2024/10/17 | 0 | 357
قراءة في كتاب شذرات من سيرة الوالد - مع كتاب شذرات من سيرة الوالد الحاج حسن بن علي البقشي ( بومنير) مذكرات توثيقية عن الحياة والعمل والمجتمع ، بقلم نجله : أحمد بن حسن البقشي، الطبعة الأولى 1446 هــ / 2024 م
جزء من المقدمة:
نعم تبقى مسألة مهمة ينبغي على الكاتب التاريخي أن يلتفت لها ويأخذها بعين الاعتبار، وهي القول بأن المذكرات لا تخلو من الانحياز والاصطفاف اتجاه الأحداث أو الشخصيات التي استعرضها في مذكراته إراديًا أو لا إراديا، ومن هنا ينبغي على الكاتب التنبّه ومقارنة النقولات، وهل يوجد تعارض أو توافق فيما بينها، مع أن هذا التحقق لا يقلل من أهمية المذكرات بصفتها أحد أهم مصادر كتابة التاريخ. ( محمد بن علي الحرز).
1- طالب جامع:
من الشخصيات الغريبة التي أثارت استغرابي وامتعاضي في نفس الوقت هو رجل عراقي ستيني من قضاء بلد، وقد جذبني له حبه للأدب وقلمه الرشيق سيما في تدبيج الرسائل، واطلاعاته الواسعة على عصور الأدب العربي ومحفوظاته الثرية لنماذج منها الجاهلية والإسلامي والأموي والعباسي الأول والمتأخر، وسرعة استحضاره للشواهد الشعرية وتوظيفها في حديثه الذي كان يغلب عليه التزام الفصحى، ليس الشعر فقط بل الخطب والمقامات، والمسرحيات الشعرية كمسرحيات أحمد شوقي.
لكني تفاجأت بسلوكه على الأرض، فقد أدهشني عدم انضباطه، خاصة أنه طالب علم يفترض أنه يكون قدوة للآخرين في سلوكه الأخلاقي وفي الالتزام بأهداب الدين، ففي البداية لاحظت جرأته على نقد القرآن الكريم، وتلفظه بألفاظ غير لائقة على الرسول له ، وكذلك على الأئمة الطاهرين الله ، وهو أمر في البداية كان يهمس به سرا، فكان من يسمعه ربما يرى أنها تنفيس الفقير في لحظات الضيق عما يلاقيه من مشاق الدنيا وعصرات الفقر، وحتى هذا المستوى غير مقبول البتة من المؤمن العادي فكيف بطالب العلم، لكن الأمر تفاقم ثم بدأ يتضح للجميع استخفافه بالفرائض كالصوم، فقد بدأ يتجاهر بالإفطار نهار شهر رمضان!
وقد كان هذا السلوك الفردي غير المنضبط ضارًا بالمدرسة أيها ضرر، خاصة حين تسرب الأسماع أحد المحسنين من تجار بغداد وهو باذل الخبز، حيث كان يقدم الحنطة لصنع الخبز الطلاب وأساتذة المدرسة الخالصية، فتوقف ذلك الرجل المحسن استهجانا من سلوك ذلك الشيخ، وقال كيف أدعم جهة يكون هذا أحد نتاجاتها؟
لكنه تراجع بعد ذلك بعد إقناع بعض الأساتذة له أن هذا عمل فردي لا يعمم ضرره على طبقة الطلاب، ففيهم الأتقياء وأرباب النزاهة والعفة، خاصة أنه شرح من المدرسة، ثم علمت بعدها أن الرجل نزع العمامة وانضم لأحد أحزاب اليسار بشكل رسمي.
2- الشيخ المجلسي:
شخص غريب كان يجلس في حلقات الدرس ساكتا منصتا لما يلقيه أساتذة المدرسة، وكان فقيرًا فقرًا مدقعا، ومظهره أقرب للدراويش، ويصبر كثيرًا على الجوع وإن حصل له شيء من الطعام فإنه يأكله بطريقة غريبة، فكان يخلط كل شيء من صنوف الطعام المالح مع الحامض مع السكري، بطريقة تعافها النفس، وملامح هذا الشيخ أقرب للأوروبي بعينين خضراوتين، ولحية كثة، ويعرف بالشيخ عبد الله المجلسي، والرجل يدهشك من اطلاعاته الواسعة في شتى العلوم والغريب معرفته الواسعة للغات كثيرة كالإنجليزية والفرنسية والروسية، وعدد من اللغات الشرقي كالصينية والهندية.
