2021/07/14 | 0 | 3899
الرواية
في البدء ماهي الرواية؟
لا تتعدد التعاريف فحسب، بل تختلف وتتباين. ولعلها باختلافها ذلك لا تُقربنا إلى ماهية الرواية بقدر ما تُصعب عملية الاقتراب تلك. فما سبب هذا التعدد الدلالي؟ هل يرجع إلى مجرد اختلاف في النظر إلى المفهوم؟
لا أعتقد ذلك، اذ لعل السبب الأصلي يرجع إلى اختلاف في ماصدق المفهوم ذاته، أي اختلاف موضوع النظر، أي الرواية. حيث إن هذا الماصدق لا يثبت على حال حتى يقبل الاتفاق في وسمه ووصفه. ولا أَدل على ذلك من أنّ نقّاد ومنظري السرد، رغم اختلافهم في تحديد مدلولها، تجدهم متفقين على الاعتراف بحراكها وتغير بنيتها. فها هو روجر آلن يقول "الرواية نمط أدبي دائم التحول والتبدل، يتسم بالقلق بحيث لا يستقر على حال". ويؤكد باختين واصفاً الرواية بأنها "المرونة ذاتها، فهي تقوم على البحث الدائم وعلى مراجعة أشكالها السابقة باستمرار. ولا بد لهذا النمط الأدبي من أن يكون كذلك، لأنه إنما يمد جذوره في تلك الأرضية التي تتصل اتصالاً مباشراً بمواقع ولادة الواقع".
إذن وبما أن الرواية موسومة بحراك يحايث نظامها الداخلي، ويبدل في بنيتها الفنية، فإنه يصعب اختزال ملامحها في ميسمٍ ثابت. لذا ليس مستغرباً أن يقول إي إم فورستر: "الرواية كتلة هائلة عديمة الشكل". كما أنه ليس من قبيل المبالغة أن يقول الناقد جون كبريس متحدثا عن أشكال تعريف هذا الشكل الإبداعي الأدبي: "للرواية قدرة على امتصاص كل اللغات، والأنبناء على أي بنية من بنيات الواقع، الاجتماعي والنفسي، لذا يُنظر إليها بوصفها جنساً أدبياً يستحيل تعريفه سيمانطقياً وجمالياً".
ولكن، هل حقاً تصل مسألة التعريف إلى حد الاستحالة؟ ألا يمكن انتهاج مقاربة أولية تمسك بهذا التعدد من مدخل التصنيف مثلاً! فنحدد الرواية الاجتماعية انطلاقاً من خصائصها ومميزاتها، كنمط سردي يروم قراءه الواقع الاجتماعي ووصفه. ونحدد الرواية النفسية بوصفها سرداً لدواخل الشعور واعتمالات الوجدان. والرواية التاريخية بكونها تحويلاً للحدث التاريخي وتحويلها إلى مادة حياة ملحوظة من خلال حراك السرد!
