![رجل من هجر رجل من هجر](https://almoterfy.com/upload_list/source/Article/Old/1298902219.jpg)
2011/11/30 | 0 | 2599
رجل من هجر
و هجر القديمة . ببيوتاتها الصغيرة المتلاصقة , و بأزقتها المتعرجة ....هي هجر اليوم بأهلها الطيبون . و كأن الزمن الطويل لم يعمل عمله بعد في داخلهم .
منذ سنواته الأولى تطلع إلى الأعلى , حدق في ذلك الفضاء المخيف و تسائل ( إنها نجوم لا تحصى , في مجرات بعيدة , لا أحد يستطيع التنبؤ بأعدادها ...و تقديرها بالقياس غير يسير ..إلا إنها أمرا فيه تدبر و تفكير ) ... و ظل الهجري يسأل اكثر مما يجيب . و يتفكر في نظام الكون اكثر مما يتعجب . و كأن هذا العقل يرفض الاستسلام أو التسليم بالمستحيل .
و حتى اليوم ...لا تجالس أبو علي الهجري إلا و تجده عقلا معلقا في الفضاء , و قلبا مغروسا في ارض هجر .
* * *
( ب )
في ذلك اليوم البعيد . بدا سعيدا و مرتبكا . داخلته فرحة الأطفال بالأثواب الجديدة و خوفهم من المجهول الآتي . استيقظ مبكرا , أيقظ والدته ..قبل صياح الديكة . ألبسته أمه ثوبه الجديد , ووضعت على رأسه طاقية بيضاء , و انتظر والده بذلك الشوق المتكسر في داخله .
أمسك والده بيده الصغيرة , سارا صامتين أول الأمر في أزقة حي الرفعة الضيقة . ثم بعد ذلك بقليل بدأ في طرح أسئلته العديدة على والده . وصلا إلى مجلس الحاج طاهر . تطلع الهجري بشوق إلى الأولاد الصغار من بعيد , سمعهم يرددون آيات القرآن الكريم ...فخفق قلبه بشدة . أما حينما دخلا للمجلس وسلم والده على الحاج طاهر , الذي استقبلهما بجفاء فقد أحس الصغير بالخطر اكبر الآن . و ازدادت ضربات قلبه :
- هذا ولدي يا حاج طاهر ..جاء لقراءة القرآن
تبسم الحاج طاهر . فبانت أسنانه البيضاء المتلاصقة . وأ شار بيديه مرحبا بهما :
- حياكم الله ...تفضلا .
اصبح الهجري و سط المجلس تقريبا . فختلس نظرة خاطفة بحياء . شاهد الأولاد الصغار يقرؤون بفرح , القرآن الكريم في حجرهم , و الرؤوس الصغيرة تهتز مع القراءة من آن لآخر . دقق النظر في الحاج طاهر , ارتاح لمظهره , لحيته البيضاء الطويلة , أبطأت من دقات قلبه المتلاحقة .
انفتل برفق من يد والده التي ظل ممسكا بها منذ خروجهما من المنزل . و جلس بين الصغار ...وبدأ يردد الآيات التي يسمعها .
ومنذ التحدي الأول لخوفه عند الذهاب للمطوع لتعلم القرآن الكريم , بقي حتى اليوم يتحدى الخوف . يقتحم المجهول على خيول سبق لا تعترف بالهزيمة .
و التحدي الأول الذي واجهه صغيرا في ذلك اليوم ..هو نفسه الذي قاده شابا إلى مدرسة التاجر في البحرين لتعلم الحساب و العلوم .
يتذكر ذلك بوضوح الآن . يوما من أيام البحرين الرطبة . في محل والده قرب باب البحرين . حيث انظم صديقهم البحريني محمد الماجد إلى حديث بينه وبين والده وأخيه .تحدثوا عن تجارتهم المتواضعة في ذلك اليوم , و عن رطوبة البحرين , و تحدثوا عن الحرب ومتى تنتهي
قال والده و هو يحرك قلما بين يديه :
- و الله الحرب أكلت الأخضر و اليابس ...ولا ادري من سينتصر هتلر وجماعته وإلا بريطانيا و جماعتها .
قال أخوه محمود وهو يصلح طاقات القماش في مكانها :
- المهم أن تنتهي الحرب ..حتى نستطيع أن نعمل في تجارتنا بحرية اكبر .
ردد والدهما و هو يمسح على لحيته و ينظر خارج المحل :
- نعم ...نعم ..
أضاف محمد الماجد ضاحكا و كأنه يرغب في تغيير مجرى الحديث :
- تنتهي الحرب و ندرس ونتعلم أيضا ..
حينها قفز الهجري من مكانه قائلا :
- و هل يمكن ذلك ؟ و كيف ؟
رد محمد الماجد و هو يشير برأسه إلى الجهة الأخرى :
- نعم ...ألم تسمع بافتتاح مدرسة التاجر الليلية و التي تدرس الحساب و الإنجليزي .
