2024/08/01 | 0 | 865
الارتباط العاطفي تحت مجهر العلوم.
اليمامة
ذواتنا المتأملة تنتمي إلى عالم من الأفكار والرؤى، تَخَلّقَ جزء منها من خلال وعينا لنتائج تجاربنا واستبطان مشاعرنا، وأيضاً عند مشاركتنا الآخرين جدال الكينونة والوجود؛ وبهما تكتمل دائرة وعينا وإدراكنا. النوازع البشرية، وإدراك منشأ العواطف ودافعيتها كانا ساحة التنافس والتجاذب بين الفكر والأدب، ذلك قبل أن يحسم علم النفس التحليلي بعض القضايا الملتبسة ويكشف عن حقيقة الأفكار والمشاعر وأثرهما على السلوك. لكن عندما تتطاول العلوم الأخرى؛ كالفيسيولوجيا العصبية بوضعها قضايا مثل الترابط العاطفي بين البشر تحت مجهر العلم وأجهزة الرنين المغناطيس، فهي تبعد الذات درجات عن موطن تربعها القديم على عرش الكون. تماما كما هي نظرية “غاليليو” بعدم مركزية الأرض، والتي اختزلت وجوده في جانب صغير وهامشي من عالمه الذي كان يدعي يوماً امتلاكه. فبوضع عواطف الإنسان ومشاعره تحت رحمة العلوم التجريبية، فهو نسفٌ لممارسات بشرية منذ فجر التاريخ باعتمادها على الفلسفة التأملية، وطبيعة نظرياتها المعرفية ولغتها المجازية. تتناول القضايا، وتجيب عن الأسئلة «بقوة العقل الخالص، وتسعى إلى اليقين المطلق، وأن القوانين العامة المتحكمة في جميع الحوادث تعد في نظرها قابلة للمعرفة»، كما تصورها هانز ريشنباخ. بينما الفلسفة العلمية توثق مقولاتها وتربطها بالعلوم التجريبية لاختبار تماسكها وصدقها.
ذلك في الحقيقة ما يوحيه للقارئ، وبمجرد انتهائه من قراءته، كتابٌ للباحث والمترجم عدنان الحاجي “المرأة من القمر.. والرجال من الأرض”. فبعد القراءة ستتفحص من جديد مقولات الشعراء والمتصوفة، وقد لا تبدو كلمات الشاعر بشار بن برد: «والأذن تعشق قبل العين أحيانا»، مجرد كلمات مجازية. فالعشق كما يقول عالم الأعصاب “مايكل ميرزينك” يمكن أن يكون شعراً بقدر ما كان كيمياء. فالوقوع في الحب، «يبدو الأمر كما لو أن عاصفة كيميائية قد أُثيرت في الدماغ. يضخ جهاز التعديل العصبي في الدماغ كمية كبيرة من الدوبامين والنورادينالين بسرعة. إنه ذلك الانتشار الكيميائي السريع الذي يجعلك تشعر بالإثارة والدفء، ويجعلك تشعر بأنك أكثر إشراقاً وحيوية». يطلب منك الدكتور ميرزينك أن تحفظ اسم هذا الهرمون الذي يطلق عليه العلماء اسم “أوكسيتوسين”، ويلقبونه بـــ “هرمون الحب”. فبمجرد أن يفرز الدماغ هذا الهرمون، تعلم أنك بالقرب من الشخص الذي تحب أن تكون في رفقته، سواء سمعت صوته أو شاهدت صورته، وعندئذ يحدث “الاقتران الكيميائي” بينكما. ألا تذكرك عملية الاقتران هذه بوصف آخر لحالة العشق يطلق عليه المتصوفة مسمى “كيمياء المحبة”!؟
فكلما تعمقت العلاقة، جعلتك هذه المتعة، التي جاءت بتأثير هرمون الحب في الدماغ مشتاقاً أكثر للحبيب، أكثر توقاً للقائه، وتصبح العلاقة نوعاً من الإدمان شبيه بتعاطي مخدر الكوكائين. ومع تكامل العلاقة، تصبح ارتباطاً روحياً، ولون من “التعلق”، وتنمي إحساسك بذاتك، وتقرن هذا الشعور بهويتك الذاتية. أما الآثار المترتبة على ذلك، هي أن دماغك من خلال مرونته، يجعل ذلك الشخص الذي تحبه جزءاً من “ذاتك”، وفي النهاية تصبحان مرتبطين معاً، بل حتى تكونا عاشقين على مستوى دماغيكما. وهذا ما يقوله الحلاج بتمامه في شعره: «أدنيتـَني منك.. حتـّـى ظننتُ أنـّك أنـّــي».
