2022/02/14 | 0 | 4378
(فضاءات الشعر المعرفية)
بقلم :عدنان المناوس
"الإنسان كائنٌ لغوي" هكذا قوَض فيلسوف ألمانيا الشهير "مارتن هايدجر"(1889-1976م) بهذا التعريف, التعريف الكلاسيكي السائد للإنسان بأنه "حيوان عاقل". ويأخذ بتعريف الإنسان إلى مناطق أغزر عمقا وأكثر اتساعا في فضاء الدلالات. فهو لا يرى كما يرى "الميتافيزقيون" بأن علاقة الإنسان باللغة هي علاقة تواصلية, أي أنها وسيلة تمكن الإنسان من التعبير و التواصل مع الآخرين في بعدها الصوتي بالدرجة الأولى. إذ يرى بأن اللغة هي غير منفصلة عن الوجود الإنساني باعتبارها عربة نقل للمعاني والكلام فقط إلى الآخرين, بل هي في أعقد تمظهراتها وسيلة تنقيب في الوجود الإنساني برموزه و دلالاته باعتبارها غير منفصلة عن هذا الوجود حيث يعبّر عن اللغة بقوله أنها (بيت الكينونة). وبهذه الرؤية يمنح اللغة القدرة على تقويض المباني والمعاني وتفكيكها وإعادة خلقها برؤى ومعان جديدة وفهم جديد يغوص في أعماق الذات ويرتفع به الإنسان إلى سماوات الكشف و المعرفة ليسرق منها ما يتمكن من نيرانها فيعود للكون بشعلته المعرفية المتوهجة ,مولودا للمرة الثانية!
وعندما نعود حاملين على أكتافنا هذا التعريف "الهيدجري" لارتباط الإنسان باللغة إلى الموروث الديني يقابلنا-بطريقة أو بأخرى – كذلك القرآن الكريم بـ (كن) الإلهية التي تمشي بالتوازي مع المعنى الإنجيلي كذلك في "البدء كانت الكلمة".!
ومن هذا الباب ألج إلى عالم الكتابة, و الكتابة الأدبية على وجه التحديد. وأضيّق الدائرة كذلك بالتركيز على الكتٌاب الذين يلجون إلى عالم اللغة من خلال هذا المعنى و ذلك لتفاوت الكتّاب في تناولهم للغة عن طريق كتاباتهم, فمنهم -وهو السائد- من يتعامل مع اللغة كوسيلة للتواصل والتعبير وإيصال المعنى الذي يختلج في قلبه للآخرين وهو الذي يتكأ -بقصد أو دون قصد- حسيا على التعريف الميتافيزيقي للإنسان واللغة كما ذكرت في بدء المقالة, ومنهم –وهم القلة- من يتعامل مع اللغة في الكتابة كوسيلة للكشف و استنطاق الرؤى و تفكيك الرموز وإعادة خلقها لإنتاج دلالات جديدة تقوده وتقود قراءه إلى معرفة كونية جديدة ورؤية وجودية أعمق.!
ومن باب الكتابة الأدبية هذا ألج إلى الحديث عن الشعر كطريقة للمعرفة، حيث الشعر في أسمى تجلياته يقود للمعرفة الذاتية التي هي بالمقابل معرفة لكينونته وكينونة هذا الوجود المهيب. وهذه الطريقة تمثل عاملا مًشتركا بين الشعراء والفلاسفة .مع الأخذ بعين الاعتبار-كما يرى البعض- بأنّ الشعر يسبق الفلسفة بخطوة في سبر أغوار الوجود سعيا لكشف الحجاب عن معانيه الغامضة، وذلك لسببين: أولا أسبقية الشعر على الفلسفة في قراءتها "الوجدانية" للكون والطبيعة والحدث التاريخي والأسطوري وهذا ما نجده على سبيل المثال (في ملحمة "جلجامش" في العراق والتي عمرها حوالي 2000 سنة قبل الميلاد وملحمة "أقهات " في سوريا التي تمتد إلى 1500 سنة قبل الميلاد وملحمتي هوميروس الشهيرتين "الإلياذة و الأوديسة" اللتين كُتبتا في "القرن الثامن قبل الميلاد" وأخيرا الملاحم الهندية الثلاثة "المهاباراتا" وعمرها يتراوح مابين 200 إلى 400 سنة قبل الميلاد, و ملحمة "رامايانا" المؤلفة من 24 ألف بيت شعري و "وبوراتاس" التي عمّر تأليفها إلى سنة 1000 ميلادية.)*(انظر - مقال (سجال الشعر و الفلسفة) لـ(عماد الدين الجبوري) المنشور عام 2019 م على موقع (اندبندنت, عربية) الالكتروني)
