2023/05/14 | 0 | 2742
إشكالية التلقي لشعر حيدر العبدالله.
النصوص التي تختلف فيها وجهة نظر المتلقين حد التعاكس والتشاكس من النصوص المانحة عادة؛ لذلك هي استفزازية لعالَم المخاطَبين، وزاوية النظر إليها تكون من مخزن الرؤية والثقافة التي يمتلكها المتلقي نفسه، وفي النصوص الحديثة لم تعد القصيدة تكشف نفسها بسهولة، فالمواربة والمخاتلة والمسكوت عنه أو الشعاع الذي لايرى تماما، لكنه يتراءى أحيانا ويغيب أحيانا هي أمور تشكل أنسجة المعنى الغائب والمحتمل في القصيدة الحديثة.
هذه المسافات المحتملة في القصيدة تحتاج إلى متابعة الشاعر في غير نص وإلى معرفة أساليبه المواربة في تمرير مضمرات القول بلغة مختلفة.
عندما سئلتُ مرة لماذا تحاصر النخبوية نصوص الشاعر حيدر العبدالله، ولماذا تزهد بعض الجماهير في شعره؟ قلت إن السبب الفني الذي جعل من حيدر شاعرا عملاقا هو ذاته الذي حرم بعض الجماهير من متعة شعره، هذا السبب ربما غاب عن الشاعر و لايستطيع أن ينسلخ منه، فهو متلبس به تلبس اللحم بالجلد، فما هو ذلك السبب ياترى؟
تطرح البلاغة العربية القديمة تعريفا لمفهوم البلاغة يعرف بمطابقة الكلام لمقتضى الحال عبّر عنه الشاعر القديم في قوله :
تحنن عليَّ هداك المليكُ
فإن لكلّ مقامٍ مقالا
ولا تأخذنِّي بقول الوشاة
فإنّ لكلِّ زمان رجالا
و(مقتضى الحال) مفهوم فضفاض لايقف عند المقام الذي تقال فيه وله القصيدة فحسب، بل يتعدى ذلك إلى القوة الإبداعية أمام عتبة التجربة، ومن الواضح جدا أن المبدع حيدر العبدالله يرصد مشاهد يومية بسيطة ويحيلها تجارب شعرية عميقة، هذه المشاهد العابرة تحتاج إلى لمحات شعرية عابرة تمكن الجماهير من استلهامها بيسر، بيد أن الذي حدث أن حيدر يقدُّ لهذه المشاهد خامات جمالية باهية وأصيلة ويفصِّل لها ملابس مشتركة بين الأصالة والحداثة فلا يستطيع المتلقي البسيط أن يجد له موقعا من هذا العمق والدقة في النصوص، كأنها تريد أن تقول له شيئا لايهتدي إليه، وتقوده إلى ضوء فلا يراه،أو كأنها تريد أن ترحل به على متن طائرة في رحلة قصيرة يدركها مشيا على الأقدام، المتلقي لايعرف أن المواربة والتخفي والتشفير الدلالي أركان مهمة في التجربة الحديثة، إن جديّة الشاعر ومقابلته للمشاهدة العابرة بطاقة جمالية هائلة وتساؤلات وجدانية إنسانية لا يطيقها المشهد العابر ولاتستوعبها التجربة اليومية فينعكس أثر ذلك على المتلقي البسيط، وبدلا من أن يواجه المشهد بالسهل الممتنع يواجهه بالعميق الممتلئ.فينجذب إليه الراسخون ويزهد فيه الآخرون.
هذه الإشكالية ترجع إلى عوالم المخاطَبين وليس على الشاعر ذنب في ذلك، وليس بمقدوره أن يخرج من جلده وينسلخ من لحم ثقافته أو هويته الشعرية.
لقد ساقت كتب النقد العربي روايات تنمّ عن أخفاق بعض الشعراء لمقام الحال عندما مدحوا الخلفاء فوقعوا فيما يعرف في التداولية بقانون(التلطف) الذي يعدّ خرقه خرقا لمقتضى الحال، فقد ذكروا من تلك النماذج التي فقد فيها الشاعر قناة التواصل، بسبب عدم مراعاة سياق الموقف قول أبي نواس للفضل البرمكي:
أربعَ البِلى إن الخشوع لبادي
عليك وإنّي لم أخنك وِدادي
سلام على الدنيا إذا ما فُقِدتمُ
بني برمكٍ من رائحين وغادي
فقد أنكر البرمكي على أبي نواس وتطيّر منه، كيف يذكِّره بالموت في سياق المديح؟
وأنّما أذكر هذا المثال للتوضيح وليس ثمةصلة بين شاعرنا حيدر وهذا المثال، إلا من جهة المتلقي، فهو يفصل للمشاهد العابرة ما لاتستحقه من الإبداع فيكون كمن أعدّ شواء اللحم ولكن الضيف رضيع.
وفي إطار نظرية التلقي يتحمل الشاعر والمتلقي مسؤولية الوعي الثقافي الذي يجسر الهوة بين المثقف والمتلقي، وهو مانبّهت إليه إشارة قديمة للجاحظ في البيان والتبيين عندما قال (والمفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل)
وعلى أي فإن حيدر لم يصل إلى هذا المستوى الإبداعي إلا بروحٍ طُلَعَةِ ورويَّة وبديهة جعلته لاينظر إلّا للشمس
حتى صار فجرُ الإبداع الشعري يطلع من عينيه. وهكذا هم المبدعون.
جديد الموقع
- 2024-11-21 القراءة للكسالى
- 2024-11-21 القراءة واتباع الأحسن
- 2024-11-21 روايات أسامة المسلم بين جيلين.
- 2024-11-21 ( غرق في المجاز، مَجازٌ في الغرق ): قراءة في ديوان الشاعر جابر الجميعة
- 2024-11-20 الدكتور عبدالمنعم الحسين يدشن حملة التشجير الثالثة ببر الفيصلية
- 2024-11-20 هم أنفسنا وأرواحنا
- 2024-11-20 ما متَّ يا وائلي
- 2024-11-20 سمو محافظ الأحساء يطّلع على إنجازات مطارات الدمام ومطار الأحساء الدولي
- 2024-11-20 في ختام جولة الجياد العربية بالرياض مربط دبي ينال لقب أفضل منتج ودي بركان يتوج أفضل الخيول الذكور للعام 2024
- 2024-11-19 سمو الأمير سعود بن طلال يطلع على استراتيجية جمعية البر بالأحساء