مقدمة الدكتورة ريما زهير الكردي
يُعد اكتساب اللغة عملية معقدة تبدأ منذ لحظة الولادة، إذ يعتمد الطفل في نموه اللغوي على التفاعل المستمر مع البيئة المحيطة به، خاصة مع والديه اللذين يشكلان المصدر الأول للغة التي يتلقاها. ومن الملاحظ أن الآباء في مختلف الثقافات يستخدمون بشكل فطري أسلوب تبسيط الكلام عند التحدث إلى أطفالهم، من خلال استخدام جمل أقصر، ونبرة صوت واضحة، وتكرار للكلمات، مما يسهل على الطفل التقاط المفردات وفهم التراكيب اللغوية. لكن السؤال المطروح: هل هذا التبسيط مجرد سلوك فطري أم أنه يلعب دورًا جوهريًا في تنمية المهارات اللغوية لدى الأطفال؟
انطلاقًا من هذا التساؤل، سعت العديد من الدراسات الحديثة إلى تحليل تأثير أسلوب التحدث المبسط على تطور اللغة عند الأطفال، ومن بين هذه الدراسات، تحليل أجرته جامعة كورنيل شمل أكثر من 1500 حوار بين الآباء وأطفالهم في 13 لغة مختلفة، وخلصت النتائج إلى أن تبسيط الكلام لا يسهم فقط في تسهيل التواصل، بل إنه يشكل عاملاً حاسمًا في تسريع اكتساب الطفل للغة. فقد تبين أن الأطفال الذين يتعرضون لهذا النمط التواصلي يحققون تطورًا أسرع في القدرة على النطق، وفهم المعاني، وبناء الجمل، مقارنة بأقرانهم الذين لا يحظون بمثل هذا النوع من التفاعل اللغوي المكثف.
تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على أهمية تبسيط الكلام عند التفاعل مع الأطفال، وبيان دوره في تعزيز مهاراتهم اللغوية، ليس فقط على مستوى الفهم والاستيعاب، بل أيضًا في تمكينهم من توظيف اللغة لاحقًا بفعالية في مواقف التواصل المختلفة. وعليه، فإن فهم هذه الظاهرة يساعد في تطوير استراتيجيات تعليمية أكثر فاعلية في دعم نمو اللغة لدى الأطفال، سواء داخل الأسرة أو في البيئات التعليمية المبكرة.
الدراسة
كيف يتعلم الأطفال الكلام (اللغة)؟ في كل اللغات والثقافات، يبسِّط الوالدان كلامهم بشكل كبير ردًا على بأبأة (بربرة أو غمغمة - ألفاظ غير مفهومة) وكلام طفلهما المبكر (1) - وهذا النوع من اللغة المبسطة جدًا بين الوالدين وطفلهما يبدو أساسيًا للتطور المبكر للغة الطفل، وفقًا لنتائج دراسة جديدة من جامعة كورنيل.
ووجد تحليل الباحثين لأكثر من 1500 نص تفاعلات بين مجموعات مكونة من (أم و / أو أب) وطفلهما بـ 13 لغة أن "تأثير تبسيط الكلام" ليس محصورًا فقط بدول الغرب الصناعي، بل موجود في مجتمع مزارعي الكفاف [الذين يملكون مزارع تكفي منتوجاتها فقط للأسرة] المعروفين بأسلوب تربية مختلف تمامًا.
في كل حالة، قام أولياء الأمور بتبسيط كلامهم "المعلُق على اهتمام أو رغبة الطفل في شيء ما والمعروف بـ contingent talk [أي لو لاحظت الأم أو الأب أن طفلهما مهتمًا بشيء ما، كأن يلتقط أحد الأشياء، يبادر أحدهما بالتعليق على ذلك بالكلام واصفًا ذلك الشيء (2)] - ردًا مباشرًا على الأصوات التي يصدرها طفلهما الرضيع أو الدارج.
