2022/10/20 | 0 | 2357
الجانب الميتافيزيقي للشعر.
اليمامة
يتقدم الشعر باعتباره حاملاً، بجانب الهواجس الشعورية، تصوراً ميتافيزيقيا للعالم، ينتقل به من تصوير هيئة الوردة ونقل الاحساس بعبق عبيرها، إلى تلك الحالة الوجودية التي تنفذ إلى بواطن الأشياء وتكشف عن معناها. فتفاعل الذات الشاعرة مع مكونات العالم المادي يحدث في الجانب اللاشعوري في نفس الشاعر، أو في الوحدة المحسوسة للروح التي يعتبرها ت. س. إليوت بمثابة «الوسيط الخاص» الذي تتجمع فيه الانطباعات والتجارب بطرائق غريبة وغير متوقعة. وذلك ما تشير إليه الدكتورة ملك أبو النصر باعتبار أن الإبداع الفني يأتي نتيجة للانفعال العميق أو «الفوق سطحي» متى ما اتحدت الذات المبدعة مع الموضوع محل الاشتغال، حيث يتبلور في الحدس فيندفع نحو تحقيق الفكرة على الواقع. والحدس هو نوع من «العرفان» الذي فسره برغسون «كلون من التعاطف العقلي الذي ينقلنا إلى باطن الشيء ويجعلنا نتحد بصفاته المتفردة».
لذلك فمن طبيعة الشعر أنه يرفض الثنائيات التي تشطر الكائن إلى قسمين: عقل وجسد، فيضيف إليهما العنصر الذي طالما احتفى به، وهو الروح. وإذا كانت القصيدة تهتم بالجسد كواسطة حسية لاستبطان المعنى، فالعقل يتم إبعاده إلى ناحية قصية من الإدراك كما هو نص بثينة اليتيم «درس جديد»: «تشهَقُ الأعداد / اطرحوا مِن جَمعها ضِدنا / لتبقى الآحاد / حدودُ المكانِ تستطيلُ في دائرة / قلقُ الدائرة يوقفه الانشطار / ضلعُ الانتظار يساوي طول صمتِهم.. أحرقوا الأضداد». فالشاعرة هنا تشاكس الطبيعة الجامدة للعالم المادي لتعيد تركيبته في المخيلة بشكل آخر تتشوق إليه. تؤمن بنسبية مختلفة، وتنتقي من الأعداد تلك التي لا تقبل القسمة والانشطار رغبة في «الوحدوية» بمعناها الصوفي، وتنتفي عندها الثنائيات حتى تصل الروح إلى كمالها ومداها في فهم العالم.
أما الشاعر البريطاني ألين أبوارد فهو يعبر عن نفس المعنى الميتافيزيقي لكن بمثال أقل بساطة في نصه «البصل» حيث لا يتبقى أي معنى للعالم عندما نمعن في تفسيره عقلياً: «الطفلُ الذي رمى قشورَ البصلة واحدةً تلو الأخرى / كي يصلَ إلى قلبِها الحُلو / اكتشفَ أخيرا أنه قد رمى بالقلبِ نفسه!». أليس ذلك ما عناه الشاعر محمد العلي في نصه «لا ماء في الماء»: «ما الذي سوف يبقى / إذا رحت أنزع عنك الأساطير/ أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوحل»؟
وفي الجانب العاطفي، يصر الشعر على أن مسألة الحب لا تقارب من ناحية عقلية ومنطقية صرفه، بل يراها ظاهرة ميتافيزيقية تقع خارج نطاقات المادة المحسوسة والتي لا يمكن التعاطي معها بمجرد حسابات؛ كما هو نص «امرأة روحانية» للشاعر د. هـ. لورانس ومن ترجمة الشاعر حسن الصلهبي: «أغمضي عينيكِ حبيبتي، فإنني أهُمُ أن أعميك، / هما اللتان علماك أن تري / على وجوه الأشياء علمَ حسابٍ وضيع، / وفي وجوهِ الرجالِ علمَ جبرٍ مخاتل».
