هذه الشخصية المعينة - عندما يسمعون شائعةً تخل بالصورة الذهنية التي رسموها في أذهانهم عن ذلك الشخص أو عن تلك الشخصية، فإنهم يبذلون جهدًا ليتحققوا من هذه الشائعة. إلى حد ما، تعتبر هذه الدراسة غير عادية في إثبات أن الأطفال الصغار أكثر نشاطًا من هذه الناحية، وليسوا مجرد ميالين للإذعان والقبول بما يسمعونه.
ما مدى علاقة نتائج هذه الدراسة بنتائج الدراسات السابقة؟
لقد قمنا بالكثير من العمل حين أخبرنا الأطفال بمعلومة غير صحيحة في الواقع بشأن بعض الأشياء الموجودة أمامهم. لذا، قد نعطي الأطفال بعض الدمى الروسية. ونطالب منهم أن يشيروا إلى الدمية الأثقل في نظرهم؟ وحتى الأطفال بسن 4 أو 5 سنوات سيقولون، "أوه، هذه"، مشيرين إلى الدمية الأكبر. وكما تعلم في الواقع أنها قد لا تكون بالضرورة الأثقل، في تلك الحالة كانت الدمية الأصغر هي الأثقل.. لذا، فإن الطفل الذي أخبر بهذه المعلومات المربكة أو المشوشة، وهو أمر لا يتناسب مع حدسه - يميل إلى الاعتقاد بأن الشيء الأكبر يعني الأثقل - يمكنك تصويره خلسة ومعرفة ما إذا كان مستعدًا للتحقق من المعلومة قبل الإفصاح عنها.
ولدينا الآن دليل قوي جدًا على أن الطفل بسن 4 أو 5 سنوات قد يختار دمية أو اثنتين من هذه الدمى الروسية الكبيرة على أنها الأثقل دون أن يكلف نفسه بأي نوع من التحقق الممنهج قبل الاختيار. لكن حين يبلغ الأطفال سن 6 أو 7 سنوات، غالبًا تلاحظ أنهم دقيقين في اختيارهم للدمى الأثقل. فقد يحملون، على سبيل المثال، الدمية الأكبر في يد والدمية الأصغر في اليد الأخرى في نفس الوقت، محاولين معرفة أيهما أثقل.
الأمر المثير للاهتمام بشأن الدراسة التي نشرت عن الشائعة هو أننا نجد هذا الميل إلى التحقق، هذه الشكوك، تظهر إلى السطح في سن مبكرة. ولكن ما ينبغي لنا أن نأخذه في الاعتبار هو أن هناك شيئين قد تغيرا. من ناحية، [هذه الدراسة التي تناولت الشائعة] انطوت على جانب معلومات اجتماعية عن شخص يحبونه أو معجبين به - قد يكون هذا هو العامل الحاسم، ولكن من الممكن أيضًا أن مجرد إلقاء نظرة أخرى على مقطع الفيديو ربما يكون التحقق من أي الدمى أثقل أسهل من التفكير في رفع الدميتين بيدين في نفس الوقت ومقارنة وزنهما.
"من ناحية، الكثير من جانب العملية التعليمية هي أن يقبل الفكرة التي تقول أن الأطفال يتعلمون بغزارة وبشكل مناسب من ملاحطة أشخاص آخرين، ولكن الجانب السلبي من قيامهم بذلك هو أنهم في كثير من الأحيان قد يكونون عرضة لمعلومات مضللة،" كما يقول البروفيسور بول هاريس
ما هي أهم النقاط التي استفدتها من هذه الدراسة؟
أفترض أن النتيجة الأكثر إثارة للاهتمام هي أنه، عند أخذ أولياء الأمور والمعلمين في الاعتبار، إذا كانوا يتحدثون إلى أطفال وينقلون لهم هؤلاء الأطفال بعض الإشاعات، يبدو كما لو أنه من نتائج هذه الدراسة، أنه ببلوغ الأطفال سن 5 أو 6 سنوات، سيقابلون بنوع من الرفض من معلميهم أو من أولياء امورهم [الذين قد] يقولون لهم: "حسنًا، هل أنت متأكد ما إذا ما سمعته (ونقلته) صحيح؟ اذهب وتحقق من الشخص الذي أخبرك بذلك واسأله مصدر هذه المعلومات. والمعنى الضمني هو أنه حتى في هذه السن المبكرة إلى حد ما، فإن الأطفال، رغم أنهم ساذجون، إلا أن هناك جوانب معينة من تفكيرهم فيها تحفظ. وفي بعض الحالات العملية يتخذون خطوات بشكل عفوي ومستقل ويبادرون إلى التحقق من صحة هذه المعلومات. لكن افتراضي هو أنه يمكن تشجيع الأطفال على القيام بذلك في الظروف المناسبة. ويمكننا أن نتخيل أطفالًا صغارًا يعودون إلى المنزل ومعهم معلومات عن جماعات أو مجموعات معينة أو عائلة انتقلت حديثِا للسكن المجاور أو أي شيء آخر، ويُشجعون على التفكير بعناية أكثر في أي اشاعات أو معلومات سلبية سمعوها.
