2024/03/21 | 0 | 1324
إلى جناتنا مع التحية
كتبت الدكتورة الروائية زينب إبراهيم الخضيري حين طُلب منها كتابة مقال عن أمها قائلة: " كتبت آلاف المرات، والتقطت القلم مرات لا تحصى، وملأت الصفحات البيضاء بكتابات لا أدري أين منتهاها، ولكني هذه المرة أجدني عاجزة تماماً عن الكتابة عن أمي".
الكتابة عنها صعب مستصعب، سهل ممتنع، الكتابة عنها تتطلب عمراً آخر! الكتابة عنها مركبة ومعقدة، سلسة وشاقة ومشوقة، بل هي أشبه بالمعراج إلى السماء، إلى الأعالي، هناك حيث النور والسلام والطمأنينة، ومهما كتب الكتَّاب ووعظ الوعاظ وأنشد الشعراء، وقال القائلون فلن يوفوها حقها؛ لأنها أصل الإنسان ووجوده. الكتابة عنها دونه خرط القتاد، والمشي على حسك السعدان أسهل من كتابة جملة عنها، فليس سهلاً أن نلد أمهاتنا على الورق!
قبيل يوم العالمي لها استجمعت قواي المتناثرة ومسكت يراعي؛ لأكتب عنها براً بها، عن المرأة التي تستحق لقب أم بجدارة في عالم يشيطن المرأة؛ لتبتعد عن رسالتها الحقيقية في الحياة بدواعي العمل، والحرية الشخصية، وتكوين الذات، والانطلاق في الحياة، ومآرب أخرى.
في بدايات القرن العشرين بدأ الاحتفال بيوم الأم لتكريم الأمهات والأمومة، وتذكير العالم بجهودها، ولم يحددوا يوما محدداً للاحتفال بها، فكل دولة تحتفل به حسب ما تراه مناسباً لها. تحتفل به الدول العربية مع دخول فصل الربيع في الواحد والعشرين من شهر مارس؛ لأنها ربيع الحياة. وهو بدعة غربية حسنة ابتدعها الأمريكان ما كُتبت عليهم، أرجو أن يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها!
للأم في كل الشرائع السماوية والأرضية منزلة رفيعة لكن الإسلام امتاز عليهم جميعاً بأن جعل برها أفضل من أعظم العبادات لقوله (ص): " بر الوالدين أفضل من الصلاة، والصوم، والحج، والعمرة، والجهاد في سبيل الله ". وجعل حقها يفوق حق الأب كما ورد في حديث الرسول (ص): "من أحق الناس بحسن صحابتي"؟ وغيرها من الأحاديث النبوية.
الحديث عنها ما كان حديثاً يفترى، حديث ذو شجون لا يمل، فلها القدح المعلى في حياة الإنسان، هي قامة وقيمة مضافة لحياتنا، تحمل وليدها وهناً على وهن فيمتص من دمها، وقد تتساقط بعض أسنانها، وقد تصاب بأمراض مزمنة لكنها تحمله صابرة فرحة، فما أن تلده تضمه إلى صدرها الحنون متناسية أو متجاهلة آلامها ونزيفها وجراحها.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
هي ملحمة صبر وكفاح وقوة، تتفوق على الرجل في تحملها الآلام والأوجاع والأمراض مهما تبختر ذوو الشوارب واللحى!
إنها ترى أولادها جل أحلامها، فتتأمل فيهم مستقبلها، وترى طفولتهم ماضيها، وحياتهم امتداداً لها، وحين يشار لإنجازاتهم الرائعة بالبنان ترفع رأسها قائلة: هؤلاء أبنائي قرة عيني.
هي بطلة مسرحية الحياة التي تمثلها على الأرض مسرحها الكبير بجدارة. قال أحد المؤرخين: " حين يكون الوقت وقت أزمة وحرب ومجاعة يكون الزمان زمان المرأة، فهي تتقدم الصفوف؛ لتنقذ البشرية وحين الوفرة والرخاء والدعة يكون الوقت وقت الرجل". ونحن نرى الحروب ينشغل فيها الرجال بالقتال، فتتولى المرأة أمر الأطفال والتمريض وغيرها.
أتعجب من صبرها وتحملها كم هي معجونة من مر الصِبر، وحلاوة التمر فهي تضحي بشهواتها وغرائزها وبمالها بل بحياتها؛ لأجل فلذات أكبادها زينة الحياة الدنيا، وهي لا تعلم هل سيكونون سندها في عجزها أم سيولون الدبر؟!
هي التي تسهر الليالي الحالكة في تمريض أبنائها وفي الصباح تأخذهم بأيديهم إلى المدرسة ماشية معهم حين لا توجد وسيلة مواصلات تاركة لذيذ نومها، وفي الظهر تنتظرهم عند باب المدرسة بفارغ الصبر؛ لترجعهم إلى حضنها. وفي المساء تكون لهم معلمة خصوصية؛ ليتفوقوا عليها ويبنوا مستقبلهم.
هي التي تعيش لأبنائها فتراهم مرآتها وصورتها بل نفسها، فتعيش معهم ولهم وأجلهم؛ لتحيا فيهم حباً وعطاءً وسعادةً، فإذا ترملت أو تطلقت قد لا تتزوج خوفاً عليهم فتكون لهم الأم والأب والمربي والمعيل والحامي والسند.