قد يبدو كل ما سبق مجرد صبغة علمية لمفاهيم ومعانٍ توصل إليها الإنسان سابقاً من خلال تجاربه وفلسفته التأملية وروحه الشعرية، لكن ما يجعلنا نغادر منطقة اليقين هذه، هو التدخل السافر للمعامل الفيسيولوجية التي “شيأت” الإنسان (من التشيؤ)؛ بنزع عامل المبادرة والرغبة، ونقلها من عوالم الروح المتفردة، إلى جينات وهرمونات تعتمل داخله وتوجه خياراته العاطفية. فهرمون الحب “الأوكسيتوسين” - كما يقول علماء الفسيولوجيا - تصبح مستوياته أقل لدى الذين حدث طلاق بين والديهم وهم أطفالا، ويلعب هذا المستوى المنخفض دوراً في صعوبات تكوين أواصر المحبة عندما يكبرون، وبالتالي يواجهون صعوبة كبيرة في تجربة الحب والارتباط العاطفي. وليس هذا العامل فقط بتأثيره “الحتمي” أو القدري على الشخص من خارج إرادته، إنما كذلك جيناته تتدخل في نجاح عملية الحب والوصول إلى حالة ارتباط ناجحة. فالأبحاث الحديثة تشير إلى أن التباين المسمى “بالنمط الجيني” له ارتباط بمستويات مرتفعة من الامتنان والاقتراب من الشريك، فمن لديهم النمط الجيني “”CC كانوا أكثر امتناناً لشركاء حياتهم، وأفادوا عن ثقة أكبر في شركاء حياتهم، وكانوا أكثر تسامحاً معهم، وأكثر رضا عن علاقاتهم الزوجية من الأزواج الذين لديهم النمط الجيني “AC / AA”. فاستمرار المحبان معاً، قد تعتمد سعادة الواحد منهما على الأمد الطويل على جيناته أو جينات شريك حياته، هذا وفقاً لدراسة جديدة أجراها باحثون من كلية الصحة العامة في جامعة ييل. وتوثق الباحثة في نفس الجامعة البروفسورة” منين” هذه الدراسة بقولها: «إن ما نشعر به في علاقاتنا الوثيقة يتأثر بأكثر من مجرد تجاربنا المشتركة مع شركائنا بمرور الزمن. ففي العلاقة الزوجية يتأثر الناس أيضاً باستعدادهم الجيني، وكذلك بالاستعداد الجيني لشركائهم».
أما الطريف في موضوع حتمية الحب وجبريته، فهو أن من لديه سبابة قصيرة وإصبع بنصر طويل من الرجال هم في المتوسط أكثر لطفاً تجاه المرأة، وهذه الظاهرة منبثقة من الهرمونات التي قد تعرض لها هؤلاء الرجال وهم أجنة في أرحام أمهاتهم. ذلك وفقاً لدراسة جديدة قام بها باحثون من جامعة ماكغيل. فكلما كانت النسبة أصغر كلما كانت الهرمونات الذكورية أكثر، وله تأثير في كيف يتصرف الرجال، خاصة مع النساء.
الرجال الذين لديهم نسبة طول السبابة إلى طول البنصر صغيرة، يستمعون بانتباه أكثر ويبتسمون ويضحكون ويتنازلون أو يجاملون المرأة، كما تقول ديبي موسكوفيتش، المؤلفة الرئيسية وبروفسورة علم النفس في نفس جامعة ماكغيل. وهؤلاء الرجال يكونون أقل مشاكسة مع النساء مما هم مع الرجال، بينما الرجال الذين لديهم نسبة طول الإصبعين كبيرة هم رجال مشاكسون مع الكل على حد سواء. وبالنسبة للنساء، فالاختلاف في نسبة الأطوال بين الأصابع لديهم لا تبدو أنها تتنبأ بكيف يتصرفن، كما أفاد الباحثون. وعليه، ربما تحتاج الأنثى أن تلقي نظرة فاحصة على أصابع شريك حياتها قبل وضع الدبلة في إصبعه.
أخيراً، يقول الباحث جيري كارانتزاس عن الأسس العلمية للحب، أن له أساس بيولوجي، بل متأصل في البيولوجيا، بجانب ارتباطه بعلم النفس التطوري؛ حيث تطور الحب (كحيلة بيولوجية - بتعبير شوبنهاور) ليبقي والديْ الطفل معاً لفترة كافية حتى يعيش الطفل ويصل إلى النضج الجنسي. أليست هذه العبارات مغايرة لتبجحنا بعدم محدودية الذات البشرية؛ ومبدأ الاختيار الحر؛ والحميمية المقدسة للعواطف البشرية؟ وألا يذكرنا ذلك بنصٍ للشاعر محمد العلي “لا ماء في الماء” والذي يقول فيه: «ما الذي سوف يبقى / إذا رحت أنزع عنك الأساطير / أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوحل؟ / ماذا سأصنع بالأرق العذب / ماذا سأصنع بالأرق العذب / بالجارحات الأنيقات»؟
هذا هو القدر الذي التقطناه كموضوع مهم، كما هي بقية مواضيع الكتاب الشيقة الأخرى، والتي اجتهد الباحث والمترجم عدنان الحاجي - وبتحرير رضا أحمد، على وصلنا بأحدث البحوث العلمية وتقاطعها مع قضايا الإنسان الروحية والعاطفية، والفروقات بين الذكر والأنثى في الجينات وطرائق عمل الدماغ، بجانب التباين في الاستعداد النفسي.
جديد الموقع
- 2024-11-14 البلدية والإسكان والبريد السعودي سبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية
- 2024-11-14 السير الذاتية وتابوهات المجتمع
- 2024-11-14 في ديوان «هاجسُ الريح»لهاني الملحم.. ما نتوقعه من الشعر، وما تعد به القصيدة.
- 2024-11-14 يمثل الأحساء والمنطقة الشرقية في البطولة نادي وأكاديمية بادل بول إلى نهائيات دوري بارنز السعودي للبادل
- 2024-11-14 افراح الأجود و البجحان تهانينا
- 2024-11-13 هل يُطاع الله من حيث يُعصى؟
- 2024-11-13 سمو محافظ الأحساء يستقبل رئيس وأعضاء اللجنة الوطنية للنقل باتحاد الغرف السعودية
- 2024-11-13 تحالف الأسودان ، خلاص الحسا وسكري القصيم
- 2024-11-13 زواج ثنائي "المجحد والعوض تهانبنا
- 2024-11-13 مركز الملك سلمان للإغاثة يشارك في معرض "واحة الإعلام" بالتزامن مع استضافة المملكة للقمة العربية والإسلامية غير العادية في الرياض