جزء مؤلم من حكاية رواية للسوداني أمير تاج السر

جزء مؤلم من حكاية رواية للسوداني أمير تاج السر تصنف ضمن الواقعية السحرية. من الروايات القليلة التي تنتشي في قراءتها وتطرب في نهايتها بسبب الإلتواءات والانعطافات في الحبكة القصصية والنهاية الصادمة وغير المتوقعة. يأخذنا الكاتب في رحلة بطريقة الراوي المتكلم مع صديقنا البطل الذي نجهل اسمه في البداية حتى نعرفه بعد خمسين صفحة وهو شاب اسمه مرحلي أعلم أنه اسم غريب وربما أغلب أسماء الشخصيات غريبة ولكن هذا ما سار عليه الكاتب في الرواية أسماء غريبة وأحداث أغرب. نرى مرحلي متنقلا عبر البحار إلى بلدة كي يعمل فيها ونتعرف عليه فهو شاب أربعيني وكما يبدو فهو من أسرة يموت أفرادها مبكرا في عقدهم الخامس ولأسباب غريبة فبعضهم مات بسبب ألم في ضرس العقل وبعضهم بسبب تورم طفيف في الرقبة أو بسبب مغض في المعدة أو انتفاخ في السرة وماتت أمه مبكرا أيضا قبل أن تصل سن العشرين، أما أبوه فتجاوز التسعين وما زال حيا، أما أخته جنوبة التي تصغره بعدة أعوام فتتمتع بجسم قوي ينبئ أنها ستتحول إلى شجرة وهذا مصطلح يشير إلى المرأة التي تصل إلى سن المائة وتتمتع بحكمة. وقد ترك صديقنا البطل أسرته مبكرا وتكاد تكون علاقته بها منقطعة ونزل ببلدة تسمى بوادي ورغم الحكاية التي تدعو للتعاطف مع البطل لكن أي بادرة للتعاطف قد تتلاشى حينما نعرف مهنة ذلك الرجل وأنه مجرد قاتل مأجور يقتل أي أحد لأجل المال حتى لو كان ذلك الأحد مجرد طفل وقد دخل تلك البلدة خصيصا كي يقوم بمهمة من ذلك القبيل لمصلحة شخص اسمه ديباج كوثري كما يلمح البطل إلى وجود رسالة مبهمة ملصقة في باطن حقيبته ربما يكون مكتوبا فيها تفاصيل مهمته في تلك البلدة. لكنه لا يجد سكنا مناسبا له بل يقع في فخ نصبته له امرأة فتحول الصياد إلى طريدة إذ تلقى ضربة قوية على رأسه من عصابة طقوسية ولما استفاق ادعوا أنهم أنقذوه ثم سألوه سؤالا غريبا هل أنت ابن إبليس؟ احفظ هذا السؤال لأننا سنعود إليه في نهاية الرواية لأن الرواية تبدأ من النهاية ثم تعود بالأحداث إلى الماضي حتى تصلنا إلى نقطة البدء وتشرح لنا هذا السؤال هل أنت ابن إبليس؟ كان الخوف يطغى على الرجل ويتوهم بعض الأشياء من الخوف كرؤيته مخالب طويلة بالقرب منه وفكر في أنهم ربما يكونون من أكلة لحوم البشر.
نجح الكاتب ببراعة في تجلية بواطن ذلك القاتل والتي كانت بخلاف الظاهر تضج بالألم والأسى بسبب ما تفرضه عليه تلك المهنة البشعة والتي جلبت له كوابيس كثرة درجة جعلته يعتادها لكثرتها حتى إنه بدأ يخاف ويضطرب إن قتل أحدا ولم يحلم بكابوس بل بدأ يتمنى الكوابيس ويأنس بها.
