2019/12/16 | 0 | 6652
حسن الخلق ـ 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾. [طه: 25 ـ 28.].
لا زال كلامنا عن الحديث الوارد عن أمير المؤمنين (ع) وهو قوله: «إن الله عز وجل جعل محاسن الأخلاق وصلة بينه وبين عباده، فحسبُ أحدكم أن يتمسك بخلق متصل بالله تعالى».[نزهة الناظر، الحلواني: 52.].
الخلق العظيم للنبي (ص):
وبالعودة للرواية التي ذكرناها عن حسن الخلق لا بد أن نذكر الآية المناسبة لذلك، وهي قوله تعالى : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾. [القلم: 4. ]. فالقرآن الكريم يصف رسوله ويشهد له أنه على خلق عظيم. والصلة التي بين الله والعبد هي حسن الخلق كما تقدم في الرواية التي أوردناها عن الإمام علي (ع).
وفي واقع الأمر لو استقرأنا حياة النبي (ص) وسيرته وبحثنا عن مفردات الخلق العظيم فيها لاحتجنا لسنوات، بل لو قضى الإنسان عمره في ذلك لما استطاع الإحاطة به. لكننا نقتطف بعض الزهور من رياض النبوة بما يسع به الوقت والحال، لكي نتعلم درساً منها ونحظى ببركتها.
آثار حسن الخلق :
إن الخلق العظيم الذي امتاز به رسول الله (ص) يجعلنا نسلط الضوء على دور الأخلاق في حياة الإنسان.
فمن انعكاسات مكارم الأخلاق على الفرد:
1- الشعور بالسعادة : فمن يتصف بهذه الصفة يعيش حالة من الشعور بالسعادة. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) : «كفى بالقناعة ملكاً، وبحسن الخلق نعيماً». [شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي19: 54.].
فمن تحلى بحسن الخلق عاش النعيم والسعادة، ومن يبحث عن الكمال لا بد أن تتجسد لديه هذه الصفة، وتكون بارزة لديه على جميع الأصعدة والمستويات، العقلية والروحية وغيرها، فمن يعيش حالة التوازن في حسن الخلق، وعلى جميع المستويات، فلا شك أنه سوف يعيش السعادة.
ولو أننا قارنّا الحسود مثلاً، بمن لا يتصف بصفة الحسد، فكيف يكون الحال؟ فذاك امتلأ قلبه حسداً، وهذا أفرغ قلبه من وطأة الحسد، فأيهما يكون سعيداً متنعماً؟ لا شك أن من لم يُصب بهذا المرض يعيش السعادة والنعيم، بخلاف ذلك.
يقول الإمام الصادق : «من ساء خلقه عذب نفسه». [الكافي، الكليني 2: 321. ].
هذا هو الانعكاس الأول لحسن الخلق على شخصية الإنسان.
2 - محبة الناس : فترى أن الجميع يشير إليه بأنه حسن الخلق، ويحبه، فلا يشار إلى ما يملك من مال، ولا من مكانة اجتماعية، فإن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها، ومن أحسنتَ إليه فقد ملكتَه.
فرب موقف أخلاقي بسيط يحقق صاحبه ما يعجز عن تحقيقه غيره ممن لا يتمتع بتلك الصفة، وهناك شواهد كثيرة على ذلك.
في الرواية عن رسول الله (ص) : «يا بني عبد المطلب، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالْقَوهم بطلاقة الوجه وحسن البِشر». [الكافي، الكليني 2: 103.]. وفي رواية أخرى : «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسَعُوهم بأخلاقكم». [من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق4: 394.].
والقرآن الكريم يؤكد ذلك بقوله : ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك﴾.[ آل عمران: 159.]. فمهما يبذل رسول الله (ص) من جهد، وما يسلكه من سبل في الإقناع، فلا يستطيع أن يحقق انجذاب الآخرين إليه، وتأثرهم بشخصه، وهو ما تحقق في زمانه. ولولا ذلك لما استطاع أن يبلغ ما بلغ من النجاح في إبلاغ الدعوة والرسالة، ولما أمكن أن تصل الرسالة إلينا اليوم.
وبعبارة أخرى أنه استطاع أن يجسد المفاهيم الرسالية النظرية في الواقع العملي، وأن يؤثر في المجتمع عملياً، مع ما كان عليه ذلك المجتمع من وحشية وشدة. وقد دخل الكثيرون في الإسلام متأثرين بالخلق النبوي العظيم.
فقد كان أحد اليهود كثير الأذى لرسول الله (ص) فافتقده رسول الله (ص) ذات يوم، فقيل له: إنه مريض، فقال لهم: هلمّوا بنا نزوره. فتعجب الأصحاب من ذلك. ولكن هذا هو الخلق النبوي الإلهي. وقد أثر عنه (ص): قوله : «أدبني ربي فأحسن تأديبي». [بحار الأنوار، المجلسي16: 210.].
فلما رأى اليهودي ذلك لم يسعه إلا أن يُسلم على يدي النبي (ص).