وقال الباحثون إن النتائج تظهر أن الرضع والدارجين يهيئون بشكل نشط الظروف المناسبة التي تجعل اكتساب اللغة سهلًا بالنسبة لهم، بدلاً من اكتسابها بشكل غير مقصود أو بشكل اتفاقي (سلبي passive)، كما افترض بعض الباحثين. ومن خلال تقليل الوالدين من مستوى تعقيد كلامهم المعلق على اهتمام الطفل - في كثير من الأحيان دون وعي (من غير قصد) منهما أو من أحدهما - يكمل الوالدان حلقة التغذية الراجعة [إصدار البأبأة من الطفل ورد الأبوين أو أحدهما عليه بعبارات مبسطة] التي تدفع بتعلم اللغة إلى الأمام وقد تكون مفتاحًا لكيف تنتقل اللغة من الجيل الخالي إلى جيل اللاحق.
"لقد كان يُعتقد منذ فترة طويلة أن بأبأة الطفل ضوضاء صوتية صبياني وغير مكتمل من جهاز لا يعرف بعد كيفية إصدار كلام بجمل صحيحة نحويًا ومفيدة كما يتكلم الكبار،" كما قال مايكل غولدشتاين Michael Goldstein، أستاذ في قسم علم النفس وكلية الآداب والعلوم ومدير مختبر التحليل السلوكي للأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة (B.A.B.Y). "البأبأة في الواقع أداة يوظفها الرضع والدارجون للحصول على معلومات قابلة للتعلم من بيئتهم."
غولدشتاين هو المؤلف الرئيس للدراسة (3) التي نُشرت في 6 فبراير 2025 في مجلة البيولوجيا المعاصرة Current Biology مع المؤلف الأول ستيڤن إلملينغر Steven Elmlinger، طالب ما بعد الدكتوراه بجامعة برينستون؛ والمؤلف المشارك جاكوب ليڤي Jacob Levy .
وقد تعرف كل من غولدشتاين وإلملينغر في دراسة سابقة على سلوك أطلقا عليه تأثير التبسيط: حيث يستخدم الوالدان أو أحدهما جملًا أقصر مكونة من كلمات مختلفة وقليلة، بما فيها الألفاظ المكونة من كلمة واحدة، عند الرد (في غضون ثلاث ثوان) على بأبأة طفلهما. لقد حاول الباحثون معرفة ما إذا كانت هذه الظاهرة منتشرة على نطاق واسع بغض النظر عن الاختلافات في بنية اللغة أو في طريقة تربية الأطفال.
وبتحليل النصوص المؤقنة بزمن (4) والتي تغطي خمس عائلات لغوية (5) جمعت معظمها من خلال قاعدة نظام تبادل بيانات لغة الأطفال (CHILDES) (6)، وجد الباحثون أن التأثير كان شائعًا وقويًا بالفعل، سواء أكان أولياء أمور يتحدثون بالفرنسية أو بالإسبانية، أو بالسويدية أو بالإستونية، أو بالكورية أو باليابانية، بالإضافة إلى العديد من اللغات الأخرى.
"في الكثير من اللغات، الأطفال الرضع والدارجون الذين يصدرون كلامًا صبيانيًا ينتزعون بسرعة كلامًا من أبائهم له بنية مبسطة نسبيًا مقارنة بكلام أبائهم العادي،" كما قال إلملينغر. "يهيئ الأطفال هذه اللحظات المثالية للتعلم من أنماط الكلام [نبرة الصوت وحجمه ونوع العبارات والمصطلحات (7)] من آبائهم."