فما يقاس بالمنطق لا يصح عليه أن يسمى «حباً»؛ فهي عاطفة تقع فيما وراء المادة والوعي، لهذا يقترح الشاعر على محبوبته أن ترحل بمشاعرها ناحية «العتمة» الصوفية؛ منطقة اللاشيء واللافعل، واللاإرادة، التي تصلها بالنور الحقيقي والإشراق الروحي: «سأقبل عينيكِ حتى أقبلكِ عمياء / كما أستطيعُ ويقدر من هو مثلي / فربما وجدتِ في العتمةِ ما تنشدين / واكتشفت وخزاتٍ كثيرةٍ بعينيكِ اللماحتين / فأنا «المشكالُ» / الذي مهما هززتهِ فلن تستوعبيه»!؟
فعندما عبر الشاعر عن نفسه بالمشكال، فهو يريد تقريب معنى عاطفة الحب وتجسيدها بهذه الآلة الاسطوانية الشكل، والمكونة من قطع الزجاج الملون، والتي عند تحريكها تنعكس مجموعة لا نهائية من الأشكال والألوان الملونة. أي أن عملية الحب ليس لها نمط أو قالب واحد يمكن القياس عليه؛ فهي عاطفة متدفقة، وشعور ميتافيزيقي قابل للإشراق والتواصل متى ما كانت النفوس مهيأة لاستقباله. فهو ليس معنى ثابتاً تسهل معرفته والاطمئنان على نتيجته، لهذا يضرع الشاعر إلى محبوبته أن تفهم ماهية العشق، وأن تُحيّد العقل وتقبل عليه بمشاعرها فقط: «توقفي الآنَ عن انتقادي، يا رب كم أكرهك / أتخافين أن أخدعك؟ أتظنين أنكِ إذ تقبليني كما أنا أقزمك بأيةِ طريقة؟ / حزينةٌ وجوهريةٌ وروحانيةٌ جدا أنتِ / ولكنكِ أيضا حذرةٌ جدا / عليكِ أن تأخذيني بكلي في هواكِ وشعورك / أكرهك»!
مفردة الكراهية في آخر النص لا تشير إلى ظاهرها، بل تكشف عن معنى مرتبك يراه الشاعر ولا يستطيع التعبير عنه؛ لأنه وبحسب الشاعر يوهان غوته، إننا عندما تعوزنا الفكرة نستعيض عنها دائماً بكلمة تحل محلها، وبالذات عندما ترتبك الأفكار «إذ تصبح الكلمة عندئذ كالعصا المتينة، نتكئ عليها تعويضاً عن عدم الأمان الذي قد يجلبه اتكاؤنا على أفكار فارغة كالقصب الهش الذي يستحيل الاستناد عليه». إذن، مفردة «أكرهك» هي تهويم ميتافيزيقي، أو «إشارات قلب يرى» كما يقول هيجل.
لكن متى ما غادرنا منطقة الشعر إلى مرابع الفلسفة، فسنجد اتفاقاً غريباً بينهما، وإن اتخذ طابع مناكفة العلوم. فالفيلسوف توماس نيجل يقول: «إذا أزاح عالِمٌ قحفَ جمجمتك ونظر إلى دماغك بينما تقضم لوح الشكولاتة، فكل ما سيراه تجمعات رمادية من الخلايا العصبية، ولن يجد مذاق الشكولاتة؛ لأن تجربة التذوق مغلق عليها داخل عقلك، لتجعلها عصية على المشاهدة». وهنا يأتي دور القول الشعري ليبدع ميتافيزيقياً، وليكشف ليس عن تجربة التذوق فحسب، إنما عن الروح الكامنة خلف الأشياء، حيث أن الشعراء الجيدين «يدربوننا على النظر أفضل بالرغم من أن كلماتهم عمياء»، كما يقول ريجيس دوبريه.
جديد الموقع
- 2024-04-20 إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالشعر
- 2024-04-20 افراح المبارك والموسى تهانينا
- 2024-04-20 مركز بر حي الملك فهد يقيم احتفالا للمتطوعين بعيد الفطر ١٤٤٥
- 2024-04-19 البدر توقع كتابها سُمُّكِ ترياقي
- 2024-04-19 مكتبات من بشر
- 2024-04-19 المدة والملكية والترجمة وسائل لاستغلال مؤلفي الكتب
- 2024-04-19 أفراح البخيتان بالمطيرفي تهانينا
- 2024-04-18 مكتبات ليست للقراءة فقط
- 2024-04-18 الخميس: رغبتنا صعود لدوري الكبار
- 2024-04-18 "ختام ملتقى موعود مع انطلوجيا القصة القصيرة السعودية"