وكان كليدار العتبة الكاظمية يستعين به في الترجمة عند وجود زوار وضيوف رسميين ممن يزورون بغداد، فكانت براعته في لغاتهم مثار إعجاب أولئك الضيوف مع ما يشاهدونه من مظهر رث لهذا الرجل، وقد كان يقيم في غرفة من غرف العتبة نظير ذلك، وكان يمتاز بخط رائع يستخدم فيه القصبة والمداد، وكان من عادته أن يرسل الرسائل بعنوان ناقص، ووفق النظام القديم للبريد، إذا كتب العنوان بهذه الطريقة كان المرسل إليه يتحمل رسم الرسالة، وسمعت لاحقا أن الأمن في السبعينيات أخرجه من غرفته في الصحن الكاظمي.
3- بضاعة مزعجة:
من الأقمشة التي كانت تُعرض في محلات الأقمشة قماش (السواحل)، وهو قماش كتاني أبيض مصفر يستخدم في أكفان الموتى، ونظرا لوجود دكاني في ذات البيت من جهة، ومن جهة ثانية حميمية العلاقة مع الجيران تجعلهم (يمونون علي) بأن يطرقوا الباب لطلب كفن لشخص توفي توا، وقد حدث ذلك عدة مرات من بعض جيراننا، خاصة أن تغسيل الموتى في ذلك الوقت يتم في بيت المتوفى حيث تفتح درفة من درف باب السمادة ويوضع عليها، ويُغسّل في سمادة البيت ويحمل بعدها على النعش. وعموما كانت زوجتي الشابة - وقتها - تنزعج جدا من طرق الباب بغرض طلب شراء قماش الكفن، فطلبت منّي ألا أحضر هذا القماش الذي يتسبب في البيت وأهله، وفعلاً وجدت رأيها مناسبًا فامتنعت عن جلبه لدكاني، وأشعت ذلك بين الزبائن والجيران كي لا يطرق الباب علينا ليلاً بسبب الكفن.
4- خياطة الثياب:
كما كنا نجهز كميات تباع لتجار القيصرية، وكانت هذا النوع من الخياطة يسمى الكورجة، لأن الخياطين يجهزون كميات كل عشرين ثوب تباع دفعة واحدة تسمى كورجة، وهذه الكميات التي يجمعها تجار القيصرية من الخياطين في الهفوف والمبرز تجد طريقها للأسواق المهمة كسوق الحساوية في الرياض، وسوق الليل في مكة المكرمة وأسواق المدينة المنورة وغيرها، طبعًا هذا خلاف ثياب (اللباس) التي تعمل بالتوصية حيث يأتي الزبون لمحل الخياط ويأخذ عليه قياسًا دقيقا، وينفذه باحترافية تامة، ويكون
سعره أضعاف سعر ثوب الكورجة السوقي. وخياطة الكورجة خياطة غير دقيقة، لذا من الأشياء المضحكة أن ترى أنك ربما تجد كما أطول من كم في هذه الثياب، وكانت مثل هذه الأمور تعبر لأن الناس لا بدققون كثيرًا لأن الاحتياج لثوب رخيص الثمن كان الأهم.
5- خياطة البشوت:
أ- مصاعب مهنة الخياط: العمل في الخياطة عمل مجهد، حيث يلتزم المخيط بجلسة معينة طوال فترة الخياطة، وتتطلب منه التركيز بعينيه طوال المدة في قطعة صغيرة البشت، طبعا يخلف هذا الأمر ألما في الإصبع الذي يحتك الميبر به، ويتأكل به، كما يخلف ألما شديدًا في الظهر والعضلات، حيث أن الظهر يبقى منحنيا طول المدة، وعضلات اليدين والرجلين منشدتين، لأنَّ المخيط يضغط على قماش البشت طول مدة العمل كي تنجز الغرز على قماش مشدود بحيث تمنع بعض العيوب، مثل أن تكون الغرز مشبونة فيها طية القماش البشت.