حتى هذه المقاربة التصنيفية لأنماط الرواية تعترضها عوائق عدة، لأن النماذج الروائية تبلغ من التعدد والكثرة حداً يصعب معه العد والحصر، وقد تبدّى هذا التعدد منذ أولى مراحل تطور الفن الروائي. ففي القرن التاسع عشر مهّد الأديب الفرنسي غي دو موباسان لرواية (بيير وجان) بمدخل نظري، عنوانه الرواية، حاول فيه بيان إشكالية التصنيف فانتهى إلى أنها بأعداد لا نهائية. وإذا كان دو موباسان قد قال ذلك في أوائل لحظات تطور الرواية في القرن التاسع عشر، فإن الأمر اليوم أًوكد بالنظر إلى ما طرأ على أنماط السرد من تنوع، لأن تطور فعل السرد اليوم وانفتاحه على التجريب، يزيد تلك الصنوف عدداً فوق عدد. ثم على فرض امكان تحديد أصناف الرواية وحصرها في عدد معين، فإن الصعوبات التي اعترضتنا في مطلب الماهية وأعاقت بلّورة تعريف عام للجنس الروائي لن تغيب مطلقاً عن عملية تعريف أصنافه، إذ داخل كل صنف ثمة تنوع وتغاير يجعلان الجمع بالاختزال والتكثيف في خصائص دلالية مشتركة محاولة عسيرة. ألسنا في حقل الفن، وهو حقل الفرادة والخصوصية؟ أليس الملمح الإبداعي بصمة متميزة؟
فكيف يمكن أن نساوي الرواية الواقعية مثلا، كما تبدو في متن بلزاك، بتلك التي تتمظهر في سرديات فلوبير أو تولستوي، أو نجيب محفوظ. وكيف نساوي الرواية النفسية كما تتجلى في متن دوستويفسكي بتلك التي تنبجس في روايات صمويل ريتشاردسون أو ستندال. لكن إذا كان تحديد ماهية الرواية أمراً عسيراً، سواءً من مدخل التصنيف أو من مدخل ذاتية هذا الجنس الأدبي، فإنه في سبيل الاقتراب من مدلولها الفني، لم نطلب التعريف الماهوي الجامع بجنسه والمانع بفصله. بل دعونا نقنع بالبدء بإجراء التعريف بالسلب، فنفهم الرواية بما تغايره لا بما تطابقه، أو في سبيل ذلك لنجرب اعتماد النظر المقارن.
من خلال النظر المقارن نكتشف تمايزات عديدة بين السرد الروائي وغيره من الأجناس السردية، حيث تختلف الرواية عن الملحمة، لأنها تَكون مسرودة في لغة نثرية، بينما تتوسل الملحمة لغة الشعر. وتختلف عن الأسطورة من حيث إن السرد الأسطوري يقوم على الخارق والعجائبي، بينما الرواية، وإن لامست الخارق، فإنها تأخذ من طينة الأرض مادةَ كينوناتها وعناصر شخوصها وأحداثها. والاسطورة في الغالب لا تُنسب لمؤلف معين، بل هي تعبير عن مخيالٍ جمعي، بينما الرواية نتاج مؤلف وحصيلة اشتغال مخياله الشخصي. وتختلف عن التاريخ، لأنها نسج الخيال، بينما سرد المؤرخ يسعى أو يزعم أنه يسعى إلى الالتزام بنقل الواقعة التاريخية. وتخالف المسرحية لكونها تقوم على سرد يرويه راوٍ، بينما تُسرد حكاية المسرحية بحراك شخوصها وأقوالهم وأفعالهم ومشاهد الديكور التي تؤطر وجودهم. وتختلف بنية الرواية عن بنية القصة القصيرة بطولها، وتعدد شخوصها، وامتداد أحداثها على حيزٍ مكاني وزماني غالباً ما يكون أوسع من الحيز الذي تجري فيه القصة القصيرة. بين أن زاوية النظر هنا اتجهت لملاحظة ما سجله نقد السرد من تمايزات تُفرّق الرواية عن غيرها من الأجناس الأدبية والمعرفية، لكن إذا غيرنا موقع النظر يمكن أن نلاحظ في هذه التمايزات صلات وائتلافاً لا فوارقاً واختلافاً.
لنتأمل بعض الرؤى التنظرية التي تبحث في تقارب السرد الروائي مع غيره من أجناس الأدب. في كتابه (الرواية العربية)، يستحضر روجر آلن هذا التقارب مستثمراً جبرا إبراهيم جبرا فيقول: "يشير جبرا إلى أن الرواية هي التحام لعناصر مستنبطة من مقولات أرسطو، فمن تقاليد المأساة (التراجيديا)، تأخذ الرواية موضوعها الأساسي وهو صراع الفرد مع قوى أكبر منه. ويتتبع جبرا ذلك من كتابات إسخيلوس حتى دوستويفسكي وفوكنر. ومن الملحمة تأخذ الرواية موضوعات مثل صدام الفرد مع المجتمع، والخيانة، والحسد، والفروسية...ومن الدراما تأخذ الحرص على تصوير الوضعيات والعواطف، خاصة تجسيد شخصيات الأفراد عن طريق الحوار".
