2024/05/05 | 0 | 367
ابن الأحساء الحبيبة الفلاح الفصيح
مع كتاب الفلاح الفصيح سيرة وجذور وسلطان الحسن الخليف
للمؤلف /علي سلطان الطبعة الأولى 2023 م
سلطان بن حسن الخليف المولود في عام 1889م، في قرية الشعبة، والمتوفى في عام 1979م في قرية الدير، فلاح من جزيرة العرب، عرف الإسلام بفطرته، ونظم الشعر في كهولته، وحارب ظروف الحياة القاسية، حتى انتصر عليها بمميزات شخصيته وصبره، وحكمته، ليعطينا صورة واضحة عن فترة زمنية حفلت بالكثير من الأحداث، ما بين الحروب العالمية، والأمراض الفتاكة والتحولات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية التي صاحبت اكتشاف النفط، وجلاء المحتل العثماني عن جزيرة العرب، ثم جلاءه عن دول الخليج كافة، وتوحيد الجزيرة تحت راية الملك عبد العزيز آل سعود التي ساهمت في استقرار المنطقة، وتطورها، وازدهارها.
الهجرة تعني البعد تعني ترك المكان، وترك ما ألفته، وتعودت عليه. إن هجرة المرء تبدأ بعقده النية على السفر؛ ثم الشروع في
الترحال من المكان الذي اعتاده، إلى مكان آخر.
وربما تكون الهجرة أمراً محموداً، حين تكون بغرض البحث عن الأفضل. الهجرة في أحد معانيها هي رحلة الرياح بين سماءين، ورحلة الأسماك في خليج الخير واللؤلؤ، والعطاء بين بحرين، هي حركة الناس بين ضفتين، كحركة الأمواج بين ماءين، كحركة الرمال التي تحملها رياح الشمال بين بلدين.
لم لم يقرأ سلطان كتاباً واحداً، ولم يمسك قلماً طيلة عمره، ولم يتعلم سوى في مدرسة الحياة. ارتجل الشعر الشعبي وكأنه يخلق القصيدة طازجة، أو يحملها في جيبه؛ ليخرجها متى أراد. لكنه لم ينظم الشعر قبل سن الأربعين. لقد جالس الفصحاء من العرب بين البوادي والحواضر ذاق ذل الاحتلال العثماني البغيض
في بلده، وعانى ويلاته، وعاش بين الفقراء طيلة سنواته، بل وشاهد كذلك، بعين الدهشة، معيشة الأمراء في النصف الثاني من عمره، ولم ينل منها شيئا.
بعد أن تغرب لسنوات، وعاد لزيارة أهله، كعادته حين تسنح له الفرص؛ كان مدعوا في أحد الأيام على وليمة عشاء، وتلك الدعوات عادة إحسائية أصيلة، تنم عن كرم، وطيب خلق تمیز به أهلها؛ حيث يقع إكرام الضيف لديهم ضمن فروض وأصول العبادة الحقة. كانت تلك الدعوة في بيت من بيوت عائلة الجمعان، وبينما كان جالسا بين المدعوين؛ سمع في المكان صوتا غريبا، مستمرا عاليا؛ فسأل عن ماهيته، ومصدره؛ فقالوا له بأن الجار أحمد الشويش اشتري (ما طورا) بلهجة أهل البلد، وهو مولد كهربائي، أنار به بيته قبل أن تصل الكهرباء إلى القرية؛ فأنشد الشعر التالي تلقائيا:
شفنا فقاري واستووا اليوم تجار
لا من عطى ربي عطايا جزيلة
بقيق من عقب السوافي والغبار
تشرفت أرضه وصارت نزيلة
من عقب ما يلفي عليه الحول مرار
واليوم من كل الخلق تعتني له
فاضت أبياره واستوت فيه الأشجار
واستانست أرض الحسا والجزيرة
قرر سلطان السفر للبحرين، وهو مجبور على ذلك، إذ كان ثاني أصغر أبناء الحاج حسن، والمؤتمن على الأرض الصغيرةالتي تملكها الأسرة، ويحمل على عاتقه مسئولية زراعتها، وريها، والحفاظ عليها ، ورعاية شؤون البيت، وحفظ حق الإخوة، وأسرهم في غيابهم، بعد أن تفرقوا في المناطق المجاورة، وبقي معه أخوه الأصغر عيسى المشغول بمغامراته التجارية، حيث كان يشتري الخراف، ويطبخها، ويبيع اللحم المشوي للميسورين، وهم قلة قليلة في القرى. وفي معظم الأحيان كانت الخسارة من نصيبه في هذه التجارة البائسة في تلك الأيام، ولكنه لم يجد بدا من أن يعمل في أي شيء؛ ليتدبر أمر معيشته.أصبحت الهجرة جزء من حياة الناس عبر التاريخ.
