2021/10/09 | 0 | 3575
عوالم كافكا
إن من بين التقنيات الفنية التي تُميز نصوص كافكا الأدبية خاصية أن المغزى الذي يُكتسب في أثناء عملية القراءة سريعاً ما يتلاشى، كونه نوعا من التفريغ الدائم من المعنى أو الانهيار الدائم والمتكرر لعملية بناء وتوليد المعاني، مما يحول دون الحسم النهائي لمغزى الصور والمجازات، ومما يعيد القارئ مجدداً لنقطة البدء في حركات دائرية أو بارابولية تؤدي لتراكم عديد من طبقات المعنى، بل إن هذه الخاصية تُخلخِل المعنى وتكشف أدبية النص إلى حد بعيد. قوانين اللعبة هذه أو تلك الأساليب الفنية داخل النص هي التي تشكل وتلوّن اللغة الأدبية والخاصية الشعرية لنصوص كافكا. وهي نصوص لا تشير، في الغالب، إلى عالم ملموس ومحدود بجغرافيا بعينها، وذلك بسبب تجردها من أي اشارة إلى مكان أو زمان أو سياق تاريخي أو ثقافي محدد؛ فهي لغة بدون (إقليم)، لغة منزوعة الوطن أو الإقليم (دولوز وكَوتاري).
ويشبّه ساندر جيلمان هذا النوع من الكتابة بعملية التحرير الصحفي، وكأن كافكا ينجزه بالفعل في رأسه، ثم يمارس فعل التدوين بعد محو كل شي من نصوصه، "ويمكن من خلاله التعرف بشكل محدد على ادارته (كافكا) الذاتي للعالم". أي أنه يمحو في رأسه أي إشارة أو اسم أو شخصية أو علم أو واقعة تاريخية، ثم يشرع في الكتابة، ولا يندر أن تدفع هذه الطريقة في الكتابة بالقارئ إلى مأزق أو درب مسدود. هذا من ناحية السرد والحبكة الروائية، ولكن ما علاقة كافكا باليهودية؟
مَثلت علاقة كافكا باليهودية إشكالية جوهرية في تأويل أعماله، وكانت دوماً محوراً للجدل والنقاش بين النقاد. ويتضح هذا مثلاً من مداخلة أرنست بافل (أحد كتاب سيرة حياته) حول النزاع على هوية كافكا، وكونه كاتباً يهودياً في المقام الأول وليس ألمانياً.
ولكن هذا الجدل الذي احتدم بعد تحوله إلى أديب عالمي بعد موته بعقود كان قد بدأ بالفعل في أثناء حياته، حيث كان هناك من يُصر على تصنيفه. أما هو، فقد رفض هذا التصنيف بشكل تهكمي ساخر، كما يتضح من رسالته إلى فيلسه باور عام 1916. فقد وصف صديقه برود قصصه بأنها من أهم الوثائق اليهودية لهذا العصر، بينما وصفته في الوقت نفسه احدى الصحف بأن كتاباته تعد أدباً ألمانياً أصيلاً. مما دعا كافكا للتّهكم سائلا فيليسه باور في احدى الرسائل: "ألا تريدين أنتِ أيضاً أن تقولي ماذا أنا في حقيقة الأمر؟". إذاً كافكا لم يكن يَعُدّ نفسه منتمياً لأي هوية، ولا يرى ضرورة لهذا التصنيف، لكنه كان بالطبع مهتماً بالتراث اليهودي، وخصوصا فيما يتصل بتيارات وحركات التصوف، حيث أبهرته هذه العوالم التي تَعَرّفَ عليها من خلال يهود أوروبا الشرقية؛ عوالم التدين الشعبي والتصوف. وقد انعكس هذا الانبهار بشكل كبير في أعماله ولكن بشكل غير مباشر.