في تلك الليلة لم ينم الهجري . تقلقه أحلامه . ظل طوال الليل متقلبا في فراشه . سأل نفسه أسئلة عديدة . كما هي عادته ....إلا انه لم يجيب عليها . هل يمكن لي التسجيل في تلك المدرسة ؟ هل أتمكن من دفع تكاليفها ؟ و ماذا إذا لم يسعفني و قتي على الدرس و العمل معا ؟ ثم ماذا عن أسرتي الصغيرة ...هل سيبقى لها وقتا بعد ذلك ؟ .
في مساء اليوم التالي , وقف أمام بوابة مدرسة التاجر ...اندهش من ذلك الحشد الصغير أمامها . حاول الدخول فلم يستطع . عاود المجيء للمدرسة في مساء اليوم التالي , ولم يتمكن من الدخول أيضا . ثارت في داخله حسرة كبيرة ...ارتفعت عاليا , ثم تكسرت في حناياه . في مساء اليوم الثالث , لم يسلم بالهزيمة , بل تمكن من الدخول و مقابلة مديرها .
يتذكر كل ذلك اليوم دون زهو أو خيلاء . ينقل لك كل التفاصيل الدقيقة . تنقله من مدرسة لأخرى .يحكي قصته مع التعليم العالي , حصوله على دبلوم الصحافة من كلية الصحافة المصرية . كتاباته في بعض الصحف في تلك الأيام الصعبة . ثم يصمت يتطلع إليك . فلا تملك إلا أن تسلم له بذاكرته القوية , و بسحر حديثه .
ولكن و بعد كل مغامرت تلك السنين الطويلة , تشعر بأنه مازال يخاف على نخلاته السبع , و يخاف من جموح خيوله الثلاثة المتبقية , بعدما سقط رابعهم قبل بضع سنوات قليلة . و لا غرابة في ذلك , لانه ككل رجال هجر الطيبين الذين يرددون ( أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا و أعمل لآخرتك كأنك تموت غدا . )
* * *
( ج )
يجلس أبو علي الهجري مسندا ظهره النحيل على أحد المساند . في وسط رواق المجلس . ثيابه بيضاء و بسيطة . و غترته مستقرة على رأسه بخشوع . اخوته و أصدقاءه يحيطون به . يرفع رأسه , يتطلع للسماء الزرقاء , وصدره يحلم بالأمطار و الانعتاق . ثم التفت للحاضرين قائلا بحزن :
- تعلمون يا جماعة إن السيد محمد قد توفي رحمة الله ....
أجاب أحد أعمامه :
نعم توفي قاضينا رحمة الله .
عاود أبو علي الهجري و هو يضع بيالة الشاي على البساط :
- لذلك نحن بحاجة إلى تزكية رجل منا لكي يكون قاضيا لنا .
التفت إليه أخوه الحاج محمود و كأنه عرف مغزى حديثه :
- و في هذه الحالة من تقترح ..؟
هز ابو علي الهجري رأسه بهدوء وقد بدا عازما على امر ما :
_ نرشح الشيخ باقر و نزكيه ...لهذا المنصب .
تحرك الشيخ باقر في مجلسه لاكثر من مرة و كأنه فوجئ بالأمر . و أجاب بحذر :
- أنا لا ارغب في تولي القضاء ...ابحثوا عن غيري .
أجاب الهجري و بلهجة حازمة :
- بل لابد من ذلك يا شيخ أنت أهل لها .
رد الشيخ معتذرا بعد أن رفع يده للأعلى :
- ولكن الناس لا يوافقون على رأيك يا أبا علي . وقد لا يريدونني .
ردد بعض الحاضرين في المجلس :
نعم ..لابد من ذلك يا شيخ , دون غيرك لا نرغب .
ثم أضاف الهجري بعد أن عدل من وضع غترته على رأسه :
- نحن لم نطلبك للناس بل طلبناك لنا نحن أبناء الهجري .
قال الشيخ باقر و كأنه استسلم لرأي الحاضرين في المجلس :
- جرب يا أبا علي و سوف ترى صحة قولي .
لكن أبو علي لم ينتظر ليوم غد . بل قام من مكانه و دخل المجلس , و بعد قليل رجع بورقة و قلم . و شرع يكتب برقية للحاكم يزكي فيها الشيخ باقر لتولي القضاء . في اليوم التالي كانت البرقية قد أرسلت .
لم تمر سوى أيام قليلة . حتى كانت المفاجأة . و جاءت برقية جوابية من مكتب الحاكم توافق على تنصيب الشيخ لتولي القضاء .
مجلسه الليلي الذي ينفض قبل منتصف الليل بوقت طويل , أدار منه الهجري شئون هجر الاجتماعية . من هذا المجلس بحي الرفعة انطلقت البدايات الأولى لتنصيب مشائخ القضاء , و تعيين عمداء أحياء هجر , و فض المنازعات ...طوال نصف قرن من الزمن تقريبا .
