2023/10/28 | 0 | 3062
أسلوبية البناء الشعري في نماذج من قصائد الشاعر علي المحيسن
عبد الله العطيه
من البديهي أن يحمل الشعر أسلوبًا فريدًا يتخذه الشاعرُ على طريقته الخاصة، تلك الطريقة التي تختلف من شاعر إلى آخر، تبعًا للحقبة الزمنية التي يعيشها، والظروف الحياتية المؤثرة على أفكاره وشعره، فالشاعر العباسي يختلف في طريقته عن الشاعر الأندلسي، والشاعر المعاصر يختلف عما قبله من الشعراء، كذلك الشاعر المعاصر الحداثي يختلف عن غيره من الشعراء المعاصرين في الطريقة.. إلخ، وهذا كله ناتج عن التحولات والتطورات التي مرت بها القصيدة الشعرية، وبعد قراءة قصائد الشاعر علي المحيسن اتخذتُ من الأسلوبية منهجًا لقراءتها، ولكني ركزت على طريقة البناء حتى لا يطول المقام.
يعتبر شارل بالي مؤسسًا لعلم الأسلوب متكئًا على الدراسات اللسانية التي قدمها أستاذه دوسوسير، وقد ضيق بالي المفهوم، فاقتصر على التعبير العفوي دون الاهتمام بالجمال والأدب إلى أن توسعت بواسطة ليو شبتزر لتشمل القيم الأدبية والجوانب السيكولوجية، حتى اتخذت منهجًا لدراسة الظواهر الأسلوبية في الأدب، فأصبحت لا تعنى إلا بالكلام الفني دون غيره، من خلال المرسِل والمرسَلِ إليه والسياق، بهدف استجلاء الوظائف العامة للغة في الرسالة.
وقد تعددت الأسلوبية إلى عدة تعريفات نتيجة لصلتها بالعلوم الأخرى، وتشعبت باختلاف المنطلقات التي انطلق منها كل باحث، فالأسلوبية حسب بالي "ما يقوم في اللغة من وسائل تعبيرية تبرز المفارقات العاطفية والإرادية والجمالية بل حتى الاجتماعية والنفسية" (الأسلوب والأسلوبية، عبدالسلام المسدي، ص41)، بينما اعتبر رفاتير في كتابه الأسلوبية البنيوية، أن الأسلوبية هي أن تدرس الأسلوب من حيث أثره في المتلقي، أما بوفون فقال: الأسلوب هو الرجل، أي أن الأسلوب يعبر تعبيرًا كاملا عن شخصية صاحبه ويعكس أفكاره، ويقول الشاعر علي المحسين في قصيدته أيها الطارقون باب شعري:
ليس للشعر مسيرٌ دائمُ الإحساس في دربٍ وحيدِ
إنما الشعر حياةٌ ..كلَّ يومٍ هو في شأنٍ جديد
وهذا يصب في معنى واحد، مفاده أن أساليب الشعر تتعدد وفق اختلاف التفكير والشعور والذوق والزمن، وغيرها من الظروف التي يعيشها كاتب النص.
ولعلي أؤكد بأننا لن نتعرض إلى كافة الأساليب التي اتخذها الشاعر في قصائده من فلسفة ذاتية، وطرق التفكير، وكيفية نظرته إلى الأشياء، وطبيعة اللغة، وإنما سنسلط الضوء على طريقته في البناء الشعري للقصائد، حتى لا يخفى على المتلقي ما نصبو إليه، وتختلط عليه بعض الأمور.
