2020/08/30 | 0 | 3020
عدنا إلى مفردات من عاشوراء, قالوا, ولكن الصَّحيح.
نعود لتسليط مجهرنا على بعضٍ من المفردات العاشورائية , متحرين الحقيقة, لنرى هذه الواقعة كما وقعت, ولننحي عنها بعض ما نالها من التحريف والتغيير والتضخيم بقصد وبدون قصد, وما ذلك إلا لعظمة هذه الواقعة, ومدى تأثيرها على مستوى الزمان والمكان في تاريخ الإنسان.
وحاولتُ في هذه المفردات أن أعرض بعض مااُشتهر وهو غير صحيح ولا معتبر, ثم أذكر ما صحَّ عن كتب المقاتل والتاريخ المعتبرة (أقصد الصحة المعتبرة على طريقة المؤرخين, ولا أقصد صحة السند على طريقة الرجاليين).
المفردة الأولى: من يقدم لي جوادي
قالوا (واعذروني لا أعرف من قال؟ ومن روى الخبر؟ لأن هذا ما نسمعه على المنابر منذ الصغر): لما بقي الإمام الحسين وحيداً فريداً بعد استشهاد أصحابه واخوته, صاح الإمام: من يقدم لي جوادي وأنا ابن أمير المؤمنين؟ فأقبلت زينبٌ بالجواد تقوده وهي تقول: ما أجلدني وما أقسى قلبي أي أختٍ تقود إلى أخيها جواد المنية؟
حتى قال الشاعر: من ذا يقدم لي جوادي ولامتي والصحب صرعى والنصير قليل
فأتته زينب بالجواد تقوده والدمع من ذكر الفراق يسيل
وقد بحثتُ مطولاً في كتب التاريخ, والمقاتل المعتبرة وغير المعتبرة, فلم أجد لهذا الحدث ذكراً ولا أثرا, إلا ما ذكره الخطيب المعاصر الشيخ محمد مهدي الحائري المازندراني المتوفى عام 1358هـ في كتابه (معالي السبطين), حيث نقل هذا الخبر عما سمَّاه: وفي بعض المقاتل, والشيخ الحائري رحمه الله قد ملأ معاليه بقصصٍ لا أصل لها ومن الأخبار ما تفرد به ولم يذكره أحدٌ قبله, والكتاب في الأصل كتبه المازندراني لكي يُقرأ في المجالس الحسينية الشعبية, ولم يكتبه للتاريخ ولا للتحقيق, فلذلك تسامح فيه كثيراً, ولا أعلم لماذا يقول عن بعض المقاتل ولا يسمي المقتل, ولا يظهر إلا أنه ينقل عن تراث شعبي شفهي.
ويزيد بعض الخطباء من عندهم أن زينباً قالت: أُخيّه هل رأيت أختاً تقدم جواد المنية لأخيها؟ فرد عليها الحسين: وهل رأيتِ مثل أخيكِ وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين؟
والصحيح: أن الإمام وَدَّع نساءه وأخواته وأهل بيته وأوصاهم (مناقب آل أبي طالب) ثم ركب صهوة جواده, ولم يطلب من أحدٍ أن يقدمه له, وبعدما احتج على القوم للمرة الأخيرة (الملهوف), نزل إلى الميدان يضاربهم بسيفه, ولم يُرى أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه (الإرشاد).
المفردة الثانية: أبي حُسين قف لي قليلاً
قالوا: أن الإمام سمع صوتاً خلفه بعدما انحدر إلى الميدان -في خروجه الأخير- يقول: أبتاه قف لي قليلاً, فالتفت فإذا هي ابنته سكينة,فقال: ماتريدين يابُنيَّه؟ فقالت: انزل من على صهوة جوادك, واجلس متربعاً على الأرض, ففعل فجلست في حجره, وقالت: امسح على رأسي كما تفعل باليتامى.
ولم تَرِد هذه القصة – ولا أقول رواية فما هي برواية- في أيٍ من الكتب المعروفة أو المقاتل المشهورة, وإنما هي مما أورده المعاصر الملا حبيب الله شريف الكاشاني ت 1340هـ في كتابه الفارسي (تذكرة الشهداء), وبسبب حبه العفوي وتدينه البسيط في تعلقه بالقضية, نقل في كتابه هذا ما لا يصح, وما لم يثبت من القصص, ومنها قصة سكينة الآنفة مع أبيها الشهيد, وهي قصة متأخرة اُشتهرت في الموروث الشعبي الحسيني الشفهي, وقد نقلها كذلك الخطيب المعاصر السيد محمد حسين الهاشمي ت 1396هـ في كتابه (ثمرات الأعواد).
والصحيح: أن الإمام عندما أراد أن يخرج في المرة الأخيرة, وكانت سكينة تصيح, فضمَّها إلى صدره, ثم قال: سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي منكِ البكاء إذا الحمام دهاني (مناقب آل أبي طالب)
والمشهور أن سكينة كانت متزوجة في يوم الطف بابن عمها عبدالله بن الحسن (الصحيح من مقتل سيد الشهداء وأصحابه)
المفردة الثالثة: اكشف لي عن صدرك وعن نحرك
قالوا: أن الإمام بعد ذلك انحدر ثانية إلى الميدان, فسمع صوتاً من خلفه يقول: أخي حسين قف قليلاً, فالتفت فإذا هي أخته زينب, فنزل إليها فقالت: أخي اكشف لي عن صدرك, وعن نحرك, فكشف عن صدره وعن نحره, فشمته في صدره وقبَّلته في نحره, ثم التفتت ناحية المدينة وقالت: أمّاه يا زهراء! لقد استرجعت الأمانة, ورُدّت الوديعة, فقال: أُخَيَّه, أي وديعة؟ وأي أمانة؟ فقالت: اعلم يا ابن أمي, أن أُمنا الزهراء, عندما اقتربت منها المنية, ضمتني إلى صدرها, ثم شمتني في صدري, وقبلتنيي في نحري, وقالت: يابُنَيَّه اذا رأيتِ الحسين في كربلاء, وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين, فقبّليه في صدره وشمّيه في نحره, فإن صدره موضع رض خيول الأعوجية, ونحره موضع سيف الشمر, فبكى الحسين عند ذكر أمه, وأرجع أخته.