* * *
( د )
أبو علي الهجري .... هكذا كان محبيه و أصدقاءه و أقرباءه يسمونه . هكذا كانوا يدعونه , دون ألقاب أو أوصاف تسبق اسمه . لأنهم يدركون مغزى اسمه الكبير . هكذا عاشوا في مجتمع لا يحفل بالألقاب الكبيرة التي تسبق الأسماء , لكنهم يدركون دلالاتها . يدركون انه رجل من هجر داهمه الجوع و الفقر و المرض بل و الثرة والجاه أيضا , لكنه بقي كما كان دوما بسيطا في خارطة هجر و تاريخها .
لا أحد يدري على وجه التحديد كيف اجتمعت صفات الزهد و الصلابة و العزيمة والصبر ...عند رجل واحد . فلا انهم موقنين أنها تجسدت في شخصه .
قبل قليل جلس وسط أبناءه و أحفاده , حدثهم بلطف . ثم شرد بذهنه إلى أيام الماضي البعيد ( عملت كثيرا . لم اهدأ يوما واحدا منذ صغري . فلماذا يتكاسل بعض أولادنا اليوم !!!
عملت في بيع و شراء الأقمشة في محل القيصرية . سافرت مع أخي محمود للبحرين لخياطة البشوت و بيعها هناك . أين أخي محمود اليوم لكي يخفف عني حزني وألمي . كنا نفهم بعضنا بعضا حتى دون أن نتكلم . رحمك الله يا أخ . بعد رجوعي من البحرين انتقلت للبيع و الشراء في الأغذية في دكاني بشارع الخباز . ثم انتقلت محلاتي للشارع العام . و محلات أخرى في الخبر و الدمام . تعاملت مع كبرى الشركات الأجنبية . ولو عاد لي شبابي مرة ثانية , فلن أنفقه الا كما أنفقته في العمل و العلم . )
هكذا كان أبو علي الهجري يحدث نفسه . يتوقف . يداعب حفيده الصغير المتعلق به . تلوح له فجأة نخلاته السبع و أحصنته الثلاثة ...فتقفز من عينيه دمعه عابرة , لا مبرر لها . سرعان ما يمسحها بيده و يبتسم .
يعاوده هذه الأيام الشرود دونما سبب . في طريقه إلى محلاته التجارية , تتحرك الأشياء سريعة من خلال نافذة السيارة , لكنه لا يراها . يغرق في تذكر أيام طفولته و لهوها البريء مع أخيه ( كم كان لي من العمر حين أسست مع أخي محمود جمعية لتعليم الخطابة ؟
ثمان سنوات أو عشر ؟ لا أتذكر على وجه الدقة . و لكني أتذكر إننا كنا خمسة . أسسنا تلك الجمعية . و حضر دروسنا العديد من الأولاد الصغار في ذلك اليوم . كان ذلك في بيت جدي , في غرفة صغيرة داخل البستان . نظفناها و فرشناها بالحصر و البسط القطنية . وصنعنا من كرسي السراج بعد إصلاحه منبرا للخطابة . كان آخي محمود يخطب فينا ...و لكننا كنا نساهم جميعا في إعدادها و مصروفاتها . أتذكر ذلك جيدا في ظهريات أيام الصيف الحارة . ولكن لهو الصغار في هذه الأيام يختلف عن لهونا . يخيل إلى أننا ولدنا كبارا . )
الهجري الصغير الذي أسس جمعية الخطابة هو نفسه الشاب الذي أسس فيما بعد المدرسة الليلية لمكافحة الأمية . و استقبل فيها طلابه معلما و موجها . إلا أن طلابه اكتفوا بالقليل . فلم تمض سوى بضعة اشهر , ولما عرف كل واحد منهم أن يكتب اسمه , حتى فروا من مدرسته و تركوه وحيدا .
انه رجل من هجر . تلك انتصاراته و انكسارا ته .....يعرفها الجميع .يتحدث بها إلى جلساءه أحيانا . دون ضعة أو زهو .
جديد الموقع
- 2025-02-11 الأحساء تحتضن مسيرة الكات ووك احتفالاً بـ اليوم العالمي للنمرالعربي
- 2025-02-11 ترقية الغانم للمرتبة العاشرة
- 2025-02-11 سمو محافظ الأحساء يرعى توقيع مذكرات تفاهم للتدريب التقني والمهني لتوفير 1045 فرصة وظيفية
- 2025-02-11 سمو محافظ الأحساء يستقبل مدير مكتب الهيئة العامة للولاية على أموال القاصرين ومن في حكمهم بالمنطقة الشرقية
- 2025-02-11 ( غرقٌ في المجاز وقُبلةْ تسرق الحُزنْ ) في حضور الثقافة والأدب
- 2025-02-11 لماذا نفضل الأشكال المنحنية على تلك المستقيمة؟
- 2025-02-11 التنبؤ بالسلوك الاجتماعي المستقبلي للطفل من قراءة أفكاره
- 2025-02-11 تأثير بأبأة الأطفال مع آبائهم في تحفيز التفاعل اللغوي وتطوره لديهم
- 2025-02-11 اسلوب مذاكرة الدروس الفعالة: استذكار المعلومات بأساليب مختلفة
- 2025-02-10 كليلة دون كلل