يتردد كثيراً في الأوساط الأدبية المحلية وحتى العربية مقولة «إن الجيل الحالي من الشعراء أعاد للقصيدة العامودية رونقها، وبعث فيها روح كلاسيكية جديدة، فبتنا نسمع بين الفينة والأخرى، أن هذا الشاعر جدد من صورها الشعرية، وذاك في مضامينها ومعانيها، وآخر منحها شيئاً من واقعية الحياة وديناميكيتها، وهكذا جرى الأمر، حتى كأنه بدا انتصاراً على أشكال أخرى من الكتابة، وبالخصوص «قصيدة النثر» التي تراجع البعض من كتابها عن الحراك الأدبي إنتاجاً وحضوراً مقارنة بفترة التسعينات، إزاء الحضور المكثف لشعراء القصيدة العامودية حضوراً وإنتاجاً ومشاركة.
وهذا لا يعني فيما يعنيه أن ثمة صراعاً قائماً بينهما لإلغاء أحدهما الآخر، أو أن الإيمان مفقود بحرية الكتابة في الأجناس الشعرية المختلفة لدى الطرفين، بل العكس هو المهيمن على الساحة المحلية الآن، وهو تقبل الآخر بما هو عليه في قناعاته الأدبية وكتاباته الإبداعية، وهذا التقبّل بدا لي أنه ينسحب على الآخر الفكري والعقائدي أيضاً، فالشعراء الشباب من كتاب القصيدة الكلاسيكية أكثر مرونة وأيضاً تذوقاً للقصيدة الحديثة مقارنة بالفترات السابقة (الثمانينات والتسعينات) والعكس أيضاً هو الصحيح.
لكن ما حدث لا حقاً كان العكس تماماً، فعندما أخذت ملامح ثقافة الصحوة تتلاشى شيئاً فشيئاً، بفعل رؤية 2030 وما صاحبها من تحولات ثقافية واجتماعية كان أساسها الانفتاح على ثقافة العالم بكل مكوناته الثقافية والفكرية والأدبية، كان من بين هذه التحولات «الذائقة الأدبية» (وعندما أركز على تحول الذائقة تحديداً لأن ظاهرة التحول عندها بارزة للعيان بخلاف التحولات الأخرى التي لم نختبرها بعد، فثمة ما هو تحت السطح كامن في العمق) الذي كان أكبر ممثليها هم الجيل الحالي من الشباب سواء من يكتبون القصيدة العامودية أو الأشكال الأخرى.
لكن اللافت للنظر أن الذين يكتبون العامودي هم الأنشط والأكثر حضوراً وفاعلية، وذلك ما يعزز من فرضيتي التي مفادها: أن التحولات الاجتماعية والثقافية والأدبية التي أسست لها رؤية 2030 لم تؤد فيما أحسب إلى التجديد في الشكل الشعري بما يواكب أو يوازي تلك التحولات، باعتبار مساحة الحرية المتاحة، وعليه اختفى الشعراء المغامرون الذين كانوا يرفعون شعار المغامرة في الكتابة منذ الثمانينات، وامتلأت الساحة بدلاً منه بمقولة التجديد من خلال «وهم» تجديد القصيدة العامودية.
وعندما أضع كلمة «وهم» مجاورة لكلمة التجديد، فلا يعني بالنسبة لي موقفاً مسبقاً من القصيدة العامودية أو الإيقاعية، فهناك أسماء شعراء وأصدقاء عزيزين عندي يكتبونها بصفاء الشاعرية وروعة الصياغة وخفة الإيقاع. لكن معنى التجديد في أفق الكتابة الأدبية بشكل عام، خصوصاً ما يتعلق منها بالأشكال الشعرية، لا يرتبط فقط بتحولات الذائقة عند المبدع نفسه، أو حتى انفتاح ثقافة المجتمع وتفاعله معه، بل هناك الجانب الأكثر موضوعية في معنى التجديد القائم على العلاقة الجدلية بين الفرد المبدع من جهة، والمجتمع وثقافته ولغته وتحولاته الحياتية من جهة أخرى. ولا يمكن لهذه العلاقة التأثير العميق في أشكال التعبير الأدبية والفنية إلا بوجود أحداث كبرى تزلزل كيان المجتمعات من الجذور، وتلقيها في متاهة من الضياع والتشتت ومساءلة الحدث نفسه والذات نفسها كما حدث للمجتمعات الأوروبية مع الفكر والأدب بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن دعوني أدلل على التجربة الإبداعية السورية بعد المآسي التي مروا بها طوال إحدى عشرة سنة بعد ثورتهم التي أجهضت منذ عام 2011م.
