2022/03/17 | 0 | 2940
قراءة استشرافية عن الشعر السعودي المعاصر محمد الصالح نموذجاً..
اليمامة
يستعير العنوان هذه الجملة من أمنية للفيلسوف الألماني مارتين هايدغر عندما نظر إلى الواقع الثقافي وارتداداته على وقع ضربات الحداثة وتسارعها طوال حقبات حاسمة ابتداء من الديكارتية مروراً بفلسفات عصر الأنوار… إلى العلمية والوضعية. فهذا السقوط التدريجي في الحداثة، دفع الإنسان - حسب هايدغر - ليس إلى اجتثاث الأساطير فقط، إنما قطع الطريق الذي كان يقوده إلى ماهية الأشياء، بما فيها ماهيته الخاصة، وكانت لعنة، حيث الإنسان يعيش في حياة غير أصيلة، وفي عالم بات غير قابل للفهم، مما سلمه مقيد القدمين والمعصمين إلى العلم، إلى المنطق، إلى النفعية، إلى اشتراطات عقل قسري. ويعضد هذا القول هربرت ماركوز بأن الثقافة الحديثة أفرغت الفن من مضمونه التفجيري، العنفي. فقد كان الفن فيما مضى، يعد بسعادة روحية للغاية، حتى إنها كانت أبعد من أن يبلغها أحد؛ وباتت الثقافة اليوم تجلب متعاً استهلاكية للمقتنيات الثقافية، شريطة أن يبقى الواقع الموجود من دون تغيير.
وبالعودة إلى هايدغر نجد أن لديه مخرجاً من هذا المأزق الثقافي ومخرجه من كل ذلك هو القول الشعري الذي يخلصه من هذه الكينونة المغطاة، المخفية والمشوهة بفعل التقنية. نضع خطة الطريق هذه، أو المنهج الخلاصي لهايدغر في يد، وبالأخرى نرسم ملامح الشعر المعاصر ومدى جديته في تحقيق رؤية هايدغر. حيث كان عليه أولاً، أن يؤكد حضوره ويرفع منسوب قلقه؛ ليس من أجل دفع الخطر الوجودي الذي يتهدده من منافسة الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة والرواية ومجموع الفنون السمعية - البصرية، بل من الخاصية التشاركية الموجودة في جميع الأجناس الإبداعية السابقة ما عداه والتي تكمن في سهولة قولبتها واستيعابها ضمن التقنيات الحديثة.
ومن منظور تهديدي آخر، لمنافسة تلك البرمجيات والوسائط التقنية لأهم أدوات الشاعر وتقنياته التي يوظفها في القصيدة؛ مثل الخيال اللامحدود وبعض الأساليب التعبيرية، وأبقت له فقط الأسلوب التجريدي الذي يجاهد في رفع تكثيفاته وانزياحاته اللغوية، وبما تمده به المدرستان السريالية والصوفية من تجارب كونية وجودية، حتى يتمايز ويتسامى، ويحتفظ بنعت الفيلسوف الألماني هيجل له بأنه «أسمى الفنون». أما السريالية فبالرغم من محاولة ربطها بالصوفية – كأدونيس مثلاً - إلا أنها والصوفية بعيدتان عن أفقنا المحلي لعدم حضور التصوف كممارسة واقعية واعتناق، وتحضر فقط من خلال المدونات التاريخية وكتب الشعر الصوفي والتي تحصرها في (العرفان النظري) والذي يفتقد إلى التجربة الروحية حيث اللغة في النص الصوفي ليست وسيلة تواصلية فحسب، إنما تجربة روحية ومعاناة لا تفترق عن سائر التجارب الحسية أو الباطنية الأخرى. ومن جهة أخرى يعوز السوريالية النظام والمنطق حتى تصبح أرضية فكرية ومنهجاً ينطلق منه الشعر.
هذا عن حالة الشعر بكليته، واقعه ومآله، أما عند محاولتنا التقاط نماذج معاصرة لاستشراف مستقبله من خلال إصدارات شعرية شابة، فلنا أن نفعل عمل القراءة بالمنهج الوصفي التحليلي وكذلك نظرية التلقي على ديوان أحد فتيته وهو الشاعر محمد الصالح، لمجموعته “أصداء في المسرح المهجور”، ومن إصدارات “خيمة المتنبي” لعام 2022 التي يرأسها ويشرف عليها الشاعر الكبير جاسم الصحيح.
فمن خلال مفهومي “وجهة النظر الجوالة” و”فراغات النص” كأداتين معتمدتين في نظرية التلقي، يتيح لنا هانز ياوس أن نستطلع آفاق النصوص للحصول على ثيمات محددة وملامح نستخلصها من بنية النصوص للخروج بسمات ومفاهيم تأويلية جامعة لعملية القراءة. فثيمتان بارزتان في المجموعة الشعرية، يتجلى فيهما الحب بعواطفه الرومانسية الكلاسيكية، والقلق الوجودي من خلال السؤال الشعري الذي يقترب ولا يتشابه في نتيجته مع السؤال الفلسفي، وقبلها نجري استعراضاَ سريعاً على مواضيع شعرية أخرى قبل الوقوف على الثيمتين، حيث تأتي المجموعة الأولى لنصوص محمد الصالح الشعرية متنوعة المواضيع، وسنكتفي في هذه العجالة بالإشارة إلى ثلاثة منها: الوطن، والموت، والقصيدة.
•يحتفي الشاعر بالوطن كغنائية تستمد من التاريخ ثرائه الروحي، ومن الجغرافيا ذلك النسيج الزاهي بمكونات مناطقه. وطن لم يخبو وهج ازدهاره عبر الأجيال المتعاقبة:
من الأمس عبر اليوم تفترع الذرى
خطى وطن في حلمه ما تعثرا
•وتحظى “القصيدة” بوقفات عديدة في نصوص الديوان، يحيل إليها الشاعر قلقه علها تجد له بعض الحلول:
وأنا على باب القصيدة خائفاً
أجثو، وأرجع فوق ذاتي أنكفئ
ثم تارة أخرى يحاورها ويستنطق الحالة الانفعالية التي تحدثها القصيدة، يستديم تلك اللحظة حتى يستوعب أثرها على الروح.. علها تصبح ملاذاً:
هي القصيدة مرآة الحياة لذا
تأتي انفعالاً، ولكن ليس تفتعل
وهي انزياح عن الدنيا نلوذ به
حتى تدثرنا في دفئها الجمل
نفني لديها اشتعالاً ثم تبعثنا
من الرماد، لنبقى الدهر نشتعل
•وحضر الموت في المجموعة الشعرية في ثلاثة نصوص؛ أحدهم مرثية يرى فيها الشاعر الفقد أشد وطأة على الفاقد من الفقيد:
«سنموت أكثر منك / حين يمر سرب الذكريات محملاً بالجلنار».
أما النصان الآخران فيأتيان ضمن سؤال الموت وطبيعته الغامضة:
الباب مذبوح الرجوع، فلم نجد
قوساً يحدثنا بعودة نصله
هذه أبرز المواضيع الشعرية في المجموعة، وعند الانتقال إلى قراءة الثيمات، نبدأ بالحب:
•إن أول فعل للحب عند انبعاثه هو إشعال جذوة الحساسية المفرطة من الشعور التي يصبح العالم بعدها منظوراً إليه بغير هيئته قبلاً. يجتاز دروباً خبرها في حنايا الإنسان الأول. بعضهم رفعه إلى رتبة متعالية من الوجود كهيجل في مقولته: «إن الحب يسمح لنا بأن نرى في الآخر حضرة المطلق ذاته؛ تلك إشارات قلب يرى .. » ويتشارك في هذا المعنى مع الفلسفة الطاوية، بينما تجارب أخرى تعددت فيها الرؤى لكنها أبقت منسوبه متأرجحاً بين المادي والميتافيزيقي. فما يجذبنا في قصص الحب وقصائده، ليس نهاياته، بل رحلتنا معه في مغامرته المفتوحة على احتمالات اليأس والأمل.
لذلك أي قراءة في قصائد الحب تبقى مجتزئة عند المرور السريع عليها، أو محاولة اقتباس شواهد لطبيعة العاطفة العشقية. فقصائد الحب في ديواننا محل القراءة هي مزيج من تلك؛ فكل قصيدة هي محطة اجتازها العشق وترك أثراً، كهذه الصورة من الخلق الجديد في الروح:
وتأنقت روحي بحبك عندما
هبت نسائم عطرك الفتانِ
في دهشتي ما زلتُ، كيف ملأتني
بالورد، واستوطنتِ كل كياني
أو هذا الأثر الذي اجتاح كل خلية وكل مكمن ضنين في الروح:
«ووحدكِ أنتِ من ألقاكِ في الأعماقِ / كأنك ظلُ أفكاري، / سكنتِ مدائن الكلماتِ، / جُزتِ بكل جسرٍ، شاطئٍ، وزقاق».
فهذا الجريان الأول لتيار العشق، وهذه الهزة، هي ما يثيرنا في التجربة:
يأتي الهوى هكذا: تنساب غيمته
سهواً إلى الروحِ، يأتي بغتة مطرُ
•الثيمة الأخرى في مجموعة النصوص هي صورة الذات القلقلة والمتشوفة إلى التسامي عند محاولة الترقي على سلم الوجود بوعي. الانهمام بالذات كما يطيب لميشيل فوكو أن يطلق عليه، لا يحمل أي بعد سلبي كالانعزال والتفرد، إنما هو حالة من الوعي أو شكل من الاهتمام بالذات يبديها المرء اتجاه نفسه، وهو اهتمام منظم وعمل له طرائقه وأهدافه. فبالفلسفة التي تسمح للذات بالوصول إلى الحقيقة، والروحانية التي يصفها فوكو باعتبارها مجموعة الأبحاث والممارسات والتجارب التي يمكن أن تكون شكلاً من التطهر، بكليهما تحدث التحولات المؤثرة على الذات. أو ليس الشعر هو محاولة في سياق الانهمام بالذات وجودياً وروحياً؟ ذلك مع التخفيف من الشغل الفلسفي بتنمية السؤال الشعري الذي يفترق عن الفلسفة في أنه لا يطلب منه الوصول إلى إجابات حاسمة، بل تجارب يوحيها، تتقدم باتساع تجربة الشاعر في مسيرة الوعي.
ففي مجموعة نصوص الشاعر نجد أن حراك الذات المنفعلة من قضايا الوجود قد تفاعلت وبقوة من خلال العبور على مفازة الشك بسلام:
اللايقين الذي قد كان يجمعهم
ما زال يقطف من أيامهم (جمعه)
(هم فتية آمنوا) بالشك، ما دخلوا
كهفاً؛ لأن ضمير الكهف لن يسعه
إلى السؤال إذاً، من حيث لا حرم
عند السؤال، ولا حل لمن قمعه
يعبر الشاعر محطته الأولى ويبقى السؤال حارقاً ينقله بين كلتا يديه في تأمل ومراوحة، بين الفكرة ونقيضها، ولا يظفر ببغيته إلا بعد الانصهار وكأنها تجربة تطهر:
يمضي لأقصى الذات، حيث سؤاله
ما زال عن معناه ينبش أضلعه
ويعود بالكنز الحقيقة عندما
يبكي، ولا أحد هناك ليسمعه
ثم تولد الأفكار بعد مخاض عسير، كممارسة يصر عليها الشاعر ويكررها بشجاعة:
من حدسه الحيران تولد فكرة
وتدور في قلق مدار عقاله
عيناه تسأل، والمزاود، والعصا
فيخر ممسوساً بجن سؤاله
لفضوله سيظل يطبخ قهوة
ليفتش الفنجان عن آماله
وتكون أولى ثمرات ما تمنحه القصيدة للشاعر، هو انفراز الأنا إلى ذاتين، قبل الشعر وبعده:
«صوتان يختصمان الآن في أذني / في كل فوضاهما ما عدت أسمعني / وها أنا: اثنان، شخص لست أعرفه / وآخر كان، قبل اليوم، يعرفني».
وفي الأخير يتصالح الشاعر مع ذاته، أو أناه الجديدة ويحتفي بها:
«وأنا اقلب صورة في إثر أخرى / ما أنا لـ(أناي) / إلا مثل كل الناس / واله / لا تتركوا الكلمات تخنقها الضمائر / هي صورة / وأنا وراء الضوء / شاعر».
وفي الختام، لعلنا ألقينا جزءاً من الضوء على إحدى التجارب الشابة، والتي تكشف مظهراً لتوجه الشعر المعاصر، حيث يمكن تلخيصها في أربع سمات:
الحضور البارز للـ “أنا” المنفعلة والفاعلة مع قضايا الوجود. أما الثانية فهي وحدة الموضوع في النصوص الشعرية، وفي السمة الثالثة نلاحظ الميل إلى كتابة القطعة الشعرية بديلاً عن القصيدة بالنسبة إلى عدد الأبيات (من ثلاثة إلى خمسة عشر) حسب تصنيف ابن منظور في لسان العرب – مادة قطع. أما الملمح الأخير للسمات فهي التقليل من توظيف الرموز التراثية والأجنبية والأسطورية، وكذلك التقليل من الاقتباسات والتناص إلا ما ندر في النصوص، وهي إشارة إلى أن التعاطي المباشر مع الواقع بإرهاصاته ومشاغله الفكرية، يصبح بديلاً عن مجرد استدعاء الأفكار من مخزون الذاكرة وإعادة تمثلها في اللغة.
جديد الموقع
- 2024-05-02 تزامناً مع اليوم العالمي للصحافة و باستضافة نادي كيو بارك .المعلق الرياضي جعفر الصليح .16 عام أمام المايك في 6 قنوات و المعلق العربي و الأجنبي اضافة لمتعة الكرة السعودية
- 2024-05-02 أفراح العايش والفرحان تهانينا
- 2024-05-01 النقد الأدبي بين الفاعلية والمجاملات الرقمية والإعلامية.
- 2024-04-30 سمو محافظ الأحساء يرأس المجلس المحلي للمحافظة
- 2024-04-30 سمو محافظ الأحساء يرأس اجتماع اللجنة العليا لإنشاء المستشفى الجامعي التعليمي
- 2024-04-29 وعي القلم والأمل نص مستخلص من مجموعة (كلام العرافة) للدكتور حسن الشيخ
- 2024-04-29 ريم أول حكم سعودية لرياضة رفع الأثقال حازت على الشارة الدولية
- 2024-04-29 بيئة الأحساء تدشّن أسبوع البيئة 2024 تحت شعار "تعرف بيئتك"
- 2024-04-29 منتدى البريكس الدولي يكرم الفنان السعودي الضامن في غروزني الشيشان ..
- 2024-04-29 حققوا المركز الأول على مستوى المملكة كأعلى تسجيل للطلاب طلاب "تعليم الرياض" يفوزون بـ13 ميدالية في أولمبياد "أذكى"