2023/10/10 | 0 | 1610
العشق بين اللغة الصوفية والمجاز الشعري
مجلة العربية
دنـي بفـرطِ الــب فيكَ تحـيُّراً
وارحـمْ حشـا بلظى هـواكَ تسعَّراً
حتى وإن كان ابن الفارض يتغنى بالعشق الإلهي، فهو يدفع بسؤال الحب إلى قمة لا يرغب في الوصول إليها، الحيرة وعدم اليقين بالامتلاء. ودون ذلك فهو يضعنا أمام مأزق تعبيري حقيقي، إما أن يكون ناتجاً عن عدم مقدرة اللغة وعجزها عن تزويدنا بمفردات دقيقة حاملة للمعنى الروحي العميق والتعبير عنه بكل وضوح، أو أن مواقف (الوجد) الصوفية وشبيهها حالات ذهول العاشق في حضرة حبيبته، هما فوق التجربة العادية، ومن ثم لا يمكن مقاربتهما بصور واستعارات يكون المحسوس وسيطها.
فما هو جلي، أن جناية اللغة الصوفية والشعر على حالة العشق عظيمة، فهما لا يجددان في المفردات بقدر تنويعهما على الصور والاستعارات في حدها الأدنى من الإيضاح. يحفون بمعناه، ويعظمون من شأنه ويرفعوه إلى سماء لا يمكن أن تبلغها أي عاطفة بشرية سواه. فهذا هو جلال الدين الرومي يربط وعي الكينونة بذاتها والعالم بشرط العشق: (من دون العشق.. كل الموسيقى ضجيج، كل الرقص جنون، كل العبادات عبء)! فهذه العبارات بمثابة التحفيز والتشويق، لكنها لا تسعف الروح وتنتشلها من وهدة التوهان التي يستشعرها المحب عندما يفتقر إلى مفردات أخرى ملائمة للتعبير عن مكنونه. راقبوا حالة الصوفي المتماهي في عشقه، وماذا يقصد عندما يوظف مفردة (الزهد) في حديثه عن معشوقه. بالطبع هو لا يقصد التقشف والإعراض عن متع الدنيا، إنما هي حالة من الامتلاء بما يعيشه من مشاعر فتذهب به إلى اتجاهين مختلفين ومتناقضين، (زهده) فيما سواه (معشوقه)، و(رغبته) في استدامة تلك المشاعر.
ذات لا تعي وجودها الحقيقي إلا في حضور شطرها الآخر الذي أسكنته داخلها وربطت وجودها بوجوده. هنا فقط، تكشف الذات عن نوازعها البدائية في التملك والحيازة. ومن جانب آخر، عن مدى هشاشتها وقلة حيلتها في الفعل والمبادرة، خصوصاً في حالة الفقد. فـ(أبو صخر الهُذلي) لا يخجل من اضطراب مشاعره، ولا يعده موقفاً يتاح له فيه تجميل الذات وإبرازها بغير تلك العاطفة المشبوبة:
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى
وزرتك حتى قيل ليس له صبر
هو تنويع واختيارات يجريها الهذلي حتى يرى المناسب منها للظفر بقلب محبوبه واستدامة محبته، ولا يعرف أي الطريقين السالفين يصله إلى مبتغاه. فيصرف النظر عن كل ذلك وينتقل ببوحه إلى ما يمكن أن يفعله به قربها من تحولات في داخله:
يدي تندى إذا ما مسستها
وتنبتُ في أطرافها الورَقُ الخُضْرُ
فما هو إلا أن أراها بخلوةٍ
فأبهتَ لا عُرْفٌ لديَّ ولا نُكرُ
فيا لهذا الكائن الهلامي المسمى (عشقاً)، والذي يتأبّى على التجسيد ويصعب وصفه. يبتعد كثيراً كلما اقتربت منه بمسافة تكون قادراً على إمساك جزء يسير منه. يجبرك أن يتبدل فيك كل شيء: تستعير الوردة لتصبح (موشورا) زجاجياً لتصل إلى ظله، وتستبدل كلمات معجمك اللغوي وما اكتنزته من مفردات وصور تعبيرية ولغة مجازية، وعندما (تلثغ) وتصدر أصواتاً هي هجين من لغة العصافير وصوت الريح التي تطرق نافذتك بلطف في يوم ربيعي معتدل، عندها فقط تسترعي انتباهه ويقبل إليك. وفي حضرته أنت لا تحتاج إلى لغة تصف بها مشاعرك لأنها غير متأتية، وعند إصرارك على ذلك، تتشتت لغتك وترتبك مفرداتك ويخطئ مجازك، ليس خللاً في شاعريتك، إنما هي استثنائية التجربة، كما حاول في ذات قصيدة المرحوم محمد الثبيتي وتمثلها على أنها كل وجوده:
أُحدق في أسارير الحبيبة كي أُسميها
فضاقتْ عن سجاياها الأسامي
ألفيتها وطني
وبهجة صوتها شجني
ومجد حضورها الضافي مناي
في هذه اللحظة يلح علينا قول المتصوف النفري المشهور: (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة)، فلعله عذر مقبول نوافق عليه على مضض. لكن نزار قباني يذهب إلى عدم قبول أي تقاطع في مسألة العشق بين الشعراء والمتصوفة، ويعمد إلى تنقية العشق من (أوهامهم) وادعاءاتهم:
حبُّكِ يا عميقةَ العينين
تطرفٌ.. تصوفٌ.. عبادةْ
حبُّك مثلَ الموتِ والولادةْ
صعبٌ بأن يعادَ مرتينْ
فنزار في هذا النص، يسترجع من المتصوفة قيمة الحب التي طالما جعلوها أيقونة يضعون تحتها جميع رؤاهم وشطحاتهم في تمثلهم للقرب الإلهي. هنا نزار يحرر العشق كمفهوم من أسره الصوفي، ويرفعه كقيمة مجردة لا تقبل أن يستخدم كأداة أو وسيلة في أي موضوع غير العشق البشري الطبيعي. فهو ونكاية بهم، يوظف طريقتهم وممارستهم الروحية عند نزوعهم نحو المطلق (تصوف.. عبادة)، ويستخدمها كصور مجازية لوصف العشق. بل يقوله لهم: إن ما توهموه ليس هو الحب، حيث ومضة العشق واحدة لا تتكرر كالحياة والموت، ولا يمكن استحضارها كل حين.