لقد حدث شرخ في المجتمع السوري أدى فيما أدى إليه إلى ميلاد علاقات جديدة: بين الإنسان ونفسه، الإنسان وقيمه الاجتماعية، الإنسان ولغته وتعابيره الفنية والأدبية. فمن بين علاقاته تلك، كانت علاقته بالموت التي انبنت أساسا على ثيمة الألم الإنساني، فقد أظهر جيل هذه المأساة علاقة بالموت، أقل ما يقال عنها أنها تهكمية، متآلفة معه حد الصداقة بعض الأحيان، الأمر الذي لم يكن مألوفاً فيما سبق في تجارب ما قبل الثورة. يقول على سبيل المثال الشاعر السوري حكمة شافي الأسعد: «في المساء وأنتم تجمعون أعداد الموتى من نشرات الأخبار، تأكدوا أنني لا أمازح الموت... ولا أناقشه، فاسمي على إحدى قوائمه، وأمامنا عمل طويل وجاد حتى يحين ذلك».
قد يتساءل البعض ليس شرطاً أن تحدث مآسٍ كبرى حتى يتم التجديد؟ وإذا تم ليس شرطاً أيضاً أن يتم ضمن شكل محدد في التعبير الشعري؟
صحيح هذا الكلام في كلا الشرطين. لكن صحيح أيضاً أن مجتمعاتنا العربية تواقة إلى آفاق أرحب تعيد وصله بتاريخه وبحاضره في آنٍ واحد. وليس أقرب إلى ذلك سوى الكتابة الإبداعية على مستوى الوجود الشخصي للإنسان.
وهذا لا يعني فيما يعنيه أن ثمة صراعاً قائماً بينهما لإلغاء أحدهما الآخر، أو أن الإيمان مفقود بحرية الكتابة في الأجناس الشعرية المختلفة لدى الطرفين، بل العكس هو المهيمن على الساحة المحلية الآن، وهو تقبل الآخر بما هو عليه في قناعاته الأدبية وكتاباته الإبداعية، وهذا التقبّل بدا لي أنه ينسحب على الآخر الفكري والعقائدي أيضاً، فالشعراء الشباب من كتاب القصيدة الكلاسيكية أكثر مرونة وأيضاً تذوقاً للقصيدة الحديثة مقارنة بالفترات السابقة (الثمانينات والتسعينات) والعكس أيضاً هو الصحيح.
لكن ما حدث لا حقاً كان العكس تماماً، فعندما أخذت ملامح ثقافة الصحوة تتلاشى شيئاً فشيئاً، بفعل رؤية 2030 وما صاحبها من تحولات ثقافية واجتماعية كان أساسها الانفتاح على ثقافة العالم بكل مكوناته الثقافية والفكرية والأدبية، كان من بين هذه التحولات «الذائقة الأدبية» (وعندما أركز على تحول الذائقة تحديداً لأن ظاهرة التحول عندها بارزة للعيان بخلاف التحولات الأخرى التي لم نختبرها بعد، فثمة ما هو تحت السطح كامن في العمق) الذي كان أكبر ممثليها هم الجيل الحالي من الشباب سواء من يكتبون القصيدة العامودية أو الأشكال الأخرى.