هذا الصلات هي ما يشير إليها أيضاً جورج لوكاتش في كتابه "نظرية الرواية"، وإيان وات في كتابه "ظهور الرواية" وغيرهما من النقاد. يقول ماركيز: "وجدت نفسي ما أزال في مكاني، حتى أنني لم أجد غرابةً في اضطراري إلى عض لساني كي لا أسأل من ألتقي به، قل لي يا أخي: اللعنة كيف يمكن كتابة الرواية"!
لا تزال الرواية اليوم نابضة بدفق الحياة، بل نرى أن دليل اشتغال النبض في كيانها هو تجددها وتطور أشكالها. وينبغي أن نفهم حضور نبض الحياة داخل الرواية بمعنيين اثنين، أولهم حيوية نظامها وبنيتها، والثاني هو أن ثمة تعالقاً صميمياً بين الرواية والحياة، ليس فقط في حيوية شكلها وحراك أساليب انتظامها، بل أيضا في اتصالها الوثيق بكينونة الانسان في العالم. ولعل هذا ما يفسر القيمة الاستثنائية التي يحظى بها السرد الروائي، وقدرته على أن يكون أكثر الأشكال الإبداعية جاذبيةً للقارئ. فليس اعتباطاً ولا مجرد صدفة أن يجد "غالبية القراء" كما يقول إيان وات "خلال المائتي سنة الماضية في الرواية، الشكل الأدبي الذي يُرضي رغباتهم على أقرب وجه من حيث التطابق التام بين الحياة والفن". وهذا يعني وجود تعالق وثيق بين السرد والحياة. وفي هذا السياق يمكن أن نستحضر إشارة بوتور إلى وضعية الرواية اليوم، واقتدارها الفريد على وصل المشهد اليومي بالإدراك الفني. حيث يقول: "وفي وقتنا الحاضر لا وجود لشكل أدبي يتمتع بالقوة التي تتمتع بها الرواية. اذ أننا نستطيع أن نربط بها بطريقة دقيقة كل الدقة...حوادث حياتنا اليومية، التي لا قيمة لها في الظاهر، والأفكار، والحدس، والأحلام التي هي، ظاهريا، أكثر ما تكون بعداً عن لغتنا اليومية".
وفي هذا نرى فرادة السرد الروائي، ومكن قيمته، أي قدرته على الإنصات إلى الكينونة والتعبير عنها. وبهذا نزعم أن فن السرد التزَم الدرس الفينومينولوجي قبل ظهور الفينومينلوجيا، وعبّرَ عنه بأسلوب أقدر من أسلوبها الفلسفي التجريدي. وهنا يمكن أن نستحضر مقاربة ميلان كونديرا لقيمة المتن الروائي، من خلال بيان التحليل الفينومينولوجي لأزمة الفكر الأوروبي، مع هوسرل وهيدغر، وهو التحليل الذي يمكن اختزاله فيما أسماه هوسرل "أزمة الإنسية الأوروبية"، أو ما أسماه هيدغر " نسيان الكينونة"، اذ يتوقف كونديرا عند النتيجة التي خلص إليها هوسرل وهيدغر في تشخيصهما لأزمة الإنسية الأوروبية، وهي النتيجة التي تؤكد أنّ العلم والفلسفة قد نسيا كينونة الإنسان. بيد أن كونديرا يعترض على نسيان آخر في هذا التشخيص، وهو نسيان هذين الفيلسوفين، وعدم انتباههما إلى أن ثمة جنساً ثقافياً لم ينسَ هذه الكينونة وهو الجنس السردي الروائي. يقول كونديرا: " إذا كان صحيحا أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان، فإنه يظهر بوضوح أن فناً أوروبياً كبيراً قد تكوّن مع ثيربانتس، وما هذا الفن إلا سبر هذا الكائن المنسي". فبجميع الثيمات الكبرى – يقول كونديرا – التي يحللها هيدغر في كتاب (الكينونة والزمان) معتبراً أن الفلسفة الأوروبية السابقة كلها قد أهملتها، إنما تم الكشف عنها، وبيانها، واضاءتها بواسطة...الرواية".