نتعرف على ماضي البطل عن طريق العودة للماضي بصورة مفصلة ونراه في مملكة تسمى مملكة قير ونجد بداية تعرفه على ديباج الفارسي أو ديباج كوثري وكيف نمت علاقته به وتطورت. نتعرف على مملكة قير وكيف كانت تستقبل المهاجرين بابتسامة عذبة وإتاحة الفرص للوافدين. أما ديباج الفارسي فيعيش في حي الشبح أفقر الأحياء قاطبة في كونداي يعمل في صناعة التمائم لأغراض مختلفة كالربط والتفريق، لكنه نفسه لا يعلم إن كانت تمائمه ستؤدي وظيفتها أم لا لكنه يصنعها لأنها مهنته التي تدر عليه المال ويعترف لصديقه مرحلي بأنه غير مرتبط لا بجن ولا بغيرها. فقد ديباج زوجته التي كان يحبها لكن حبه لم يمنعه من اقتراف اللذائذ المحرمة حتى باتت عادة. أما بطلنا فكان يخب خلفه في حي وطرة يتبعه داخلا مداخله وخارجا مخارجه ينظر إلى ما ينظر إليه ويتكئ على ما يتكئ عليه ويتلوث حذاؤه بما يتلوث به حذاء صاحبه شيئا فشيئا حتى يكتشف مواهبه في القتل ويدخله ذلك العالم المعتم فيأخذه من مهنته كصانع أقفاص الدجاج إلى قاتل مأجور وبينهما وظيفة انتقالية أو مرحلية أو لهدف التهيئة لوظيفة قاتل مأجور وهي وظيفة مساعد مغسل الموتى. يتسلم مرحلي رسائل من كوثري يزعم أنها من أرباب عملهم مسجلا فيها تفاصيل المهام التي ينفذها مرحلي بكل حرفية وصمت. يعيش مرحلي في حي بلا اسم منعزلا في حجرة واسعة مليئة بأشياء التقطها من الشارع ومن السطوح تمثل الفوضى التي أرادها. ويستمر في مهنة قاتل باطنية ومهنة مغسل موتى ظاهرية. وقد مارس مهنة قاتل مأجور مدة عشرين عاما رغم زهادة الأجر وتنتشر أخبار القتل في المدينة كذلك تظهر أخبار جرائم أخرى لمغتصب أطفال اغتصب أكثر من ثلاثين طفلا وطفلة خلال ست سنوات الأمران أي القتل المتكرر والاغتصاب المتكرر يؤرقان قائد الشرطة كرم وهو ابن الملك حيث يفشل في إيجاد هذين المجرمين.
نجد شخصية المريد مرجان قارئ الأخبار المحبوب والذي سيؤدي دورا معنا بعد قليل.
ليست الأسماء في هذه الرواية فقط الغريبة بل حتى المهن فالخال هشابي يمتهن مهنة البحث عن المفقودين لكنه لم يبحث عن مرحلي الذي هرب من منزله الأمر الذي أغضب مرحلي ليس على خاله الذي لا يعمل إلا لمن يدفع وحسب بل على عائلته وبالذات أخته جنوبة التي لم تبذل جهدا لإقتاع أبيها بالبحث عن أخيها رغم المودة بينهما.
وفي منصة خاصة يذكر فيها أهم الأخبار مباشرة أمام الناس عن طريق قراء خاصين نجد مرحلي يحرص على الحضور واستماع الأخبار بعد كل جريمة قتل يرتكبها كان يحضر وهو متوتر في بداياته لكنه أصبح يحضر ليتتبع أخبار أفعاله أو ليشعر بنوع من النشوة حتى قام بقتل طباخ الملك المكروه من الجميع وتمكن أحد قراء الأخبار المحبوبين وهو المريد مرجان من كشف مرحلي وأنه القاتل ولكن ينقصه الدليل أو المشاهدة وإنما اكتشافه فقط بقوة الملاحظة والاحساس الكبير الذي يتمتع به وبالتأكيد لم يكن ذلك كافيا ليقف شاهدا أمام القاضي، وفي الواقع لم يكن مرجان معنيا بكشف مرحلي عرفنا ذلك حينما كشف له سره بأنه أي مرجان هو مغتصب الأطفال الذي يبحث عنه الجميع وهنا تقاطع طريقا المجرمين مع بعضهما البعض وكأن مرجان تعمد أن يتبادل مع مرحلي كشف الأسرار لهدف مجهول.