لكن اللافت للنظر أن الذين يكتبون العامودي هم الأنشط والأكثر حضوراً وفاعلية، وذلك ما يعزز من فرضيتي التي مفادها: أن التحولات الاجتماعية والثقافية والأدبية التي أسست لها رؤية 2030 لم تؤد فيما أحسب إلى التجديد في الشكل الشعري بما يواكب أو يوازي تلك التحولات، باعتبار مساحة الحرية المتاحة، وعليه اختفى الشعراء المغامرون الذين كانوا يرفعون شعار المغامرة في الكتابة منذ الثمانينات، وامتلأت الساحة بدلاً منه بمقولة التجديد من خلال «وهم» تجديد القصيدة العامودية.
ما أقوله حول هذه المفارقة لا يعني تقييم هؤلاء الشعراء من كتاب العامودي أو وضعهم في خانة التبخيس، بل كل ما أردته هو وصف هذه المفارقة حسب ما أراه من وجهة نظري تحديداً، وإثارة الساحة الأدبية بالأسئلة والملاحظات.
وعندما أضع كلمة «وهم» مجاورة لكلمة التجديد، فلا يعني بالنسبة لي موقفاً مسبقاً من القصيدة العامودية أو الإيقاعية، فهناك أسماء شعراء وأصدقاء عزيزين عندي يكتبونها بصفاء الشاعرية وروعة الصياغة وخفة الإيقاع. لكن معنى التجديد في أفق الكتابة الأدبية بشكل عام، خصوصاً ما يتعلق منها بالأشكال الشعرية، لا يرتبط فقط بتحولات الذائقة عند المبدع نفسه، أو حتى انفتاح ثقافة المجتمع وتفاعله معه، بل هناك الجانب الأكثر موضوعية في معنى التجديد القائم على العلاقة الجدلية بين الفرد المبدع من جهة، والمجتمع وثقافته ولغته وتحولاته الحياتية من جهة أخرى. ولا يمكن لهذه العلاقة التأثير العميق في أشكال التعبير الأدبية والفنية إلا بوجود أحداث كبرى تزلزل كيان المجتمعات من الجذور، وتلقيها في متاهة من الضياع والتشتت ومساءلة الحدث نفسه والذات نفسها كما حدث للمجتمعات الأوروبية مع الفكر والأدب بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن دعوني أدلل على التجربة الإبداعية السورية بعد المآسي التي مروا بها طوال إحدى عشرة سنة بعد ثورتهم التي أجهضت منذ عام 2011م.
لقد حدث شرخ في المجتمع السوري أدى فيما أدى إليه إلى ميلاد علاقات جديدة: بين الإنسان ونفسه، الإنسان وقيمه الاجتماعية، الإنسان ولغته وتعابيره الفنية والأدبية. فمن بين علاقاته تلك، كانت علاقته بالموت التي انبنت أساسا على ثيمة الألم الإنساني، فقد أظهر جيل هذه المأساة علاقة بالموت، أقل ما يقال عنها أنها تهكمية، متآلفة معه حد الصداقة بعض الأحيان، الأمر الذي لم يكن مألوفاً فيما سبق في تجارب ما قبل الثورة. يقول على سبيل المثال الشاعر السوري حكمة شافي الأسعد: «في المساء وأنتم تجمعون أعداد الموتى من نشرات الأخبار، تأكدوا أنني لا أمازح الموت... ولا أناقشه، فاسمي على إحدى قوائمه، وأمامنا عمل طويل وجاد حتى يحين ذلك».
قد يتساءل البعض ليس شرطاً أن تحدث مآسٍ كبرى حتى يتم التجديد؟ وإذا تم ليس شرطاً أيضاً أن يتم ضمن شكل محدد في التعبير الشعري؟
صحيح هذا الكلام في كلا الشرطين. لكن صحيح أيضاً أن مجتمعاتنا العربية تواقة إلى آفاق أرحب تعيد وصله بتاريخه وبحاضره في آنٍ واحد. وليس أقرب إلى ذلك سوى الكتابة الإبداعية على مستوى الوجود الشخصي للإنسان.