وقد اختار البحرين دوناً عن غيرها؛ لأنه تعرف على البلد بشكل مفصل تقريبا، وسمع عنها الكثير من الحكايات عن أيامها، ولياليها، وأسواقها ومواصلاتها وكرم أهلها، وطبيعة أرضها، وسهولة العمل، والعيش فيها.
كانت البحرين قليلة السكان، وتحتاج للعمالة؛ من أجل جهة الطلب المتزايد للعمل في المزارع، والبساتين، أو في بيوت الشيوخ، والتجار. كما كانت القوات البريطانية فيها بحاجة ماسة إلى عمال الخدمات المساندة لخدمة المنشآت، ومنازل الضباط. ومن هنا جاء الأحسائيون لشغل مثل هذه المهن في البداية، ثم تبعهم العمانيون، حين أدركوا سهولة توافر فرص العمل.
لم يكن الوافدون يشعرون بالغربة في البحرين؛ حيث كان أهلها يعاملونهم بود، ويرحبون بهم في كل وقت، خصوصا وأن القادمين من أهل الخليج يحملون الأطباع، والمعتقدات الدينية نفسها.
كان لدى سلطان قطعة قماش مشمع، تسمى «ساحة»، أحضرها معه كفرش للراحة، والنوم، وهي عبارة عن حياكة قطيفية، قديمة،
يستعملها الناس عادة للجلوس.
حاول أن يجد لنفسه مكاناً مناسباً في إحدى النواحي الهادئة وحرص ألا تكون بعيدة عن مجموعته؛ حتى ينعم فيه بالراحة ويقضي ليلته خارج محيط الميناء، حيث يعج المكان بالمسافرين المنتظرين طلوع الفجر؛ لبدء إجراءات السفر.
وكان سلطان يعرف الكثير من أنواع الحشرات، والزواحف الضارة، وغير الضارة، والتي تدب على الرمال، أو تطير في الجو حول الأشخاص، والطعام؛ لذا لم يستقر في البقعة التي اختارها لقضاء ليلته، قبل أن يتأكد من خلوها مما يشكل خطرا عليه أثناء نومه. وقام كذلك بتنظيف المكان من صغار الحجارة، وأعواد النباتات الجافة، وغيرها مما يعيق مبيته، ثم فرش بساطه الملون وجعل الخرج متكأ له، مقابل الجماعة.
فراح سلطان يترنم بموال حفظه من أحد مجالس الشعراء التي كان يتردد عليها ليسلي نفسه، ما اشتهر منها في بث الشجاعة والحماس، او الدعوة للفخر، أو التغني بالأفعال، والأخلاق الحميدة.
كان سلطان يشدو قائلا:
نوق الرجا سيرن بحماك عاجلها
ومن الأمل عن طريق السير عاجلها
توهت رشدي بعد ما كنت عاجلها
خليتني يا الولف أعبر لصوبك وأعد
على بلوغ المنى لأحسب ليالي وأعد
عادات أهل الوفاء ما يخلفون الوعد
والناس قالوا حلاة البر عاجلها
كان سلطان ماهرا في استعمال البندقية، كمهارته في استعمال المنجل، والمحش. وبقيت بندقيته في داره في الشعبة؛ حتى استلمها ابنه أحمد، وظلت معلقة على جدار حجرته منذ ذلك الحين. أما في البحرين؛ فقد جمع سلطان بعض الأسلحة للدفاع عن المزرعة التي يعمل فيها، ومنها المقمع، ومن بعدها الشوزن، وهي أكثر تطورا من المقمع. كما كان لديه سيف من عطايا الشيوخ، أصحاب المزارع التي عمل فيها.
كانت هناك بندقية معلقة فوق جدار الكوخ الذي بناه سلطان في بيته في الدير، واقتصر استعماله للسيف على تمثيل المشاهد في المأتم، كما هو الحال في تمثيل خروج القاسم بن الحسن (ع) من الخيمة، متقلدا سيفه في اليوم الثامن من المحرم. وبعدما انتقل سلطان إلى الرفيق الأعلى؛ بقي سيفه في مأتم السيدة الشريفة للغرض ذاته.
كان للمنجل مقام أعلى من مقام المحش عند الفلاح، فلا يرميه في أي مكان كما اتفق، ولا يتركه على الأرض، بل يحرص على لفه بقطعة قماش خاصة؛ للمحافظة عليه من الصدأ. وقد تغنى به المغنون في أغاني الفلاحين، ووضع كشعار للفلاحين في العلم لروسي.
في المزرعة أراد سلطان أن يتعرف على المكان بشكل أفضل، ويرى ما فيه عن كثب؛ فراح يدرس مواقع الأشياء، وأنواع الزرع، وخصائص التربة. اقترب من سور المزرعة المقابل للبحر، وأخذ يحدق في الماء طويلا، ويستمع إلى صوت ارتطام الأمواج بالصخور، تلك التي اصطفت بتناسق جميل على الشاطئ؛ لتحمي المزرعة من لفح الأمواج، ودخول الماء المالح إلى الزرع.
