2020/12/02 | 0 | 4896
الكتاب يهرب نفسه
قبل منتصف الليل بقليل ، في مكتبتي
ينزل الكتاب من الرف
محاذرا أن يحدث جلبة ، توقظ جيرانه من الكتب .
لا سلالم تأخذه إلى الأسفل، يفكر : لو ينزع سطرين من كلماته ، ثم ينزلق عليهما مثل سلم الطوارئ ، لو يأخذ فهرسه في أول الصفحات ،ثم يصنع منه درجا ، لن يثير ضجة عند النزول عليه ؛ لأنه يعلم تماما أن حروفه نائمة منذ آخر يد لا مستها ، وآخر عين عبرتها .
الصمت المطبق بين كلماته ، وحروف الجر التي لم تعمل على التقريب بينها ، ولو بإرسال التحيات من بعيد ، علمه أن في الأمر خطأ ما ، لا بد أنه كامن في أساسه . لا بد أن يدا وضعته في غير موضعه المناسب من الرف ، فمنذ فترة لم يشم روائح أكلات غنية بالتوابل والبهارات مثلما يشمها الآن قريبة كأنه في مطبخ . لم يتكشف له الأمر سوى الليلة ، أنه يعيش بين كتب فن الطبخ . أو ربما الخلل في مؤلفي ذاته الذي نشر إعلانا للتوظيف في مشروعه ، لم يراع فرق الخبرة بين الكلمات ، أو فرق العمر بينها أو ثقافتها وطبيعتها الأخلاقية . لذلك ظللت طوال حياتي مشغولا بالتقريب بينها عن القارئ . أو ربما المصيبة جاءت من الرف الذي فوقي مباشرة ، من هذا الكتاب الذي يطل على عنواني ، ويراقبه طوال الوقت وكأنه جاسوس يرصد الداخلين والخارجين الذين أقاموا الصداقات بينهم وبين كلماتي ؛ كي يضع خطته التي ستفضي في نهاية الأمر إلى إرهاب صفحاتي إلى درجة التصاق بعضها ببعض
خوفا من التهديد ، وبالتالي لا علاقات ولا صداقات بل صمت مطبق حد الاختناق والموات .
أتذكر أن كثيرا من الأيدي استعارات كلماتي ووضعتها على ألسنتها دون أن تراها أو حتى تعرف ماذا تفكر فيه قبل أن تستعيرها ؟ لا حقا عندما تعود إلى موضعها ، أجدها في حالة نفسية مزرية ، فأنشغل بالعناية بها عن القارئ حتى تعود إلى طبيعتها السابقة .
تارة أكون في بعض الأوقات نائما ، أحلم بالهروب من هذه الأجواء ، فاصحو مفزوعا ، على أيد تتقاذفني فيما بينها ، وأفواه تصرخ لا أفهم من معناها شيئا سوى أنني متيقن أن هذا الصراخ هي كلماتي ، وقد رُكبت بشكل خاطئ.
وتارة أخرى يزورني مجموعة مؤلفين بينهم مؤلفي ، لا أهتم كثيرا لما يقولونه عن حياتي السابقة ، وكيف أنهم صنعوا تمثالا يشبه ملاكا ضخما واختبأوا داخله حتى لا تراهم أعين الرب ، ثم جمعوا حروفي وكلماتي في صرة ، وهرّبوني من عالم الذر إلى عالمي هذا ؟ أنني أضحك حتى تسقط عن جدار الكلمات كل معنى للحزن أو الألم . ما يهمني هو أنهم أثناء صراخهم يزيحون كومة الغبار المتراكم على غلافي ، فانتهز الفرصة وأفكر بالهرب ، وأقول لنفسي : الآن .
دائما ما تتوقف الفكرة عند هذا الحد كل ليلة ؛ لأن قارئا يفاجئني ، ويفتح صفحاتي ، ويبدأ بسحب أفكاري دفعة واحدة وكأن صيادا حين رمى الشبكة في البحر جاءته الأسماك سريعا .
لكن هذه الليلة سيكمل الفكرة ، وسينزل وسيتمسك بنزوله مهما اعترض طريقه الصياد أو القارئ . سيعدّ العربات التي ظل يصنعها من أنفاس قراءه ، ويضع داخلها كل المعاني المريضة التي شوّه سمعتها بعض القراء المصابين بعسر الهضم . وسيجلب من بعض صفحاته الشغوفة بذكر الشمس ، ضوءا يستنير به لحظة الهروب . وسيربط في آخر الغلاف حروفه الممنوعة من الصرف حتى لا يفكر بالتراجع مثلما يفعل كل ليلة . وسيكون عليه الانطلاق فورا .
لا الكلام الآن يحرس الطاولة أو المقاعد ، ولا الأحاديث المتروكة على السجادة منذ ليلة البارحة تحمل أجهزة إنذار ، ولا راوي الكتب واقف بهيبته يحرس الباب .
لكن الباب موصد بقوة ، وعليه أن ينتخب إحدى الأشجار المغروسة في كلماته ؛ كي تخاطب ذاكرة الباب وتقول له : افتح حتى أجلب أخوتك إلى هنا .
لكن الباب بلا ذاكرة .
حينها أتدخل وأذكره أنه أحد الأبواب الذي أنقذته من الحريق الهائل الذي طال منازل قصائدي القديمة .
ثم أقول له : باعد بين ذراعيك حتى يخرج ، أنه كتاب أيامي الذي طالما كنت تطلب أن تراه .
جديد الموقع
- 2024-12-22 ألم الرفض الاجتماعي
- 2024-12-22 نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته أبكر مما تظن
- 2024-12-22 الكتاب السادس عشر لـ عدنان أحمد الحاجي (تطور اللغة واضطراباتها وعسر القراءة عند الأطفال)
- 2024-12-22 تأثيرات لغوية للقراءة الرقمية
- 2024-12-22 الزهراء (ع) .. المجاهدة الشهيدة
- 2024-12-22 نحو كتب في الشوارع
- 2024-12-22 بين فيزيائية الكتب وكيميائية الكلمات
- 2024-12-22 من أجل القراء المترددين
- 2024-12-19 (قصة عجائبية من المخيال الاجتماعي الشعبي) (حلال المشاكل...القصة التي حفظتها أمهاتنا عن ظهر قلب)
- 2024-12-19 جمعية ابن المقرب تحتفي باللغة العربية في يومها