و السبب الثاني هو إيمان هذه الفئة من الكتّاب بأن (الذهن ليس كافيا)* للسعي وراء الحقيقة كما يذكر العبقري كولن ولسون في كتابه (اللامنتمي) في معرض حديثه عن الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه حيث يقول: ( أضف إلى ذلك أن المشكلة ليست مشكلة فيلسوف, كما أن نيتشه نفسه اكتشف: أن الذهن ليس كافيا. إلا أنه ظل فيلسوفا وظل يهاجم المشكلة بأسلحة فلسفية, بلغة النقد, وتنظيم الأفكار في مقاطع وفصول. إلا أن زرادشت أوضح لنا أين يكمن الجواب, إنه كامن باتجاه السيكولوجي الفنان, والمفكر الذاتي)*
حيث يقول نيتشه كما ينقل عنه -كولن ولسون- عندما قرأ مصادفة كتاب (العالم إرادة و تمثلا) لفيلسوف التشاؤم الكبير شوبنهاور: (.. وشعرت بعين الفن الواسعة, غير المنحرفة تحملق فيّ, ورأيت مرآةَ استطعت أن أرى فيها العالم, الحياة و روحي وأنا في عظمة مخيفة..)*. و مالشعر إلا أحد أسمى الفنون التي اتخذها (نيتشه) ذاته طريقة له كذلك.!
وهنا يجدر بنا أن نتسائل, هل جميع الشعراء يشتركون في هذه الميزة المعرفية؟! بالطبع لا, فهذه الميزة تحتاج كما ذكرت سالفا تغييرا في طريقة تناول الشاعر ذاته للغة ومفاهيمها من الجذور بالأضافة إلى تدريب الحدس الذاتي عن طريق التأمل على رؤية "الرؤى" وهذا ما يحتاج إلى وقت طويل وجهد وصبر عظيمين.!
ينقل كولن ولسون في كتابه (اللامنتمي) عن الشاعر الانجليزي "الرؤيوي" وليم بليك قوله: (إن الشاعر العبقري, هو الإنسان الحقيقي, أما الجسد, أو المظهر الخارجي للإنسان, فإنه مشتق من النبوغ الشعري, بل أن الأشياء كلها مشتقة من هذه الأسس ذاتها, تلك الأسس التي دعاها الأقدمون الملاك, والروح و الملاك الحارس, إن العبقرية الشعرية تُدعى في كل مكان بروح النبوة)*
وينقل عن الرائي والشاعر الفرنسي العظيم آرثر رامبو في احدى رسائله لأحد أصدقائه كذلك قوله: (يجب على الشاعر أن يرى رؤى..)* ويضيف (يستطيع الإنسان أن يرى رؤى إذا واظب على نظام مركز يتوصل بواسطته إلى إضعاف الحواس أو تشويهها)*
و من هذا الباب نفهم هذا المقطع الجميل من قصيدة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش (على محطة قطار سقط عن الخريطة) حيث يقول فيه :
(و كل ما في الأمر أني لأ أصدق غير حدسي
للبراهين الحوار المستحيل
لقصة التكوين تأويل الفلاسفة الطويل
لفكرتي عن عالمي خللُ يسببه الرحيل)*..!
حيث الحدس هنا هو في أحد أوجهه "رؤية رؤى"..!
و لا أعتقد أنه يجب علينا عندما نتطرق لمسألة "الرؤى" أن نغفل عن التطرق لـ"الصوفية" , إذ أنهم اتخذوا من التأمل طريقا طويلا يؤدي بهم إلى (إضعاف الحواس) لرؤية الرؤى والسلام الداخلي والتوحد مع الكون في أعمق حالات الكشف و الانخطاف..!
لذلك يذكر الشاعر الهجري الكبير جاسم الصحيح في احدى مقالاته في جريدة اليوم والمعنونة بـ(تصوف القصيدة مقابل قصيدة التصوف): (بأن تصوف القصيدة مصطلح آخر يحمل في طياته مفهوم التصوف الشعري المرتبط بالحياة على رحبها وليس بالعقيدة فقط).*
و لا أظن أنه يخفى على أحد الأثر الكبير الذي أحدثه "المتصوفة" في ثورتهم على اللغة ومفاهيمها الكلاسيكية إذ رفعوا رايات الانتصار على هذه المفاهيم الراكدة, انتصار المخيلة على الواقع, والمجاز على المعنى الثابت, و تعدد الدلالات على الرؤية الأحادية. وما الشعر إلا طريقتهم في السعي على درب اللغة للاطلاع على عالم الغيب اطلاع العارفين. و كتاب (الصوفية و السوريالية) للشاعر والمفكر الكبير أدونيس واحد من أهم الكتب التي تناولت هذه الرؤية بعمق لمن يريد الاطلاع على المزيد. إذ أن أدونيس نفسه خير مثال على من اتخذ من اللغة الشعرية طريقا للمعرفة الذاتية والكونية.
ختاما، رأينا في هذا الحديث المختزل الذي حاولت فيه لملمة بعض شتات هذه الرؤية الواسعة كيف يمكن "للشعر" أن يكون طريقة للمعرفة الذاتية وسبرا لأغوار الكينونة وكيف يمكن للشاعر أن يكون "رائيًا" إذا ما ولج هذا العالم الشعريّ الرحب من بوابة الرؤية "الهيدجرية" للإنسان واللغة كما جاء في مقدمة هذه القراءة .
يحمل ديوانُ الشاعرِ الجميل محمود المؤمن "نافذة من عناق" بين دفتيه أربعةً وأربعين نصا في مائة وثلاثين صفحةٍ يتراوح قالَبُها الشعريُ بين الشكل العمودي والتفعيلة كُتبت جميعها مابين عامي 1428 و 1439 للهجرة.
ويشيرُ الطابعُ العام لقصائدَ الديوانِ الذي يمثل جزءا من تجربة الشاعر بأنَّ الشاعرَ هنا قريب من الموضوعية" أكثر من "الذاتية", أي قريب من العالمِ الواقعيِّ المتمثلِ في مجمل الأحداثِ المفصلية والمناسبات المهمةِ التي تستفز أحاسيس الشاعر, فيصهرُ هذه "الموضوعية" في أتون "ذاتيته" فتخرج ملفعة بالرؤى الشعرية وموسيقى القصائد. والديوان يحفلُ بشواهد كثيرة كقصيدتيهِ في "الوطن" وقصيدتِه في "فلسطين" و"المتنبي" وقصائدَهُ الثلاثِ في رحيل أبيهِ وهذه الشواهد توضحُ طبيعةَ الشاعرِ الانفعاليةِ اتجاه َالعالمِ الخارجيِ كما يشيرُ إلى ذلك قولهُ صراحةً في قصيدة (وهج انفعالي) : (حيث المدائح و المراثي..الغر من وهج انفعالي).
وهذا ما يجعلني أتأمل في العلاقة التفاعلية بين "الذاتية" و "الموضوعية" في الشعر وكيف يمكن للشاعر أن يغوص في داخل ذاته لتفسير وتأويل عالمه الخارجي كما هو العكس هنا صحيح!؟ ولأن الشعر يتكئُ على اللغة فلا بدّ لي من العروج أولا للحديث عنها قبل الشروع في الحديث عن الشعر كطريقة للمعرفة الذاتية والكونية.
المصادر:
- كتاب (اللامنتمي) لـ(كولن ولسون)
- مقال (تصوف القصيدة مقابل قصيدة التصوف) للشاعر جاسم الصحيح المنشور في جريدة اليوم عام 2011م
- مقال (سجال الشعر و الفلسفة) لـ(عماد الدين الجبوري) المنشور عام 2019 م في موقع (اندبندنت, عربية)
-مقال (ماهو طريق مارتن هيدجر إلى اللغة) المنشور في موقع الاتحاد عام 2008م.
جديد الموقع
- 2024-12-22 احنا جيرانه (ص) أهداها الله كفوفه (1)
- 2024-12-22 يا يوم لغتي .. أينك أم أيني عنك
- 2024-12-22 ألم الرفض الاجتماعي
- 2024-12-22 نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته أبكر مما تظن
- 2024-12-22 الكتاب السادس عشر لـ عدنان أحمد الحاجي (تطور اللغة واضطراباتها وعسر القراءة عند الأطفال)
- 2024-12-22 تأثيرات لغوية للقراءة الرقمية
- 2024-12-22 الزهراء (ع) .. المجاهدة الشهيدة
- 2024-12-22 نحو كتب في الشوارع
- 2024-12-22 بين فيزيائية الكتب وكيميائية الكلمات
- 2024-12-22 من أجل القراء المترددين