كان الجميع ينامون في عريش مقام في إحدى نواحي المزرعة فلما حان وقت النوم، وكان الجميع متواجدا في العريش؛ ارتجل سلطان موالا أسمعه للحاضرين:
يا سعود ما همني جرح لك يطيب
رابع صديق (ج) يسرك في الخبث والطيب
تشتم من ريحته ماء (ي) الورد وتطيب
وقت لك الله علينا بالمصايب جار
أوصيك بالمرجلة وأدي حقوق الجار
حتى على دور آدم صار ظلم وجور
دنياك هذي تقضى بالخبث والطيب
كان سلطان يرفع شكواه من الزمن، عبر موال؛ فيتفاعل معه الموجودون، وكان الأقرب مجلسا منه يعيدون القافية؛ لتأكيد الانتباه
يقول سلطان:
أفراح ياما دهتنا في زمان راح
وبقيت مسرور ما ظني تزول الأفراح
من قبل نبت العوارض فاقد الأفراح
وآزيت محتار في بلاد الغرب هايم
ومحارب القوت عن لب الكرى هايم
إن كان عسرت أمورك للنجف هايم
في الروض نقع احصانك منبت الأفراح
ويرد أحدهم :
صدقت ياسيدي مرت ليال أفراح
مرت ومن عقبهم ما مر زمان أفراح
من بات محزون أبدا ما ضحك بأفراح
مثلك ولا ذي شبه بهيمتك هايم
لم يشرب سلطان يوما ماء من ثلاجة، ولم ينم في غرفة مكيفة، ولم يكن يكترث لما يدور من حوله ، إن لم يكن مقتنعا به، بل ولم يكن ليهتم بتأثير ما يقوم به على الآخرين، فإن قيل له مثلا بأن فلانا تغيب عن المجلس؛ لأنه غضب من أمر ما على ما يبدو؛ قال دون تردد: «من أغضبه؛ يراضيه ، وإن أراد العودة؛ فليعد من نفسه.
رحلة المرض: :
في صباح أحد أيام شهر أكتوبر، من العام 1978م، وفي بيت الدير، استيقظ سلطان دون أن يشعر بيده اليسرى؛ حيث عجز عن لبس ثوبه. لاحظت أم يوسف ذلك؛ فنادت ابنها علياً الموجود في غرفته، قبل ذهابه للدوام، وأخبرته عن حال والده نام سلطان في المستشفى ولم يكن يترك دعابة ،وحسن معشرة ، برغم المصيبة التي هو فيها ، فقد كان طريفا ظريفا مازحا مبتسما على الدوام ومن طرائفه في المستشفى كان مريض بجواره افراد اسرته يأتونه بين الحين والآخر ، وينادونه باسمه ، لعه يسمعهم ، فيفيق من غيبوبته. وفي إحدى المرات، نادى سلطان من خلف ستارته عليهم مازحا ( لقد كان واعيا قبل الزيارة ، وبعد الزيارة سيكون واعيا كذلك وهو فقط يدعي النوم وقت زيارتكم له !!)
وفي صباح الثالث عشر من يناير، من عام 1979م، أسلم سلطان الروح بهدوء الى بارئها.
جرى التشييع سريعا، ووري جثمان الحاج سلطان الثرى، في مقبرة الدير، وتمت مراسم العزاء في مسجد الراهب، أقدم مساجد القرية، حيث كان سلطان يصلي فيه يوميا.
ما زال قبر هذا الرجل العظيم مزارا لأحبابه، يتذكرون عند الوقوف به غريبا عاش في بلاد غير بلاده، لم يؤذ أحدا، ولم يشك منه أحد أكرم الجميع، وساعدهم، وفتح بابه على مصراعيه للناس. لم يعاد، ولم يجادل، ولم يحقد، ولم يكره. جاء غريبا من قريته البعيدة، ولكنه مات محاطا بمن أحبوه، بين أهله، وجيرانه. رحم الله سلطان الحسن الخليف، وأسكنه فسيح جناته!!
جديد الموقع
- 2024-05-18 الشاعران بيلا والحرز في منتجع ماربيا
- 2024-05-18 قاسم العبدالسلام عريسا في الدانة البيضاء بالاحساء
- 2024-05-18 التمار والحسان تحتفل بزواج ابنيها " علي وحيدر "
- 2024-05-18 قطوف دانية من كلام الإمام الرضا (عليه السلام)
- 2024-05-18 مشهد الطروبة "في ذكرى مولد المولى أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام"
- 2024-05-17 (نادي ابن عساكر) يستضيف الباحث (المطلق) في فعالية (الآراء التاريخية الشاذة)
- 2024-05-17 أفراح الجزيري تهانينا
- 2024-05-17 الكتاب الذي ينسيك أنك تقرأ
- 2024-05-17 انقطاع العلاقات بعد التقاعد.
- 2024-05-16 خطط مرحلية لإنجاز مشاريع ( سفلتة مخططات المنح ) بالأحساء