وهذه القصة لا نعلم لها مصدراً ولا ذكراً في كتب المقاتل المشهورة ولا في كتب التاريخ المعروفة, وإنما هي مما نقله الخطيب محمد حسين شهرابي أردستاني ت 1340هـ في كتابه الفارسي (أنوار المجالس) بلا معرفة عمَّن نقل إلا من التراث الشفهي الشعبي كما يبدو.
ولا أعلم حقيقة ماذا يريد من حَبَكَ هذه القصة؟ وما هي الفكرة التي يرغب بإيصالها, إلا أنه يظن بقصته سيزيد من هَوْل المصيبة, وشدة الفاجعة, وما درى المسكين أن المصيبة في أصلها مهولة, وفي فجيعتها شديدة, ولا تحتاج إلى قصته.
والصحيح: أن السيدة زينب لم تخرج إلى ساحة المعركة بعد وداع الحسين الأخير, إلا عندما صُرِع الإمام على الرمضاء طعيناً جريحاً, فخرجت وهي تقول: ليت السماء تطابقت على الأرض, وقد دنا عمر بن سعد من الحسين, فقالت: ياعمر بن سعد! أيُقتل أبوعبدالله وأنت تنظر إليه؟ (إرشاد المفيد وتاريخ الطبري)
المفردة الرابعة: عبارة عابس: حب الحسين أجنني
قالوا: أن عابساً بن شبيب عندما ألقى درعه ومغفره, قال له الأعداء: أجُننت ياعابس؟ فقال: حب الحسين أجنني! فذهبت هذه العبارة التي طارت في الآفاق مثلاً حسينياً, يستدل به الشيعي على شدة حبه للحسين وذوبانه فيه, وجنونه من أجله, وقد بحثتُ طويلاً, وفتشت عميقاً لعلي أجد لهذه العبارة أثراً, فما وجدتُ لها ذكراً ولا حبراً, لا في المصادر ولا في المقاتل, ولا في الكتب المتأخرة والمعاصرة, وهي مما اُشتهر جداً ولا أصل له ألبته.
والصحيح: أن عابساً قال للإمام: يا أباعبدالله, أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد, أعز علي ولا أحب إلي منك, ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته, السلام عليك يا أباعبدالله, أُشهد الله أني على هديك وهدي أبيك, ثم مشى بالسيف مصلتاً نحوهم, وبه ضربة على جبينه, فرآه ربيع بن تميم, فقال: أيها الناس هذا الأسد الأسود, هذا ابن أبي شبيب, لا يخرجن إليه أحدٌ منكم, فأخذ ينادي: ألا رجلٌ لرجل, فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة. قال: فرُمي بالحجارة من كل جانب, فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره, ثم شد على الناس, فوالله لرأيته يكرد أكثر من مئتين من الناس, ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب, فقُتل, فكان كل رجل يقول: أنا قتلته, فقال ابن سعد: لا تختصموا, هذا لم يقتله سنان واحد,ففرق بينهم بهذا القول. (تاريخ الطبري- أنساب الأشرف- مثير الأحزان).
رواج هذه العبارة – فضلاً عن عدم صحتها أساساً ولا صدورها بتاتاً- لا يتناسب مع أهداف النهضة الحسينية, والإمام خرج لطلب الإصلاح كما صرَّح في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية (الفتوح لإبن أعثم الكوفي), ومن أول أُسس وركائز الإصلاح العقل والتعقل, فحتماً لا يريد الإمام العظيم بثورته العظيمة مِنَّا جنوناً, فما خرج لهذا, وإنما يريد منا استقامة على طريق نهضته, ووفاءً على خط ثورته.
جديد الموقع
- 2024-05-08 جامعة الملك فيصل تشارك في مؤتمر ومعرض الشرق الأوسط لهندسة العمليات 2024 بالظهران إكسبو
- 2024-05-07 فاطمة السحاري : لا يسعفني قلمي ولا وجعي .. فالمسافر راح .. فرحمة الله تحتويك يا "البدر"
- 2024-05-07 الخريف يرعى تكريم اللجنة المنظمة للنسخة الثالثة لـ حرفيون
- 2024-05-07 ضمن برنامج الاحتفاء بأسبوع الأصم العربي ٤٩
- 2024-05-07 أهمية الكتب الورقية: لماذا الكتاب الورقي الذي يحمله الطفل بيديه أفضل من الكتاب الذي يقرأه على الشاشة؟
- 2024-05-07 الدور الخفي لدرب التبانة في الميثولوجيا المصرية القديمة
- 2024-05-07 القراءة ونشوة المعرفة
- 2024-05-07 أنامل على الأعتاب في مدح السادة الأطياب اصدار جديد
- 2024-05-07 أنامل على الأعتاب في مدح السادة الأطياب اصدار جديد
- 2024-05-06 ابن المقرب في بيت الشعر بالقيروان