يلجأ الشاعر إلى تكرار بعض المفردات -بصفته ظاهرة من الظواهر الأسلوبية- كوسيلة من الوسائل التعبيرية التي تؤدي وظيفتها الإيحائية في النص، لسنا نقصد بتكرار المفردة من منظور سيميائي يغلب على النص، وإنما تكرار المفردة نفسها في أكثر موضع في القصيدة، مما يشي ذلك إلى إلحاح اللفظة على الشاعر وسيطرتها على فكره ومشاعره، وهذا ما يؤكده علي زايد في كتابه عن بناء القصيدة العربية حيث يقول: "إن تكرار لفظة ما أو عبارة ما يوحي بشكل أولي بسيطرة هذا العنصر المكرر وإلحاحه على فكر الشاعر أو شعوره أو لا شعوره"ص65، وهذه الفكرة الملحة التي فرضت نفسها على النص لم تأت اعتباطًا، بل تأتي ضمن الأسلوب البنائي الذي اتخذه الشاعر في تجربته، والملاءمة اللغوية وما ينتج عن النمط التعبيري المكرر من دلالات يبرران هذا الأسلوب المتخذ في النص، وقد تضفي هذه البنية المكررة مزية إيقاعية تشد المتلقي، وتعزز من تماسك النص، وتسهم في تتابعه مما يشير إلى الاستمرارية من أجل تجلي الفكرة بصورة واضحة، وقد وجدتُ التكرار في نصوص الشاعر المحيسن يمثل سمةً أسلوبيةً لها دلالاتها ووقعها الكبيران في المتلقي، فهو يكرر مفردة، وتارة مفردتين، ففي قصيدة في دهاليز المتاهة يقول:
ما الصُّبْحُ إلا البُنِّ يَصبغُ قهوتي
ما الليلُ إلا الشَّايُ يُسكبُ من يدي
أتراهُ لَيْلِي كاذبًا أم أنه
يُرشي النَّهَارَ؛ لكي يُزيدَ تسهّدي؟!
اللَّيلُ فيَّ تخذتُهُ جَمَلاً؛ لكي
أخفي عن الأنظار وجه تجردي
فنرى تكرار مفردة (الليل) ثلاث مرات، والليل هنا يعبر عن واقع الشاعر وحالتهِ النفسية إلى الحد الذي جعله يشعر أنه (يرشي النهار)، كناية عن طول السهر وفداحة الموقف، وقد اتخذ من الليل في تكراره الأخير صورةً مغايرة تعبرُ عن الإيجابية، فالليل الذي كان ثقيلًا على قلب الشاعر، اتخذه وسيلة للتخفي عن الأنظار، وهذا التباين يحيلنا إلى قولٍ آخر استطاع الشاعر أن يقدم لنا رؤيته عبر آلية التكرار، وذلك في جملة (الشهرة العمياء)، فيقول:
فالشهرة العمياء ليست مسلكي
حتى أُضيعَ العمر في الزمن الردي
ما الشهرة العمياء إلا بِنْتُ عَبْـ
ـدٍ جاهل سيقتْ لأتفًهِ سيِّدِ
فقد جاءت الجملة معبرة عن رؤية الشاعر تجاه الشهرة، فهو لا ينبذ الشهرة في صورتها العامة، بل تلك الشهرة التي تُطلق على صانع التفاهة، والدلالة على ذلك في قوله: (أتفه سيدِ).
وقد استعان الشاعر بأسلوب التكرار للكشف عن الانتماء الوطني وذلك بتكرار مفردة تعتبر رمزًا مهمًّا في المكان الذي ينتمي إليه، فيقول:
للأرض.. للنخل المعتق أنتمي
والطينة السمراء تعرف مَحْتِدي
في وجه سعف النخل تلمحُ صورتي
وحضارتي تزهو بتمر توددي
إن تكرار مفردة (النخل) ما هو إلا تعبيرٌ عن روح الانتماء لدى الشاعر ومدى أهميته وعلاقته بالمكان، حيث إن النخل رمزٌ من الرموز التي تعبرُ عن موطن الشاعر، وعليه فقد استطاع الشاعر أن يحقق غايته من خلال أسلوب التكرار في النص، إذ كشف عن حالته وبيَّن رؤيته، وعبر عن انتمائه، وبذلك أتى هذا الأسلوب محققًا وظيفته في القصيدة.
ويمكن القول إن الشاعرَ استفاد من تقنية التكرار في تمرير أفكاره ومشاعره إلى المتلقي، فقد لعب التكرار دورًا مهمًّا في تجلي الفكرة، وانعكاس الألفاظ على حالته الشعورية، وما يؤمن به.