يراها الطفل كل شيء وفي مراهقته يحاول الاستقلال عنها ويعاندها، وفي الأربعين تداهمه لحظات الصحو بين حين وآخر: أريد أمي، أريد أن أعود إلى حضنها، وأتذكر أكلاتها وكلماتها. ويكتشف فجأةً أنه أصبح نسخةً منها، وما كان يرفضه من توجيهاتها يكرره مع أبنائه ولا يدرك مدى تعبها إلا إذا أنجب أطفالاً!
ست الحبايب كنا ونحن أطفالاً نخفي اسمها عن أصدقائنا، ونزعل إذا عيرنا بعضهم بأمهاتنا كأن اسمها عورة! هي ملحمة صبر وكفاح وقوة، هي أقوى من الرجل في تحملها الآلام ومنها آلام الحمل والولادة والنفاس وتربية الأولاد. أتساءل عن صبرها، وأين تذهب آلامها وأوجاعها؟ هل تدربت على إخفائها ثم دفنها؟ قد يأتيها
المخاض عند جذع نخلة ولا أحد معها فتضع مولودها ثم تحمله وهي تنزف ذاهبة إلى قومها تبشرهم بغلام صبيا، فهل بعد هذا من صبر وقوة يا رجال؟!
ست الحبايب عطاء لا حدود له لأبنائها كأنها تقول لهم إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. تقدم حبا غير مشروط فلو فقدت ابنها مدة طويلة، فدخل عليها فجأة، وفي يدها سكين تقطع بها فاكهة فقد تقطع أناملها أو تجرحها من هول الصدمة!
هي آية من آيات الله ظاهرها الرحمة وباطنها الرأفة والمحبة والخير. هي نعمة من نعمه التي لا تحصى علينا. هي حارسة الفضيلة لأبنائها وقيمة مضافة لهم إذا أحسنت تربيتهم؛ لأن الأمومة قيمة إنسانية ومرتبة رفيعة لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، ليس لها جزاء إلا الجنة! هي الجميلة في حضورها وغيابها مهما تضجروا من أوامرها ونواهيها وطول حديثها. هي صانعة تاريخ الإنسان، هي جامعته ومدرسته الأولى لقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
في عيدها المبتدع لا يكفي أن نهديها أجمل الملابس، أو أزكى العطور، أو أغلى قطع الذهب والألماس والمجوهرات، وأعظم هدية تتمناها الأم طاعتها الشرعية، واحترامها، وتقدير جهودها، وزيارتها باستمرار، والوفاء لها في شيخوختها ومرضها وعجزها، فكم رأينا أمهاتٍ يتحسرن على أولادهن وهم يهدونهن أموال الدنيا، ثم يهجروهن. وأكثر ما يؤلم الأم حين يأتي العيد فلا ترى من وهبته عمرها. والمؤلم أكثر حين يزورها أبناؤها زيارة مجاملة وهم متشاغلون عنها بأجهزتهم الذكية.
نحن المسلمين كل أيام السنة هي أعيادها، فالإسلام حث على برها وطاعتها في غير معصية الله ولو كانت كافرة!
أقف إجلالاً للأم المضحية التي لم يغرها زخرف الحياة وزينتها، فتهتم بصنع أجيال المستقبل، ولا تركض خلف آخر صرعات الموضة؛ لتكون رقماً صعباً في حياتهم، فإذا كان ما على الأرض ما يستحق الحياة فعليها ما يستحق الحب والوفاء والتكريم.
إننا ننفق أعمارنا وأموالنا وجهودنا من أجل البحث عن السعادة ولا ندرك أنها عند من حملتنا بأيديها.
هي هبة الله لنا لا تقدر بثمن، ووصيته التي سيسألنا عنها، قال تعالى:
" ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً " الأحقاف 15.
" ووصينا الإنسان بوالديه حسناً " العنكبوت 8.
" ووصينا الإنسان بوالديه " لقمان 14.
بروا أمهاتكم بكل ما تستطيعون من قوة، ولا تمثلوا هذا البر بتصوير تنشرونه بين الملأ، ولا تقتلوهن بالعقوق فدعاؤهن مستجاب، وكحلوا نواظركم برؤيتهن، وحدقوا النظر في أعينهن، فالنظر إليهن برحمة بر وحب، فستكتشفون جمالاً مخبئاُ قد لا تجدونه في زوجاتكم، إنه جمال روحي ومعنوي. بوجودها تحلو الحياة، وأنصتوا لكلماتهن ولو مكررة مملة، واقتربوا منهن بأجسامكم ولامسوهن بأيديكم وأجسامكم، وقبلوا رؤوسهن بقبلات الحب والاحترام والتقدير، وارفعوهن مكاناً علياً، واشبعوا منهن، فسيأتي يوم تنظرون إليهن فلا يرددن عليكم، فلا تهيلوا عليهن التراب فتقسوا قلوبكم، واذكروهن حتى الممات، ألا بذكر الأمهات تطيب القلوب.
جديد الموقع
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد
- 2024-11-21 القراءة للكسالى
- 2024-11-21 القراءة واتباع الأحسن
- 2024-11-21 روايات أسامة المسلم بين جيلين.
- 2024-11-21 ( غرق في المجاز، مَجازٌ في الغرق ): قراءة في ديوان الشاعر جابر الجميعة
- 2024-11-20 الدكتور عبدالمنعم الحسين يدشن حملة التشجير الثالثة ببر الفيصلية