ب- سمات في مجلس الخياطة : طبعا كل هذا الأمر يجعل العمل مملاً، لذا يحاول المخيط الخروج من هذا الملل من خلال تجاذب أطراف الحديث مع زملائه، وأحيانًا بإطلاق النكات وأحيانًا بتدبير المقالب، وهذا الأمر يتوقف على نفس المعزّب، فبعضهم يمتاز بالوقار والهدوء فيسود الهدوء، وبعضهم يكون منبسطاً ينعكس ذلك على مجلسه ومخايطته، كما كانوا ينظمون حلات مشتركة للتنزه في العيون والنخيل تسمى (حطوطة) لأن كل فرد منهم يحط أي يشارك بمبلغ فيها، وبعد قضاء أكثر من سنة وجدت أن هذا العمل مجهدًا جدا، وسيستهلك صحتي ونظري، سيحرمني من بعض الهوايات كالقراءة فتركته.
6- لحمة البيت:
نظرا لعدم وجود كهرباء فإنّ التسوق من مهمات الرجل اليومية، وقديما كان الرجل يخرج بعدة (قفف) من الخوص، ثم استعيض عنها بقفة أو علاقة من البلاستيك لاحقا، يقوم بوضع احتياجاته من السوق من خضروات وفواكه وحشائش، وعادة من اللياقة أن يُخفي هذه القفف تحت بشته لأن الخروج بالبشت هو الزي الرسمي للخروج دائما، ثم بدأ الشباب يتخفّفون منه ابتداء من الخمسينيات الميلادية لكن بقي الآباء على سمتهم هذا.
وكان شراء اللحم عادة يتم يوما بيوم، حيث لا يتعدى حجمها في الغالب كف اليد أو ربما دونها، إما من لحم الغنم أو البقر أو الجزور، وعادة عندما يرغب القصاب في الذبح فهو يعلم زبائنه، كي لا يتورط في ذبح ما لا يستطيع تصريفه، كما أن القصابين يتشاركون عند ذبح قعود أو جزور أو بقرة، ويعلنون عما سيذبحونه سلفًا.
7- ملعب الأطفال:
على الرغم من عدم وجود أطفال في بيتنا تلك الفترة، فهناك الكثير من أطفال السكة، وكلهم من أبناء العمومة والأهل، يدخلون بشكل تلقائي لبيتنا ويلعبون ويمارسون لهوهم البريء في حوي البيت، وبالتأكيد السر في ذلك هو تسامح نساء البيت، فزوجة أخي وزوجتي لم يبديا لهؤلاء الأطفال أي ممانعة أو يخشنا وجهيهما عليهم، وهذا يفهمه الأطفال أنه ضوء أخضر المواصلة هذا السلوك، حيث أن الأطفال أذكياء بالفطرة، حيث كان ابتداء ذلك هو العبث واللعب، تحت الساباط بلعبة (الغميمة) ثم يدس أحد الأطفال نفسه داخل بيتنا، ثم بدأ الأطفال يدخلون شيئًا فشيئًا دون ممانعة. إلا من بعض التنبيه من العبث بالبقرة التي قد تخرج لتشميسها في الحوي بعض الوقت ثم ترجع للسمادة.
وقد أثمرت تلك السماحة لزوجتينا في نفوس هؤلاء الأطفال أن بنت لهما مكانة خصيصة في نفوس هؤلاء عندما صاروا رجالاً، فلم ينقطعوا عن التواصل والسؤال عن زيارتهم لا بحكم القرابة وحسب بل بالمودة والعرفان لتلك النفسية الجميلة التي احتضنتهم أطفالاً.
8- منتدى ثقافي:
وفي تلك الفترة لازالت شريحة من المجتمع غير يسيرة تتحفظ على إلحاق أبنائها في المدارس لاعتبارات دينية، وفي الحقيقة كانت تلك النظرات نظرات غير واقعية فكنا ممن تصدى لتلك الفكرة عمليا وكافحتها وصرنا نناقش بعض الأقارب الممتنعين من إرسال أبنائهم للمدارس، بل نقنع من ملكوا زمام أمرهم بالالتحاق بالمدرسة الليلية، كي يحصل على شهادة تخوّله العمل أو تحسّن مستواه، وقد اجتهدت حقيقة في هذا الأمر وإن لاقينا بعض الممانعة وغضب بعض آبائهم.
جديد الموقع
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد
- 2024-11-21 القراءة للكسالى
- 2024-11-21 القراءة واتباع الأحسن
- 2024-11-21 روايات أسامة المسلم بين جيلين.
- 2024-11-21 ( غرق في المجاز، مَجازٌ في الغرق ): قراءة في ديوان الشاعر جابر الجميعة
- 2024-11-20 الدكتور عبدالمنعم الحسين يدشن حملة التشجير الثالثة ببر الفيصلية