مختارات من قصص الغوص

مع كتاب ثمالة الغوص قصص، للمؤلف/ صلاح بن هندي، الطبعة الأولى 1446هــ /2024 م.

جزء من المقدمة:

هُوَ البَحْرُ غُصْ فِيهِ إذا كان راكدًا.. على الدُّرِّ وَاحِذَرْهُ إذا كان مزبدا.

لقد فتن الإنسان بالبحر، فالشعوب التي تسكن قريبا منه، هي شعوب تقدّسه وتهابه، تحبه وتكرهه!!. لكن الإنسان بطبعه يحب البحر والاقتراب منه. وقد كُتِبَتْ فيه الأشعار ورسمه الفنانون على لوحاتهم الفنية، ورسموا السفن الشراعية وهي تمخر عبابه، وربما رسموها وهي تغرق في أعماقه.

1/ خلاف فوق البوم:

حين شقت السفينة عباب البحر، كان بعض البحارة قلقين من أن نوخذة مركبهم هو النوخذة (النهم) . فقد كان مالك السفينة الحاج (سالم بن دهام) قد اختاره نوخذة لمركبه الذي يسمى (صديق الأمواج)، سماه بهذا الاسم تفاؤلا بنجاته وعودته سالمًا من أهوال البحر. وكان سبب اختيار بن دهام لهذا النوخذة أنه كان صديقا له أيام الصبا.

لكن البحارة لم يكونوا محبين لنوخذتهم هذا، علما أن (المجدمي) قد أخبرهم بأنه سيكون نوخذة لمركبهم. لقد لقب البحارة هذا النوخذة بالنهم؛ لأنه كان كبير البطن، عظيم الجثة لا يشبع أبدا. والنهم هو الحوت في عرف أهل البحر. كان المتعارف عليه بين البحارة أنهم يتناولون، على ظهر السفينة، وجبة واحدة هي العشاء، ثم ينامون كي يستيقظوا مبكرين؛ لأداء صلاة الفجر ثم يبدؤون أعمال الغوص؛ بحثا عن اللؤلؤ. لكن هذا النوخذة دائما ما يأمر بصنع طعام له، حين يشعر بالجوع ينهش بطنه. فهو يأكل أربع وجبات في اليوم!!.

وكان يتعب الطباخ بأوامره وطلباته. وذات يوم نفد الحطب الذي في السفينة؛ لكثرة ما طهي من الطعام.

فما كان من النوخذة إلا أن أمر (القلاف) أن يقطع الجزء الأعلى من ميل التفر، كي يصنع الطباخ له طعاما!! فاحتج المجدمي والبحارة عليه، وقالوا: هذا ليس برأي حصيف، لكنه أرغمهم على ذلك ففعلوا ما أمرهم به على مضض. وفي اليوم التالي أمرهم أن يخلعوا لوحا من أحد أجزاء المركب. فغضب البحارة وكادوا يفتكون به، لكن الطباخ صرخ فيهم: لا تشيلون هم، راح أتصرف.

التفت إلى جهة النوخذة وقال له: أبشر يا طويل العمر، شوي ويجهز الأكل. ابتسم النوخذة الشره وقال للطباخ: كفو، وأبشر بالخير.

فما كان من الطباخ إلا أن أحرق صندوق البشتختة الخاص به، وصنع الطعام للنوخذة النهم. لامه البحارة على فعلته هذه، ووصفوه بالمجنون. فكيف يفرط في صندوقه من أجل هذا النوخذة الأكول؟ كان بعض البحارة يلقبه بالموقد؛ لأنه مثل نار الموقد التي لا يشبعها الحطب الذي يلقى في جوفها.

تناول النوخذة طعامه ثم خلد إلى النوم. والبحارة في هرج ومرج. (يتحلطمون) لا حول لهم ولا قوة، وفجأة، سمعوا النوخذة يصرخ ويستنجد، وحين فزعوا إليه، وجدوه ممسكا ببطنه يتلوى، ثم تمدد على(فئة التفر) يسب ويشتم.

حاول البحارة رفعه لكنهم عجزوا في بداية الأمر. تجمع عليه السيوب كلهم فأوقفوه على رجليه، لكنه ظل يصيح من بطنه، ثم سقط سقطة عنيفة. حركوه فإذا هو ميت!!.

نظر البحارة إلى بعضهم البعض وجميعهم على وجهه ملامح الدهشة والحيرة. وبعد أن تأكدوا من موته، غسلوه وكفنوه ثم رموه في البحر؛ لتلتهمه الأسماك والحيتان.

2/ غصة مظلوم:

حين تراكمت ديون الغوص على (بويوسف) أظلمت الدنيا في عينيه. وشعر أن طيور أحلامه التي طيرها قبل دخوله البحر، أخذت تسقط واحدا بعد الآخر على أرض الخيبة، من شدة حرارة أشعة (التسقام) و (الخرجية) التي فوق رأسه. فالنوخذة يطلبه أكثر من خمسمائة روبية. وهذا مبلغ كبير لا يقدر (رضيف) مثل بويوسف على سداده.

ها هو (كيتب) النوخذة يمد أوراق (البروة) في وجه هذا البحار المسكين الذي لا حول له ولا قوة.

والنوخذة ينظر إليه نظرة ازدراء ووعيد. ينتظر منه كلمة (ما عندي) كي يأمر ببيع بيته!.

ينتظره كما تنتظر نسور الجو مخلوقا يحتضر!!.

وبالفعل طأطأ البحار المسكين رأسه ثم أطلقها غصة كادت أن تخنقه:

ما عندي فلوس، طال عمرك.

هنا صرخ النوخذة، بعدما أبعد عن فمه عصا (القدو) فتطاير الدخان من فمه، وكأنه قطار بخاري : شلون يعني؟ فلوسي تروح أكال؟

اسمع، بيع بيتك وعطني فلوسي، ومساعدة مني لك، بشتري بيتك بثلاثماية روبية، والباقي بسامحك عنه.

وبالفعل باع بويوسف بيته وسدد دينه. ورأفة من النوخذة جعله يسكن في البيت بالإيجار!.

عاش ذلك البحار الشقي مع زوجته وأولاده أغرابًا، في بيت كان ملكا له بالأمس!!.

لم تنفعه الثلاثمائة روبية التي استلمها من النوخذة، فقد ابتلعتها حاجيات البيت ومصاريفه.

بعد أيام وجدوا النوخذة مذبوحا في مجلسه!! فاتجهت أصابع الاتهام إلى (بويوسف).

حاول أن يقنعهم أنه لم يفعلها لكن دون جدوى. ها هو في السجن ينتظر موعد تنفيذ حكم الإعدام.