وقد نلاحظ في نصوص الشاعر توظيف الأفعال، وما لها من قيمة تبرز الدلالة الواضحة، وذلك عند المقارنة بين شيوع الفعل الماضي على الفعل المضارع أو العكس، مما ينعكس هذا التوظيف على الحالة الشعورية، إذ تؤدي الأفعال المتوالية وظيفتها في النص، لما للزمن من أهمية كبيرة في الدلالة، واستكناه المعنى، ويتضح ذلك جليًّا في قصيدة (أقدس أمنية)، إذ نجد شيوع الفعل الماضي في النص، وكان عدد مرات التوظيف ستة عشر فعلًا، فيما أورد ثمانية أفعال من المضارع، ويعتبر هذا التوالي من الأفعال الماضية دلالة على رفض الشاعر لحاضره الذي يعيشه، والرغبةِ في استذكار الماضي الجميل واستئناسه به، ويتضح ذلك في طلبه الوصال، في صورة درامية ابتدأ بها النص حيث يقول:
قالت وقد أرخى بعينيها الأرقْ
أتحبني؟! وتنهدت وقت الغسقْ
نثرت أريج سؤالها بتودُّدٍ
وتورَّدتْ بعد التغنج كالشفقْ
فأجبتُها: إني أحبُّكِ، يا منى
روحي، فقلبي مُذْ حواكِ قد انغلقْ
فيما غلبت الأفعال المضارعة على الأفعال الماضية في قصيدة (جيوب العشق)، حيث يقول في مطلعها:
أُبادِلُها التَّوَدُّدَ والتَّحَايا
وأُهْدِيها حُرُوفَ الحُبِّ نَايا
أُغَازِلُها بِحُبٍّ كُلَّ صُبْحٍ
لنرويَ بالْهَوَى أحْلَى حَكايا
إن توالي الأفعال المضارعة في النص، ما هو إلا دلالة على الواقع الذي يعيشه الشاعر، وتعبيرًا عن الاستمرارية، وانعكاسًا لشعوره المفعم بالسكينة والانتشاء جراء التواصل المستمر مع الطرف الآخر.
ولا شك أن القصائد تحتوي على الكثير من أفعال الأمر، وقد تباينت من قصيدة إلى أخرى في معانيها من طلب ورجاء، ولكننا تفطنا إلى نصٍّ يحتوي كلُّ بيتٍ منه على فعل أمر، وهو نص تألف من ستة أبيات، مطلعها:
رتبي فيَّ أثاث العشق حبًّا
واصنعي من شوقنا للعشق قلبًا..
وقد توالت الأفعال الدالة على الأمر كما يلي: (رتبي، اصنعي، اعتني، فلتصبي، أشعلي، ارفقي، أنشئي).
والملاحظ أن كل هذه الأفعال في النص تختص بطلب الوصال ولحظاته، ويعزى كثرتها إلى رغبته الشديدة في الوصال، وبالتالي فإن استدعاء الشاعر لتلك الأفعال وتوظيفَهُ إياها بهذه الكثافة ما هو إلا سعي لتحقيق رغباته في استمالة الطرف الآخر.
وعليه فإن الأفعال تؤدي وظيفتها في الكشف عن الحالة الشعورية للشاعر، إذ يلجأ للماضي تخفيفًا من الحاضر، فيما يصف واقعه تعبيرًا عن الحال، ومدى استمتاعه به وتقبله له، وهنا تكمن المفارقة في بنية القصيدة.
وتشكل الضمائر ظاهرة من الظواهر الأسلوبية التي تؤدي مهامها في النص من ربط بين أجزائه، ودلالةٍ في المعنى، وما لها من دور فاعلٍ بين المتلقي والنص، إضافة إلى تماسك القصيدة، وقد يتباين توظيف الضمائر (المتكلم، والمخاطَب، والغائب) من قصيدة إلى أخرى بحسب غرضها، فالقصيدة الذاتية يغلب فيها ضمير المتكلم والغائب في نصوص الشاعر، أما القصيدة المناسباتية فيغلب فيها ضمير المخاطب.
وللموسيقا دورٌ في بناء نصوص الشاعر، وتقوم بدور أساسي في الشعر، ومن خلالها يتم الكشف عن الحالة، والغرض، لما يشكل الجانب الشكلي أسلوبًا إلى الجوانب الأخرى الإنسانية والوجدانية والعاطفية، فلا يحقق الكلام وظيفته إلا عبر أسلوب ما للمادة الإنشائية، وبالتالي لا بد أن يتناسب الأسلوب مع التعبير من أجل تحقيق الدلالة، ومن هنا تلعب الموسيقا دورًا مهمَّا في بناء النص، وما توقعه من جرس يجذب انتباه المتلقي، فهي وسيلة من وسائل التعبير الإيحائي وأداة من أدواته.