وهكذا كان حال الأئمة (ع) فالإمام زين العابدين (ع) جاء إلى مكة، وكان الزحام شديداً حول البيت الحرام، وكان هشام بن عبد الملك حاضراً، فأراد استلام الحجر فلم يستطع، فلما أتى الإمام زين العابدين (ع) وبلغ قريباً من الحجر تفرق الناس عنه يميناً وشمالاً بشكل طوعي، هيبة منه واحتراماً له، وكل ذلك لما شاهدوه من حسن خلقه وسيرته، وإلا فإنه لم يكن لديه قوات جيش ولا شرطة ولا غيرها.
وعندما حدثت ثورة المدينة التجأت إليه عائلة مروان بن الحكم، وعوائل الأمويين في المدينة، وما أدراك ما مروان! الوزغ بن الوزغ، الملعون ابن الملعون، بنص رسول الله، وكان ذلك بعد واقعة كربلاء الدموية التي شاهدها الإمام زين العابدين (ع) بأم عينيه، لكنه تعامل مع هؤلاء بأخلاقه هو، لا بأخلاقهم. فآواهم، وأدخل نساءهم مع نسائه، وحفظ دماءهم وأعراضهم، وهم ألدّ أعدائه.
3 - سعة الرزق : يقول الإمام علي (ع) : «وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق». [الكافي، الكليني8: 23.]. ويقول الإمام الصادق (ع) : «حسن الخلق يزيد في الرزق». [بحار الأنوار، المجلسي68: 396.]. ومن أسباب ذلك أن من يتصدى لعمل تجاري أو غيره من الأعمال التي تتطلب التعامل مع الناس، فمن الطبيعي أن يكون محبوباً لديهم، ثقة عندهم فيكثر التعامل معه، ويزيد رزقه بسبب ذلك.
وفي الرواية عن أمير المؤمنين (ع) : «لو كنا لا نرجو جنةً، ولا نخشى ناراً، ولا ثواباً، ولا عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنها مما تدلّ على سبيل النجاح». [مستدرك الوسائل، النوري الطبرسي11: 193.].
ومن هنا نجد أن شبابنا عندما يذهبون للغرب من أجل الدراسة وطلب العلم، يقولون: نشاهد هناك أخلاقاً هي أخلاق الإسلام بالأساس، فأولئك لا يرجون جنة ولا يخشون ناراً، ولكن تجسدت فيهم تلك القيم، فترى الجار يحترم جاره، والكبير يحترم الصغير، وأمثال ذلك من قيم ومبادئ الإسلام العظيمة، ونحن أولى بها من غيرنا، لكننا تركناها وضعفت في نفوسنا وسلوكنا، فتخلفنا وتقدموا.
4 - رفعة الدرجات في الآخرة : فعن النبي الأعظم (ص) أنه قال: «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشريفالمنازل، وإنه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم». [مجمع الزوائد، الهيثمي8: 25.].
وكشاهد على هذا المطلب، أن رسول الله (ص) أُخبر عن امرأة فقيل له : «فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتتصدق، وتؤذي جارها بلسانها. قال : لا خير فيها هي من أهل النار. قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصوم شهر رمضان، ولا تؤذي جارها. فقال: رسول الله : هي من أهل الجنة». [مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، أبو الفضل، علي بن الحسن الطبرسي: 214.].
فالإنسان قد يكون ضعيف العبادة لكنه يحصل على المنزلة العظيمة في الجنة، وقد يكون متعبداً لكنه يدخل النار، كل ذلك راجع إلى الخلق.
وهذا يتطلب منا وقفة تأمل، فالإسلام لم يكن دين عبادة فحسب، إنما هو دين عبادة ومعاملة، بل الدين المعاملة كما ورد في بعض الأخبار، فالعبادة ليست هي الهدف، إنما هي وسيلة لبناء الإنسان وجعله عنصراً صالحاً في مجتمعه، ولتربطه بربه كي يراقبه ويراقب نفسه. فلا بد للعبادة من انعكاس على سلوك الإنسان ونفسه، ولا بد أن تتجسد عملياً في مجتمعه.
هذا ما أردنا الحديث عنه في هذه الجمعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
جديد الموقع
- 2024-12-22 احنا جيرانه (ص) أهداها الله كفوفه (1)
- 2024-12-22 يا يوم لغتي .. أينك أم أيني عنك
- 2024-12-22 ألم الرفض الاجتماعي
- 2024-12-22 نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته أبكر مما تظن
- 2024-12-22 الكتاب السادس عشر لـ عدنان أحمد الحاجي (تطور اللغة واضطراباتها وعسر القراءة عند الأطفال)
- 2024-12-22 تأثيرات لغوية للقراءة الرقمية
- 2024-12-22 الزهراء (ع) .. المجاهدة الشهيدة
- 2024-12-22 نحو كتب في الشوارع
- 2024-12-22 بين فيزيائية الكتب وكيميائية الكلمات
- 2024-12-22 من أجل القراء المترددين