هل يجب على الوالدين والمعلمين تشجيع هذا النوع من التفكير النقدي لدى الأطفال؟
أعتقد أن استكشاف هذا المجال معقد لأنه من ناحية هناك الكثير من المجالات حيث يتعين على الأطفال، تمامًا مثلنا نحن الراشدين، الاعتماد على ما يقوله لهم الآخرون. إذا أخذنا فقط الكثير من جوانب العلوم في الاعتبار أو إذا أخذنا الأحداث التاريخية في الاعتبار، فليس الأمر كما لو كان الأطفال يمكنهم الاستماع إلى ادعاء له علاقة بالتاريخ، ويقولون، "حسنًا، انتظرنا لحظة، سنذهب ونتحقق من صحة ذلك الإدعاء ونرجع إليك." ما حدث أثناء الحرب الأهلية ليس شيئًا يمكن لطفل يبلغ 6 سنوات أن يتحقق فيه بنفسه أو شيئًا عن تطور الأنواع الحية. ليس الأمر كما لو أن طفل المدرسة الابتدائية العادي سيذهب ويتأمل في نظرية داروين ويتحقق ما إذا كانت صحيحة بالفعل. فمن ناحية، يجب أن يقبل الكثير من العمليات التعليمية أن الأطفال يتعلمون بشكل غزيز ومناسب من ملاحظتهم لأشخاص آخرين (التعلم القائم على الملاحظة)، ولكن الجانب السلبي من تعلمهم بالملاحظة في كثير من الأحيان قد يكونون عرضة لمعلومات مضللة. ولكي نكون دقيقين بالطبع، نحن نعلم أن الكبار (أولياء الأمور والمعلمين) ليسوا محصنين في هذا المجال أيضًا. اكتشاف هذا التوازن بين تشجيع الأطفال على الاستماع بعناية والاستيعاب الاقتداء وبين التوقف والتفكير النقدي والمتحفظ هو أمر صعب.
الدراسات المستقبلية
واقترح الباحثون في ورقتهم أن يؤخذ تأثير الثقافة في سلوك الأطفال في الاعتبار في الدراسات المستقبلية لأن جميع الأطفال في التجارب التي أجروها كانوا متجانسين من الناحية العرقية. كما طرحوا إمكانية استخدام أشخاص حقيقيين بدلاً من شخصيات الكرتونية. ومع ذلك، يشير هاريس إلى التحديات التي تواجهها الكثير من التجارب في علم النفس عند محاولة استكشاف مواضيع دراسات لها علاقة بالعالم الحقيقي (مثلًا، أشخاص حقيقين) ولكن بشرط الحفاظ على سلامتهم من الأذى.
يقول هاريس: "من الناحية المثالية، نود أن ننقل هذه التجارب إلى العالم الحقيقي". "لكن بالطبع، لو فكرت في آليات اجراء البحث وأخلاقيات هذا الإجراء، يصبح الأمر أكثر تعقيدا. هل سنأخذ الأطفال الصغار جانبًا ونقدم لهم بعض المعلومات السلبية عن أفضل أصدقائهم؟ حسنًا، هذا يمثل معضلة بعض الشيء."