وقد اعتمد الشاعر المحيسن كثيرًا على بحر الكامل، إذ تألفت اثنتا عشرة قصيدة من قصائده على وزن البحر الكامل، كونه يتناسب مع الغرض الذي وظف من أجله، من مناسبة وتأمل وشجن، واعتمد في قصائده الأخرى على بحر الوافر والرمل والمتقارب، وكلها قصائد عمودية، بينما بُنيت قصائد التفعيلة على بحر الرمل، وهذا الاختيار الذي اتخذه وسيلة لبناء نصوصه يعود إلى الموضوع والمناسبة، والحالة الشعورية التي تستدعي الإيقاع الشعري المناسب لها.
وقد تؤدي بعض الأبيات بعض الوظائف التي تضطلع بمهمة التأثير، لأن الشعر في اختلافه عن الكلام العادي المألوف، وانسكابه في لغة غير مألوفة، أكثر تأثيرًا من غيره، إذ يلعبُ دورًا بارزًا في إثارة الدهشة، تلك الإثارة التي ليست هي من أجل الدهشة فحسب؛ أي أن الأمر لم يأتِ اعتباطًا لدى الشاعر، كالذي يستدعيه بعض الشعراء في تعاملهم مع الصور التي تمس الذات الإلهية وغيرها، وإنما من أجل التأثير في نفس المتلقي، ولا يكون ذلك إلا باتخاذ الشعر بكافة أشكاله وأساليبه الإيحائية وسيلةً تحقق ما يريد أن يوصله الشاعرُ بصورة مباشرة ومأثرة، وهذا يحيلنا على آليات الحجاج وفن الإقناع.
في الختام.. يمكن القول بأن قصائد الشاعر علي المحيسن حافلة بالكثير من الظواهر الأسلوبية التي تستدعي التأمل، منها شيوع التكرار بصفته ظاهرة أسلوبية، لها وظائفها الدلالية والإيحائية، فهي تكشف عن الأبعاد النفسية، والحالة الشعورية، وتوظيف الأفعال الماضية وسيطرتها على النصوص، وهي دلالة واضحة لرفض الواقع المؤلم، إضافة إلى توظيف الأفعال المضارعة وسيطرتها على النص، لما لها من قيمة جمالية تكشف عن حاضره، وقد دلت أفعال الأمر على إبراز رغبة الشاعر، كما تجلى لنا السبب وراء اختيار الشاعر موسيقاه الخارجية في البناء النصي المعبر عن مشاعره وأحاسيسه.
جديد الموقع
- 2024-09-19 سمو محافظ الأحساء يشيد بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى
- 2024-09-19 أمير الشرقية: الخطاب الملكي أكد على مضي بلادنا لتحقيق المزيد من التطور والازدهار والنماء
- 2024-09-19 سمو نائب أمير الشرقية يشيد بمضامين الخطاب الملكي السنوي
- 2024-09-19 قصيدة النثر باعتبارها صندوقا مملوءا بالذهب
- 2024-09-19 أفراح العباد والبخيت بالمطيرفي تهانينا
- 2024-09-18 التعصب والمتعصبون
- 2024-09-17 الفتيات الصغيرات تستخدم مستحضرات مضادة للشيخوخة شاهدنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الضرر النفسي الحاصل بسببها أعمق من الضرر الذي أصاب البشرة
- 2024-09-17 التدخين أثناء الحمل يضر بالأم وبالجنين ولاحقًا بمستوى تحصيل الطفل الدراسي
- 2024-09-17 الأدلة لا تفيد بأن من عاشوا خلال المراحل الأخيرة من العصر الحجري في شمال غرب المملكة العربية السعودية قد واجهوا تحديات موجات جفاف مما اضطرّهم الي الترحال، بل عاشوا حياة متقدمة ومزدهرة
- 2024-09-17 ما الصور الذهنية وما فوائدها؟