المتصوف الشاعر عبدالرحمن الجامي، يشيح بنظره عن كلام نزار، لكنه يلتف عليه من زاوية مغايرة، عندما يؤكد في نصه (عشق الحقيقة) ومن خلال وصاياه إلى (مريده) بضرورة تجربة العشق (البشري) ولو مرة واحدة في العمر، لأنه المدخل إلى العشق الإلهي:
(جرّب حتى مئة شيء جديد في هذا العالم
فليس إلا العشق يحررك من نفسك.
ولا تدر ظهرك لعشق وجه جميل، حتى لو مجازياً
(...)
يُقال إنّ حوارياً ذهب إلى معلم صوفي ليرشده في رحلته فقال المعلم: إذا لم تضع قدماً بعد في طريق العشق فاذهب أولاً واعشق، ولا تأتيني إلا وأنت عاشقٌ فلو لم تشرب من خمر عشق الصورة لن تذوق أبداً جمال المعنى ولا يطول عشقك للصورة أيضاً
بل ضع قدميك على الجسر ومر).
قد يكون ما عناه الشاعر الجامي (الحب) وليس (العشق)، فالشاعر الألماني غوته يفرق بينهما، حيث الحب هو (غليان القلب وثورته عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب، بينما العشق هو فرط الحب، الذي يؤدي بصاحبه إلى الذبول من شدة الهوى). ونهاية العشق بذبول العاشق هو من يبني عليها مواطنه الشاعر هاينريش هاينه فكرة نصه (استرا) عند توصيفه لظاهرة الحب العذري عند العرب ويختم بمعناه:
(ذات مساء أقبلت عليه الأميرة
سائلة إياه بكلمات عجلى
اسمك، وطنك، وقبيلتك؟
أجاب العبد: أنا يا سيدتي
اسمي محمد من بلاد اليمن
و(استرا) قومي، إنهم يا ويلهم
إن عشقوا ماتوا غرقاً).
ننتهي هنا كما بدأنا، والسجال بين الشعراء والمتصوفة لا ينتهي عن طبيعة العشق والحق في حيازته، وأيهما أعلى كعباً فيه. لكنهما وعلى الرغم من دورانهما حول المعنى لم يستطيعا توليد أي صور محسوسة تعبر عن طبيعته وكنهه وتحيط بمعناه وتخرجه على شكل مفردات واضحة.
جديد الموقع
- 2024-11-14 البلدية والإسكان والبريد السعودي سبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية
- 2024-11-14 السير الذاتية وتابوهات المجتمع
- 2024-11-14 في ديوان «هاجسُ الريح»لهاني الملحم.. ما نتوقعه من الشعر، وما تعد به القصيدة.
- 2024-11-14 يمثل الأحساء والمنطقة الشرقية في البطولة نادي وأكاديمية بادل بول إلى نهائيات دوري بارنز السعودي للبادل
- 2024-11-14 افراح الأجود و البجحان تهانينا
- 2024-11-13 هل يُطاع الله من حيث يُعصى؟
- 2024-11-13 سمو محافظ الأحساء يستقبل رئيس وأعضاء اللجنة الوطنية للنقل باتحاد الغرف السعودية
- 2024-11-13 تحالف الأسودان ، خلاص الحسا وسكري القصيم
- 2024-11-13 زواج ثنائي "المجحد والعوض تهانبنا
- 2024-11-13 مركز الملك سلمان للإغاثة يشارك في معرض "واحة الإعلام" بالتزامن مع استضافة المملكة للقمة العربية والإسلامية غير العادية في الرياض