تشير السيرة الذاتية لكافكا بوضوح إلى معرفته واتصاله بعالم التصوف اليهودي، حيث اطلع وهو اليهودي العلماني على الثقافة اليهودية الشرقية (شرق أوروبا) وحركات التصوف من مصادر مختلفة. ومن أهمها لقاءه بفرقة تمثيل مسرحية من أوروبا الشرقية جاءت إلى براغ، لتقدم عروضها بلغة اليديش، وهي اللغة التي فقدها يهود غرب أوروبا مع الذوبان ونهاية حياة الكيتو أو بتعبير أكثر دقة الشتيتل، لكنها بقيت حية عند يهود شرق أوروبا. وكان فضول كافكا واهتمامه بهم كبيراً، فنمت بينه وبين الممثل إسحاق ليفي، أحد أعضاء هذا الفريق المسرحي، صداقة قوية. وبالإضافة إلى هذا تُوثق لنا يومياته تفاعلاً عميقاً مع التراث والتاريخ اليهودي الشرقي الذي راجت فيه حركات التصوف الجماهيرية، خصوصاً الحاسدية. وقد بلغ اهتمام كافكا بالتاريخ والثقافة اليهودية ذروته عندما انكبّ بنهم على كتاب باللغة الفرنسية، يضم بين طياته 500 صفحة بالفرنسية لماير بينس عن تاريخ الأدب اليهودي الألماني (اليديشي). كما يمكن أن نعد صداقته مع جورج لانجر، المعروف بجيري، من أهم المصادر التي مكنته من فهم هذه العوالم الغريبة عنه. وكان لانجر مثل كافكا يهودياً غربياً من براغ، ولكنه انكب بشدة على دراسة التصوف اليهودي، وعاش بعض الوقت مع المتصوفين الحاسديين في مدينة بيلتسى التي كان يصفها بنفسه بأنها "روما اليهودية". ولم يُطلع جيري لانجر صديقه كافكا فقط على الزعامات الروحية للحاسدية (الصدِّيقيين أو الصالحين) بل هيأ له أيضا الاتصال بهم، كما يصف كافكا في احدى يومياته زيارته مع ماكسي برود ولانجر عند حاخام المعجزات بيتسكوف. بالإضافة إلى خبرة كافكا في التصوف، يضيف فالتربنيامن في دراسته له جانب آخر وهو خبرة كافكا كإنسان حديث وابن للمدينة الكبيرة، والذي أدركه كافكا بإن وقع تحت طائلة جهاز بيروقراطي ضخم يتسم بالغموض وعدم الشفافية. كما أن وظيفة هذا الجهاز وطريقة عمله يسيطر عليها جهات أو كيانات مبهمة وغير معروفة لدى أعضاء الأجهزة التنفيذية أنفسهم ناهيك عمن تتعامل معهم من أفراد (القضية). وهذا العالم، عالم البيروقراطية والموظفين، الذي لا يقل غموضاً كما يصفه بنيامين، قد صار كافكا نفسه أحد ضحاياه.
وينتمي إلى هذا القطاع أيضا طائفة من رجال القانون الذين يتميزون بلغة ذات خصوصية وتفاصيل فنية ماكرة. وكانت هذه اللغة مألوفة تماما لكافكا الذي درس القانون ونال فيه درجة الدكتوراه، كما كان تماما يعرف اللغة الجدلية لدارسي التلمود من المتدينين اليهود والمتصوفين. وتشير قراءة بنيامين لأعمال كافكا لحضور هذين العالمين بقوة داخل النصوص، كما تشير إلى إعادة إنتاج محورية السلطة الخفية لهذه العوالم ولكن بشكل فني أدبي مستتر، وبهذا فهي تفسر من ناحية الصراع المتواصل بين الفرد والسلطة الغير مرئية كما تدرك من ناحية أخرى آليات التأويل اللانهائية داخل النص. فوجود الفرد أمام سلطة غير مفهومه وغير مرئية لا يستطيع التواصل معها يتناغم مع استحالة الوصول إلى فهم وحيد، وتأويل واضح. وينطبق هذا على كل من عالم البيروقراطية الحديثة والقانون وعالم التصوف الغامض، إذ أنّ كلاً من تفسيرات المدارش وشروح التلمود التي لا تنتهي، وأيضاً المذكرات القضائية المضنية والمراسلات البيروقراطية المتبادلة بين الموظفين ودوائر الأجهزة كلها على السواء بالنسبة إلى كافكا تنويعات مثالية لهذا التأويل المستحيل واللانهائي، كما تمثل بجدارة شِعرِيَّة عدم الوصول، فأبطال كافكا لا يصلون، والرسائل لا تصل، والمعاني لا تتجلّى في هذا السياق وداخل هذا المزيج بين عوالم سلطة روحية غيبية تراثية قديمة، وأخرى بيروقراطية واقعية حداثية، فيمكن فهم أعمال كافكا التي يغلب عليها تلك الأجواء الغرائبية والخليط العبثي بين الواقعي والخيالي.
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد