2020/01/23 | 0 | 2453
المكب
يُنقل عن لسان احد قصص الأجداد الذين جابوا بعض الدول بان رجل عراقي كبير السن يتنقل بين بعض مدن الجنوب العراقي حيث ابناء عشيرته . و كان حيثما استقل ذاك الرجل حافلة للنقل العام او اكل في مطعم ما فانه يستدر عطف ابناء مجتمعه بشكواه من انه وُلد و عمره سبعة اشهر ( خديج كما يُسمى في بعض مناطق الدول العربية ) ، أي قبل اكتمال نضجه التام عند الولادة و انه ضعيف البنية حينذاك . فكان حينما يطلب طعام من مطعم ما بمنطقته يطلب زيادة في المؤنة مجانية و حينما يركب حافلة نقل عام يطلب من الاخربن افساح اكبر مجال له لذات السبب . ابناء مجتمعه في مجملهم مسالمين و طيبون و يستمعون لشكواه و يتعاطفون معه و يستجيبون لما يود ان يحصل عليه أو يطرب ان يستمع له . و استمر ذلك الحال حتى بلغ عمره عتيا و استمرأ الحال . و ذات يوم واجهه رجل مفتول العضلات و كان غضبان منه لكثرة شكواه و كثرة استدراره لعطف بني مدينته ، فقال الرجل له و هم بالحافلة و أمام الناس : " ما رأيك ان ترجع من المكان الذي اتيت منه و تكمل شهرين اقامة و تكون بذلك أكملت تسعة اشهر أي مثل الآخرين بدل كثرة شكواك المملة و تكسبك منها".
بشعور إرادي أو لا إرادي يتمرس البعض من الناس في التشكي و التذمر من أوضاعهم المعيشية أو الوظيفية أو الصحية أو العلاقات الأسرية البينية أمام أحد إخوانهم أو اصدقائهم أو والديهم بشكل شبه يومي و دائم دون كلل أو ملل . يزداد و يستمر و ينمو هذا السلوك السيئ من طرف المشتكي أمام المشتكى إليهم في حالة عدم المساءلة و الاستيضاح عن طبيعة الموضوع و الظروف المحيطة و ملابسات المسألة و التحفيز له للمواجهة و وضع برامج حلول جذرية للخروج من تلكم المعضلة أو تخطي تلكم الشكوى. الغريب في الأمر أن ذاك الشخص ، البعيد عنا و عنكم ، يزداد لديه منسوب ترديد ذات الشكوى إلى مرحلة التلذذ في الفضفضة السلبية امام ذات الأشخاص الذين يضحون بأوقاتهم للأنصات له أو يعيرون اهتمامهم للموضوع الذي يلقيه و لعدة مرات قد تتجاوز العشر مرات ؛ و في ذات الوقت ، لا يشاطر المشتكي أخباره السارة الحادثة في حياته حديثا مع ذات الاشخاص الذين يلجأ اليهم في العادة لفضفضته السلبية! .
الأنكى من كل ذلك إن المنصت للشكوى ينصت وفاءاً منه للآخر تارة بعنوان الأخوة أو الأبوة أو الصداقة او المشترك الوطني او المشترك الديني أو المشترك العرقي اى المشترك القومي . و في ذات الوقت يسقط المنصت حقه في إستقبال الأخبار السارة إحترامًا لخصوصية المشتكي او تحميلا منه للآخر على حسن النية او تجاوزا منه عن العتاب او ايجاد له أي تبرير عملا بالمرويات من التراث الديني الشريف ( احمل أخاك على اكثر من سبعين محمل) . و قد يكون فعل الحجب عن نقل الاخبار السارة ناتج عن تلذذ المشتكي في إفراغ طاقته السلبية في أذن الآخرين و جعله اياهم مكب و مردم لشحناته السلبية. هكذا وضع و تشخيص للحالة بحق مزعج جدًا و ينم عن خلط في المفاهيم من طرف و استغلال لذات المفاهيم من طرف آخر . و لعل المتابع لبعض قروبات الواتس أو احاديث الديوانيات أو تداولات المجالس يجد أدلة ساطعة و براهين قاطعة لما ذهبنا اليه من تحليل . فهناك من الناس من ديدنهم بشكل مفرط ايراد الأخبار السيئة او السوداوية او المثيرة للاكتئاب و المهالك بشكل ممطر و سريع بسرعة و كالة الانباء العالمية . و في ذات الوقت تلاحظ الاختباء عن ادراج اخبارهم السارة التي تفيد الناس و تكون سبب في انطلاقة نوعية نحو أفق افضل . قد يكون الاخفاء يتم تارة خشية من العين و الحسد و تارة تجنب من نقل التجارب الناجحة وتارة احتكار للمكاسب و تارة استفرادا بالنخبوية و التمييز كما يتخيلون .
من الجيد ان نهمس في أذن كل الأوفياء و اناشدهم بان لا يجعلوا أنفسهم مكب أو مردم لفضفضة مشاعر من ديدنهم السلبية و الأنانية و نشر المسخرة و الرذيلة و التطفل و احداث المشاكل . نحن جميعا نعلم بان الصديق وقت الضيق و نحن جميعا نعلم بان الوفاء في الشدة هو اصدق عناوينها ، و لكن يجب ان ينظر الجميع للأمور من زاويتين : زاوية حقوقك و زاوية واجباتك دونما مزايدة . فلكل انسان يريد ان يوظف اي مفهوم او قيمة او مبدأ عليه ان يوظفه على نفسه أولا قم يطالب الاخرين به . فكيف لذاك الشخص كامل الحق ان يطالب الآخرين بالوفاء له و إذا رُفع الضرر عنه تنكر لذات الأشخاص الذين آزروه . و كيف لشخص ان يطالب الآخرين باستحقاق الصداقة في شدته و هو ذاته يجحدها في رخاءه . و كيف لشخص ان يطالب من الاخرين بالاحترام من الاخرين و هو ذاته لا يحترم احد . و كيف لرجل ان يطالب الاخرين ان يقفوا بجانبه و ان استوفى حاجته و بلغ مراده تناسى كل من مد يد العون له .
من الجيد ان لا ينساق الناس ، لا سيما الشباب ، نحو من يتاجر بالمشاعر او المفاهيم أو القيم بعناوين مختلفة و رنانة ك عنوان الوفاء و الاخوة و الصداقة و الدين و المفاكهة البريئة و التمدن و التحضر و الامانة. و ان لا يجعلوا أنفسهم مكب نفايات للآخرين ( dumpster ) ممن يجيدون استغلال من حولهم . و انا اكتب هذا المقال بدافع المدارسة مع القراء و التنبيه للشباب القراء و لصنع حياة بفروق نحو الأفضل و سعي لوعي اكبر .
و لابأس ان يتعلم كل انسان ان يقول في وجه من يستنزف وقته في مالا ينفعه و يريد ان يستخدمه ك مكب : اعتذر منك لدي اعمال يجب ان أقوم بها، ثم ينصرف لشأنه . و لنتذكر سويا قول الاجداد " من جعل من نفسه بسوس ، اكلته الدجاج " .
جديد الموقع
- 2024-09-20 حين تكون القراءة هي العقوبة
- 2024-09-19 سمو محافظ الأحساء يشيد بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى
- 2024-09-19 أمير الشرقية: الخطاب الملكي أكد على مضي بلادنا لتحقيق المزيد من التطور والازدهار والنماء
- 2024-09-19 سمو نائب أمير الشرقية يشيد بمضامين الخطاب الملكي السنوي
- 2024-09-19 قصيدة النثر باعتبارها صندوقا مملوءا بالذهب
- 2024-09-19 أفراح العباد والبخيت بالمطيرفي تهانينا
- 2024-09-18 التعصب والمتعصبون
- 2024-09-17 الفتيات الصغيرات تستخدم مستحضرات مضادة للشيخوخة شاهدنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الضرر النفسي الحاصل بسببها أعمق من الضرر الذي أصاب البشرة
- 2024-09-17 التدخين أثناء الحمل يضر بالأم وبالجنين ولاحقًا بمستوى تحصيل الطفل الدراسي
- 2024-09-17 الأدلة لا تفيد بأن من عاشوا خلال المراحل الأخيرة من العصر الحجري في شمال غرب المملكة العربية السعودية قد واجهوا تحديات موجات جفاف مما اضطرّهم الي الترحال، بل عاشوا حياة متقدمة ومزدهرة