بل إن الرواية منذ تأسيسها ما طلبت غير سبر لغز هذا الكائن. وفرادتها تتحدد في كون أسلوب سبرها لهذا اللغز متعدداً في مداخله وطرائقه، فقد اكتشفت " الرواية، واحدة بعد أخرى، بطريقتها الخاصة، وبمنطقها الخاص مختلف جوانب الوجود: تساءلت مع ثيربانتس عما هي المغامرة، وبدأت مع صموئيل ريتشاردسون في فحص ما يدور في الداخل، وفي الكشف عن الحياة السرية للمشاعر، واكتشفت مع بلزاك تجذر الإنسان في التاريخ، وسبرت مع فلوبير أرضاً كانت حتى ذلك الحين مجهولة؛ هي أرض الحياة اليومية، وعكفت مع تولستوي على تدخل اللاعقلاني في القرارات وفي السلوك البشري. انها تستقصي الزمن؛ اللحظة الماضية التي لا يمكن القبض عليها مع مارسيل بروست، واللحظة الحاضرة التي تم القبض عليها مع جيمس جويس. وتستجوب مع توماس مان دور الأساطير التي تهدي، وهي الآتية من أعماق الزمن".
هكذا تتعدد مداخل مقاربة الكينونة الإنسانية بفضل السرد الروائي على نحو يعلو على المقاربة الفلسفية التجريدية. فإذا كان اللوغوس الفلسفي يُحول هذه الكينونة إلى رموز ومفاهيم، فإنه في هذا التحويل قد يُفقد هذه الكينونة أهم خصيصة فيها، وهي الحياة. أما الرواية فميزتها أنها تُقارب الحياة بالحياة، فتُعبر عن الكينونة مع الحفاظ على حيويتها ونبضها.
جديد الموقع
- 2025-01-21 كيف تبعد النعاس أثناء القراءة؟
- 2025-01-21 مشروب كحولي واحد يوميًا كافٍ لزيادة خطر الإصابة بالسرطان - خبير في تأثير المشروبات الكحولية في الجسم يحلل تقريرًا جديدًا أصدرته الحكومة الأمريكية مؤخراً
- 2025-01-21 علي جادي .. احترافية تُبهر البروفيسور
- 2025-01-21 التحولات العامة انعكست على قصيدة النثر في السعودية - محمد الحرز لـالعرب: الحراك الثقافي السعودي لا يمكن وصفه سوى بالسهم المنطلق.
- 2025-01-20 تعريف جديد للسمنة يهمش مؤشر كتلة الجسم والهدف هو التركيز على الصحة -مقاربة جديدة لتشخيص السمنة تأخذ في الاعتبار مدى تأثير دهون الجسم الزائدة في الجسم.
- 2025-01-19 أفراح البجحان والعبيد تهانينا
- 2025-01-19 جلسة حوارية تناقش مستقبل الإعلام الرياضي بالاحساء مع مدير القنوات السعودية الرياضية
- 2025-01-19 سمو محافظ الأحساء يرعى توقيع عدد من مذكرات الشراكة لخدمة المجتمع بين أمانة الأحساء وعدد من القطاعات
- 2025-01-19 سمو محافظ الاحساء يتقدم اكثر من 14 الف متسابق ومتسابقة في سباق (الحسا تركض) 2025 ويتوج الفائزين
- 2025-01-18 افراح بوخمسين يحتفلان بزواج باسل في قاعة الاحساء