الحضور الأدبي في فكر الأديب

مع كتاب سيدتي الكلمة في اللغة والأدب، للمؤلف/ محمد رضي الشماسي، الطبعة الأولى 1435هــ/ 2013 م.

كلمة (أديب) جميلة في مبناها، ودقيقة في معناها. يهواها عشاق الكلمة من الأدباء والشعراء؛ فهي كلمة موحية إلى معاني الجمال في وجودها الاصطلاحي، وموحية إلى معاني التقويم الخلقي والتربوي في وجودها المعجمي والعلاقة وثيقة جدا، بين الوجودين الاصطلاحي والمعجمي؛ وذلك بسبب تجانس المفاهيم لكلا الجانبين: السلوك التربوي من جهة، والأسلوب الأدبي من جهة أخرى. والذي يفترض في هذا الأخير أن يؤدي إلى التقويم التربوي والأخلاقي، فكل منهما سلوك، وكل منهما أسلوب.

والأدب - سواء كان بالمفهوم اللغوي أم بالمفهوم الأدبي – يعد مكسباً اجتماعياً متى توفرت قيمه الخيرة لدى المجتمع، وحصيلة حضارية متى وجدت عناصره الطيبة لدى الأمة. أن تكون أديباً يعني أن تكون ذا سلوك تربوي، ويعني - أيضا - أن تكون كاتبا أو شاعراً. معنيان يفترض فيهما التلازم، وعندئذ يصيران كالرافدين اللذين يصدران من منبع واحد لينتهيا إلى مصب واحد أيضًا.

ويفترض، أيضًا، عدم غياب الأدب بمفهومه الاصطلاحي من ذهنية المثقف لنفس الأسباب؛ فالحضور الأدبي في عقل الأديب ضرورة ملحة يفرضها مبدأ الإبداع؛ هذا الذي لا ينفك يحتضن جميع العناصر المقومة للعمل الأدبي الناضج. والعناصر المقوّمة تتوفر، عادة، من العوامل التي ترتبط بسر الإبداع؛ كأن تكون من أصل تاريخي، أو تراث فكري، أو جذر ثقافي. هذا بالإضافة إلى جو المعاصرة التي هي أيضًا، تساهم في عملية بناء العمل الأدبي، مساهمة تدخل ضمن مكوناته البنيوية.

فالحضور الأدبي في عقل الأديب يعني حتمية تمثل الأديب لتراثه الأدبي وهو سيقوم بصياغة عمله الفني شعراً كان أم نثرا، بحيث يستمد، من ذلك التراث، الكلمة، ويستلهم العبارة من نص نثري بيت شعري، أو آية قرآنية حتى تكتمل عنده وسائل الإبداع. ولن يتم كل هذا لأديب ناجح ما لم يتوفر على دراسة الأدب العربي الأصيل، ويعيش أجواءه الإبداعية. أما أن ينأى عن الأصالة معتدا إياها منهجاً تقليديا لا يتناسب وروح العصر، وما تتطلبه الحداثة، فذلك خطل في الرأي، وزيغ في التفكير.

فالحضور الأدبي وحده لدى الشاعر أو الأديب كفيل بالابتعاد بهما عن مواطن الضعف في الفن، ومضان الإخفاق في الإبداع. وعلى أصحاب الكلمة المسؤولة أن يعطوا الكلمة حقها من الرونق والرواء والمضمون في صياغة العمل الأدبي. أجل، فإنهم مسؤولون.

وإذا نظرنا إلى الأدب من خلال مفهومه الوظيفي فهو حرفة أو صناعة بيد الأديب، ومن هنا يأتي ثقل المسؤولية التي يتحمل أعباءها الأديب نفسه من ثنايا أدواره في المجتمع على الصعد المختلفة. فإحساس الأديب بمسؤوليته - والأديب حساس بطبعه - أولى الخطوات على الطريق الطويل المحفوف بقضايا المجتمع الشائكة. وكل عمل أدبي - من قصيدة أو مقالة أو قصة أو بحث أو حتى خاطرة يقوم به كاتبه - إنما يصدر عن رؤية هذا الكاتب نفسه كمنتج مسؤول عن سلامة إنتاجه من أعمال أدبية، بحيث يؤدي بها وظيفة فنية ذوقية ومسؤول، أيضًا عن سلامة المجتمع باعتباره متلقيا لهذا الإنتاج. فالأديب - من خلال هذا المعنى - يقوم بدور المؤدب بمعنى المعلم الذي يوجه تلاميذه نحو خير أنفسهم والمجتمع. وقد استخدم العرب، قديماً، لفظة (مؤدب) إطلاقًا على معلم أولاد الخلفاء في العصور الإسلامية الأولى.

ثم إن الأدب - بمقياسه الوظيفي - يخدم فكرة الحضور الأدبي في عقلية المثقف والأديب خدمة فاعلة تقوم على قاعدة الإخلاص للعمل، والمتلقي العمل.

الحضور الأدبي في فكر الأديب كشرط جوهري لإيجاد بناء متكامل في أي عمل أدبي يقوم بتأليفه الأديب نفسه، وكشرط جوهري، أيضًا، لإيجاد أرضية ثقافية ثابتة لدى المثقف.

والموهبة الكبيرة، أدبية أم علمية، هي تلك التي تستحضر كل مخزونها الفكري في أثناء كتابة العمل الأدبي، أو عند وضع نظرية، أو إثباتها، أو إيجاد نتائج دقيقة من تجربة معملية وصدق الرسول (ص) وهو المعلم الأول لهذه الأمة - إذ رُوي عنه في شعب الإيمان للبيهقي قوله الكريم: ﴿ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ - إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً - أنْ يُتْقِنَهُ).

   إشراقة من التراث:

قال أحد العلماء:" العلم خليل المؤمن، والحِلْم وزيـره، والعقل دلـيله، والعمل قيمـته، والصَّـبر أمـير جنوده، والرِّفق أبوه، واللِّين أخوه".