ترحال

 المحطة الأولى: نفق الامل

 وفقنا في هذه الصيفية لزيارة البوسنة والهرسك ومن ضمن برنامجنا كانت زيارة "نفق الامل" في سراييفو. سوف اذكر نبذة تاريخية قصيرة عن سبب الحرب بين الصرب والبوسنة، لتكون مدخلا لقصة النفق. البوسنة والهرسك وعاصمتها سراييفو هي من دول البلقان ومن ضمن اتحاد يوغسلافيا السابق وعندما انهار الاتحاد السوفيتي، بدأ كيان جمهورية يوغسلافيا نحو الانحلال وأعلنت أكبر واقوى دول الاتحاد وهم صربيا وكرواتيا استقلالهما، عند ذلك طالب البوسنيون بالاستقلال ولم يوافق الاوروبيون ولا صربيا ولا كرواتيا واللتان كانت لهما أطماع

في البوسنة.  وفي صباح يوم مشؤوم من عام 1992 فوجئ البوسنيون بصرب البوسنة تساعدهم القوات الصربية بقصف سراييفو بشدة من فوق التلال والجبال المحيطة بالعاصمة وبعدها...  بدأ حصار ظالم لمدة أربع سنوات على سراييفو ... ويعد هذا الحصار أطول حصار عانت منه المدينة خلال القرن العشرين، فقد قطعت عن الناس الامدادات من الماء والغذاء والدواء والمعدات. وكانت القناصة تقصف وتصطاد كل ما يتحرك وبذلك اصبحت سراييفو مدينة أشباح، المنطقة الوحيدة التي لم تستهدف بالقصف هي المطار والذي كان يستخدم من قبل القوات الدولية لمراقبة تحركات الخصماء... ومن هنا جاءت فكرة على يد أحد العسكريين الوطنيين وهي؛ حفر نفق من المطار وهو منطقة الحياة.. إلى داخل سراييفو وهي منطقة الموت. كانت المهمة شبه مستحيلة وينتظرها الكثير من العقبات منها؛ صعوبة الحفر مع عدم توفر الأدوات والمعدات اللازمة وأيضا قلة الاوكسجين والمياه التي تخرج من الأرض وكذلك مراعاة السرية التامة، وبعد دراسة وافية وتخطيط وقع الاختيار على بيت امرأة مسنة تبرعت بمنزلها ليكون تغطية لمدخل النفق، حتى لا يشعر به أحد. وبدأ الحفر على ايدي وسواعد المخلصين والابطال البوسنيين... استمر الحفر والعمل على قدم وساق لمدة أربعة أشهر ونجحت المهمة، وفي اول يوم من افتتاحه عبر أربعة الاف انسان. وتم ادخال اثنا عشر طن من المؤن والدواء والأسلحة والعتاد من وإلى سراييفو وخلال الحصار انفصل العديد من البشر عن اسرهم وبعد افتتاحه عاد الكثير منهم الى عوائلهم. استمر دخول البشر والمعونات خلال النفق سنتين، وقد كان له الفضل في صمود العاصمة وعدم سقوطها رغم الحصار. بالإضافة للنفق الذي افتتح جزء منه للزائرين، يحوي المكان متحف فيه العديد من الصور والخرائط وصور الابطال الذين عملوا في هذه المهمة، وكذلك ملحق به سينما تعرض صور حية للعاصمة سراييفو وحصارها من الصرب وقصفها للبنى التحتية والمباني الحكومية، وقد قتل في هذا الحصار أكثر من 250 ألف بوسني ....... 

 المحطة الثانية: التكية في بلاغاي

    وصلنا بالباص إلى منبع" نهر بونا " والذي يعتبر من أكبر المنابع في أوروبا، في زيارة إلى " تكية بلاغاي " حيث كان الدراويش ولا زالوا يذكرون الله ويسبحونه ويمجدونه فيها. لقد سمعت عن هذه التكية الكثير وكنت متحمسة لرؤيتها والتعرف على المكان وعلى شعائر الصوفية ...عندما اقتربنا من المكان سرنا صعودا في طريق قصير يؤدي إلى التكية والجميل والمدهش في الامر أن هناك ألواح مربعة صغيرة مرتكزة على أعواد مصطفة على جانب الطريق مكتوب عليها بشكل مكرر وبالخط العربي الجميل كلمة "هو" وقفنا عند البوابة ودفعنا رسوم الدخول مشينا قليلا... ووقفت متسمرة مذهولة من جمال المكان!!  فعند صخرة في سفح جبل شاهق وعند هذا المنبع ووسط الأشجار الخضراء وفي هذا السكون والذي لا يشقه سوى صوت المياه الفيروزية الهادرة والتي تسبح بعظمة الخالق وجمال صنعه....  بنيت " تكية بلاغاي ". لنأخذ نبذة تاريخية عنها: في مكان قديم ومقدس ومنذ عصور ساحقة، وبسبب أهميتها الدينية والعلمية، جاء أول ذكر لها من قبل رحالة أسمه " أوليا جلبي" في كتابه عن الرحلات سنة 1664. ثم اشتهرت في العهد العثماني بمكانتها الدينية والعلمية ومناقشاتها الجادة. وتم ترميمها وبناءها مرارا وعملت بنشاط طوال قرون ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، حظر عمل الدراويش وتجمعهم فيها، ثم في السبعينيات تولى متحف البوسنة والهرسك رسميا الاعتناء بها. وفي سنة 1974 بدأت المشيخة الإسلامية بالاهتمام بها والتجمع فيها للذكر واحياء المولد النبوي الشريف سنويا. أخر ترميم تم سنة 2013 حيث تم ترميم المجمع بأكمله. وقد عرف عند الصوفية ولدى الدراويش بناء التكايا في وسط الطبيعة؛ لأن البيئة بأكملها جزء من أداء الشعائر الدينية ووفقا للمبادئ الصوفية البوسنية، يعتمد البناء على المبادئ السبعة وهي: الماء الهادئ والشلال والصخرة والكهف والمنزل والقبر والسلم.  وهذه جميعها مرتبطة بالنظام الكوني وفيها احترام للحقائق التاريخية. مهمة التكية هي: للتجمع والذكر في حين مهمة النزل؛ استقبال واستضافة المسافرين. في العادة لا يسكن الدراويش التكية وانما يجتمعون فيها للذكر، خلافا للحياة الرهبانية، ولكن هنا في بلاغاي استثناء، لأنها تابعة للطريقة البكتاشية.

الأجزاء المعمارية للتكية:

  يتكون مجمع التكية من خمس مباني؛ مبنى كبيرو آخر صغير ومسجد ونزل للمسافرين والتربة. وينقسم من الداخل إلى: غرفة واسعة للدروس، والمطبخ وفيه موقد وحوض للغسيل، والحمام وفيه مياه ساخنة وباردة، وأعلاه قبة مثقبة جميلة للتهوية والاضاءة، وغرفة الخلوة للعزلة والتعبد، ومن ثم غرفة المسافرين وغرفة الذكر وكلتاهما تطلان على منبع النهر الساحر، والتربة هي: مرقد ومدفن لشيخين من شيوخهم الكبار والمعروفين وكان أشهرهم هو" ساري سالتوك " حتى أن التكية سميت باسمه " زاوية ساري سالتوك " عاش سالتوك في القرن الثالث عشر والذي كانت تحكى عنه الحكايات الأسطورية في الثقافة العثمانية.  

           وكما ذكرت سابقا فقد أعيد ترميم التكية مرارا وتكرارا لأن لها أهمية بالغة بالنسبة للمختصين فهي تمثل معلما من المعالم الأثرية النادرة في البوسنة والهرسك، وقد أدخلت على تصميمها إضافات وطرازات معمارية تركية بسيطة حسب الحاجة. أما بالنسبة للتصميم الداخلي فكل جزء وتصميم له تفسير ورمزية خاصة عند الصوفية.  وعندما انتهت الدولة من ترميم جسر موستار المشهور، كان لا بد من ترميم هذا المبنى المميز وهو التكية والتي تتميز بشكلها البوسنوي الإسلامي النموذجي، فأحد مبانيها يتميز بسطحه الإهليجي "البيضوي" الموجود في الواجهة الأمامية للمبنى مما زاده بهاء وجمال، ونقشت تحته عناصر زخرفية وتزينية مختلفة وهذه النقوش تختلف من فرقة إلى أخرى، فعند البكتاشية تتميز النقوش بزواياها الاثني عشر مما يرمز إلى الأئمة الاثني عشر، أيضا توجد لوحة نقش عليها " بنجه آل أبا " أي الخمسة أهل العبا. وبسبب شهرتها العالمية فقد روعي في بناءها وتجديدها الاستعانة بتكنولوجيا الكمبيوتر ونتائج البحوث الأثرية والصور الفوتوغرافية المتاحة. عندما انتهت الحرب الاهلية في البوسنة والهرسك وإلى وقتنا الحاضر لا زالت الحلقات الصوفية تجتمع ثلاث مرات في الأسبوع لأداء الذكر.  والذكر هو تحميد الله وتمجيده وتسبيحه عز وجل، بكلمات مكررة حسب ترتيب الطقوس، مصحوبة برتابة النفس، وحركات جسدية، علاوة على ذلك توجد أناشيد روحية وقراءة مقاطع من القرآن الكريم.

   الإسلام والطريقة والتكية:

 الإسلام هو الانقياد والخضوع والامتثال لأمر الله ونهيه، والإسلام هو طريقة كاملة للحياة مبني على علاقة طوعية بين العبد وخالقه وهو اسلوب حياة، يسير وفقا لهدي الأنبياء والرسل الكرام ويرتكز على توحيد الله الذي لا إله إلا هو، الذي خلق الكون والمحشر إليه.  

  الطريقة في اللغة هي: المسلك اما بالنسبة للصوفية فهي ترمز لنظام كامل من الطقوس وهو يساعد المجتمع الصوفي على النهوض روحيا. فالمريد يستعد لحالة من التركيز الروحي ويحاول مستعينا بهذه الطاقة الروحية في خلوة وسكينة أن يحصل على حال إدراك حقائق الأشياء المسمى بالبصيرة في القلب.   

   والطريقة هي: أسلوب حياة مبني على مجموعة من القواعد الخاصة علاوة على المبادئ الإسلامية. والمباني والأماكن التي اجتمع فيها مريدو الطريقة، وكانت تسمى تكايا، وبالتالي التعاليم التي تطورت بعد ذلك سميت بالتصوف، وهذه التعاليم تقوم على عنصرين: أداء العبادات والطقوس بمنتهى الصدق مما يقود للتبصر والحقيقة.  والثاني هو "علم القلوب" يعطي للنفس الحكمة مبنية على الخبرة والتجربة ويعتقد الصوفية أن هذا العلم يدلهم على الله ويسهل وصولهم إليه. وفي تكية بلاغاي حسب المعلومات الموثقة سكنت ونشطت الطرق التالية: بكتاشية وخلوتية ومولوية وقدرية ونقشبندية. 

المصدر: مجلس المشيخة الإسلامية بمدينة موستار البوسنة والهرسك.