ومن المهم أن فريق البحث لاحظ تأثير التبسيط حتى بين شعب المايا تسيلتال في جنوب المكسيك، وهم مزارعون يعملون في مزارع يملكونها ويعيشون هم وعوائلهم على منتجاتها والمعروفون بعدم التعامل مع الأطفال وجهاً لوجه ويتكلمون معهم بلغة رتيبة(نفس الإيقاع والنبرة)، مثل تلك السائدة بين أولياء الأمور الأميركيين. ورأى بعض علماء النفس التنموي أن هذا التباين دليل على أن الأطفال لا يعتمدون على بيئتهم الاجتماعية لتطوير وتنمية لغتهم، لذا يتعين عليهم إما أن يمتلكوا معرفة فطرية (أصلانية يولد بها الطفل، أي غير مكتسبة) أو أن يكتسبوا بطريقة غير مباشرة (بشكل غير مقصود أو بشكل اتفاقي).
"تقول النظرية التقليدية إنه إذا لم يصدر أولياء الأمور في إحدى الثقافات هذا الكلام الموجه للأطفال، فإن أطفالهم لابد وأن يكون اكتسابهم للغة بنحو غير مباشر (غير مقصود أو بشكل اتفاقي) وذلك من خلال الاستماع إلى أشخاص آخرين [كأولياء أمورهم وأخوتهم وأخواتهم] من غير قصد من الأطفال أو دراية من أولياء أمورهم [استماع اتفاقي]. " "قلبنا هذه للنظرية رأسًا على عقب. "هؤلاء الآباء يقدمون تغذية راجعة بشكل مباشر ومعلومات قابلة للتعلم من خلال تبادل الأدوار التلفظية مع أطفالهم."
قدرة الأطفال على استنباط نماذج لغوية أبسط من آبائهم تسلط الضوء على ما يقول الباحثون عنها إنها ميزة، وليست عيبًا، لكون البشر مخلوقات بطيئي النمو والتطور (يعتمدون على آبائهم حينها). بدلاً من القلق بشأن بقائهم على قيد الحياة، يتمتع الأطفال بفترة طويلة يمكنهم خلالها تركيز الموارد على التعلم فقط، بما في ذلك معايير التواصل في مجتمعهم الثقافي. وهذا يضع عبئًا أكبر على أولياء الأمور لتقديم تغذية لفظية راجعة، وهو ما يفعله معظم الناس بحكم الفطرة (الأصالنية) - بالرغم من أن مختبر B.A.B.Y. البحثي وجد أن كثيرين من أولياء الأمور لا يدركون أنهم قد بسِّطوا كلامهم المعلق على اهتمام الطفل.
وقد تكون لهذه النتائج تبعات على تدخلات أولياء الأمور. على سبيل المثال، يعرف الباحثون والمشرعون منذ فترة طويلة أن عدد المفردات التي يتعرض لها الأطفال من ذوي الدخل المنخفض أقل بكثير من الكلمات التي يتعرض لها أطفال الأسر الأكثر ثراءً عند دخولهم المدرسة الابتدائية. وقال غولدشتاين وإلملينغر إنه بدلاً من مجرد تشجيع الآباء على التحدث إلى أطفالهم أكثر، ينبغي أن ينصب التركيز على توقيت وجودة الكلام الذي يكلمون به أطفالهم. الرضع والدارجون قادرون على المبادرة بالبأبأة وانتظار الرد من آبائهم (الأب أو الأم) على هذه البأبأة بالكلام المبسط. ويجب على الآباء الاستجابة مباشرة وبلا تأخير لألفاظ أطفالهم الصبيانية، حيث يكون الرد بنحو بسيط وطبيعي ومعلق على اهتمام الطفل بطرق تخلق فرص تعلم لأطفالهم.
"نريد من الآباء أن يعرفوا أن أطفالهم لا يستمعون إليهم فقط عندما يتفاعلون مع سلوكهم الصبياني، بل يتعلمون في اللحظة وبسرعة منهم"، كما قال غولدشتاين. "ملاحظة هذه الظاهرة في اللغات التي كنا نعتقد أن أولياء الأمور لا يقدمون لأطفالهم هذا النوع من التغذية الراجعة (جوابهم بعبارات مبسطة وبكلمات قليلة) يعد أمرًا رائعًا جدًا."
.