سلاملي الكذاب يمثل الجزء الأهم من الجانب الخوارقي في الحكاية وهو رجل ميت منذ سنوات يعود للظهور ولا يراه إلا مرحلي والغانية كمانة فهو قد بنى غرفة بقرب غرفة مرحلي ولما أخبر مرحلي ديباج الفارسي بالأمر لم يجدا سلاملي الشبح الذي يظهر ويختفي ولا غرفته التي بناها كما أنه بدأ يخيف كمانة بظهوراته المتكررة وأفعاله المتكررة معها، هناك جوانب خوارقية أخرى أعطت الرواية تصنيف الواقعية السحرية مثل قصة الياطور الذي مات منذ سنوات طويلة وتم دفنه مرة ثانية الآن من قبل أشباح.
حينما يعمل الولد الغجري خفير لدى الفارسي تبدأ العلاقة بين مرحلي والفارسي بالتوتر فمرحلي قلق من خفير ولا يحبه لكنه أي خفير يتوسع ويتمدد في علاقته بالفارسي حتى يُدخل مهنة جديدة في محل التمائم الخاص بالفارسي وهي مهنة الخياطة. أما القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت حينما عاد العمل إلى مرحلي برسالة جديدة بعد انقطاع طويل مرسلة من قبل ديباج لكن الأمر الذي أرعب مرحلي كون الرسالة جاءته من قبل خفير بمعنى أن ديباج خالف عهد السرية في عمله مع مرحلي بإدخال شخص آخر غير موثوق بالنسبة لمرحلي ومن الممكن أن يتسبب بقيادته إلى حبل المشنقة، قصة كادت تشعل فتيل العداء بين الصديقين لولا انكشاف الحقيقة في الوقت المناسب وعى أن الرسالة المبعوثة ليست رسالة قتل بل هي دعوة من خفير إلى مرحلي لحضور حفل زفافه من مبروكة الفتاة الجميلة التي ماتت قبل زفافها بيوم فحزن لها مرحلي وكوثري وصار موتها سببا جديدا لكره مرحلي لوجه الشؤوم خفير. وبالتأكيد هناك أسرار تنكشف في النهاية.
من أهم ميزات الرواية بناء شخصيتي مرحلي وديباج الفارسي والعلاقة التي جمعتهما رغم أنها علاقة شر لكنها مبنية بتأن وتطور وتدرج يعلقك بتلكما الشخصيتين.
أما اللغة فكانت بديعة والسرد كان متينا والرواية رائعة للغاية ولكنها تتطلب صبرا وجوا رائقا هادئا كي تندمج معها ولا بد أن تعطيها فرصة وإلا ربما رميت بها ولم تكملها فهي تطبخ الأحداث على نار هادئة لكنها تعدك بطبخة مميزة في النهاية. كما أن الكاتب استخدم أسلوب الفوضى الخلاقة في تراتبية الأحداث فلا يوجد أحداث مرتبة زمانيا بل يذكر أحيانا أحداثا ترتيبها متقدم ذكرا عابرا ثم يعود لها لاحقا بشيء من التفصيل الأمر الذي عرفنا إجمال الشخصية أولا ثم تفصيلها. وكل حدث أو تفصيلة مهما كانت صغيرة قد تجد امتدادا لها أو توضيحا مستقبلا.
الاستفادة من البيئة المكانية التي رسمها الكاتب كانت جيدة للغاية ودارت فيها أحداث مهمة مثل منصة الإخباريين والمقعد الإضافي الذي أضيف لاحقا ومثل غرفة مرحلي وسوق محيي الدين وسوق الدفار الشعبي.
كما أن للرواية ثيمة خاصة بها ونسقية تسير عليها بطريقة تكاد تكون مطردة.
ولو أردنا التوقف عن ذكر محاسن الرواية وتسجيل جانب سلبي للرواية لن نجد الكثير عدا أنني لاحظت أن الكاتب كان يمكن أن يوظف عائلة مرحلي بطريقة أكبر خصوصا وأنه ذكر بعض المعلومات عنهم وقد كنت أترقب أن نصل إليهم ونتعرف عليهم أكثر خصوصا أخته جنوبة المرشحة لتكون شجرة.