2021/10/21 | 0 | 3981
فلسفة الفعل
أن من يتابع الفلسفات المعاصرة سوف يدرك أن من أهم خصائصها هو "النقد والمراجعة والتفرد والقراءات الحرة لكل بنيتها المعرفية والوجودية والأخلاقية". وقد صاحب ذلك النقد الفاحص ظهور العديد من المصطلحات والأفكار والنظريات. نذكر منها فلسفة اللعب وفلسفة الصمت وفلسفة الكذب وفلسفة العنف وعلم تاريخ الأفكار والفلسفة التطبيقية وفلسفة الجنس وفلسفة الفعل. وتلك الأخيرة هي التي يُعوّل عليها المجددون وصناع المستقبل، لذلك أسعى إلى توضيح ماهيتها ومقاصدها.
فلسفة الفعل هي ذلك النشاط العقلي الإرادي الذي يُحيل الخطابات النظرية إلى مشروعات عملية تطبيقية على أن يكون الفعل الناتج عن ذلك الإجراء يسعى إلى تحقيق أمرين: أولهما إثبات وجود الأنا الحر، وثانيهما أن يؤثر فعله في الآخرين، أي الوجود الإنساني. وفلسفة الفعل لا تبحث عن ماهية الفعل باعتباره قيمة في ذاته، بل تسعى إلى التأكيد على ألا فِصام بين الإرادة الحرة للفاعل والفعل الذي يقوم به "أنا أفعل اذاً أنا موجود"، ومن ثم هو المُعَبر وحده عن ماهية الأنا والمثُبت وجودها في آن واحد. فمُؤول النصوص مثلاً، هو ذلك الفاحص للكلمات والدلالات والمعاني والمفاهيم، والمتخير من بينها ما يعتقد أنه الحقيقة التي يقنع بها ويشعر بأنها تتوائم مع قناعات الأنا والأصلح في الوقت نفسه لتغيير أو تفسير او تبرير ما يدور حوله.
وفلسفة الفعل ترفض تماماً ما نُطلق عليه التعصب والولاء والانتماء والانضواء والنفعية الخاصة، فكل تلك الأشكال تؤثر على أهم خصائص فلسفة الفعل ألا وهي التفرد واستقلال الإرادة، ولا يعني ذلك أنها تُعبر عن الشطح والمجون والجموح والجنوح والاجتراء، فإن مثل هذه الصور إذا لم تصدر عن قناعة واعية فإنها تُصبح مجرد ترديد لخطابات غير نابعة من وجود الأنا الفاعلة. أما بُنية هذه الفلسفة فيمكن أن نصفها بأنها مُركب من عدة أنساق ونزعات، فهي عقلية واقعية استقرائية في قراءتها للموضوع، وهي فينومينولوجيا وجودية في قناعاتها، وهي نيتشوية في تفردها ورغبتها في اثبات الأنا غير عابئة بالسلطات والعراقيل التي تحُد من قوتها أو تعمل على طمس وجودها.
وفلسفة الفعل بناءً على ما تقدم لا تُعبر عن الانفعالات المؤقتة أو المشاعر والأحاسيس الناتجة عنها أو الأفعال غير الإرادية الناتجة عن احتياجات جسدية أو غرائزية، ولا تعبر كذلك عن تلك الأفعال المكتسبة بالعادة أو الموجهة بقوة الأعراف والتقاليد. ففلسفة الفعل هي تلك الثورة التي يقودها العلم والعقل والوعي، وتَحَقُقهِا مرهون بقدرة الأنا على التطبيق بغض النظر عن المقاصد أو المآلات. فقول الحق والعمل على تحقيقه وتطبيقه في السلوك ينجُم عنه عدة أفعال مُصاحبة "الصمت السلبي أو الخرس، مقاومة الباطل ومحاربته وتحمل مسؤوليته".
كما أن فلسفة الفعل تختلف عن الفلسفة العملية البراجماتية التي تنظر للفعل باعتباره مشروعاً للتطبيق ومعيار نجاحه هو قبول الواقع له على نحو يجلب المصلحة أو يَحل مشكلة في مجتمع وثقافة وزمن ما. وذلك لأن فلسفة الفعل هي فلسفة إنسانية في المقام الأول تُحلق في الفضاء بجناحين بغض النظر عن المصالح المادية من جهة ورضا الأغيار عن الأفعال التي تصدر عنها من جهة أخرى. فالإبداع احدى صور فلسفة الفعل بمقدار ما يحمله من جدة وطرافة وابتعاد عن التقليد والمحاكاة والتحرر من كل القيود التي تحول بينه وبين آفاق الخيال والنقد النابع من تفرد الأنا في أحكامها وادراكها لكل ما يُحيط بها.
ولا يعيب فلسفة الفعل أنها وليدة الفلسفات الأخرى ونتاج تفاعل أنساق سابقة على وجودها! ففحول الشعراء والعلماء الأفذاذ والفقهاء المُجددين لا يُعاب على فعلهم الإبداعي أنه قد تغذى على اللغة والأدب وأصول العلم والأراء الفقهية، فالإبداع لا يعني الخلق من عدم. وفلسفة الفعل لا تعني الإتيان بالفعل المفارق الذي يصور على غير مثال، بل أنها تحمل ذلك الفعل المُعبر عن استقلال الأنا باعتبارها ذاتها الواعية والقادرة. وفلسفة الفعل تنظر للتاريخ على أنه حصاد مواقف صُنّاعه وليس مجرد أحداث تخضع للظروف والأحوال والأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومن ثم فهي تعتبر قانون التحدي والاستجابة الذي جعله "أرنولد توينبي" المحرك الأول للحضارات، وكذا المواقف التي يتبناها الأبطال والعلماء والفلاسفة والمجددون، تنضوي أيضاً تحت عباءة فلسفة الفعل.
يرى "ديكارت" أن الفعل الحر هو النابع من خيرية الانسان بإرادة عاقلة واعية على دراية تامة أن الفعل الكامل هو الذي يُحسن صاحبه التعايش مع المفعول، فليس هناك فاعل مطلق سوى الله ودونه يعيشون في جدلية تحوي الأنا الفاعلة والأغيار المفعولين المنفعلين. ويضيف "باشلار": أن ما يميز فلسفة الفعل عن غيرها هو مدى تعبير فعل الفيلسوف عن ابداعاته الحرة التي نجحت في قطع الحب السري الذي يربطها بالماضي من جهة وقدرتها على انتقاء الانسان والأفكار والتصورات التي تتفق مع طموحاتها وأحلامها من جهة أخرى. فلا ابداع بلا أحلام، ولا فعل بمعزل عن الواقع، ولا تأثير في الواقع إلا بجهاد ومثابرة ومقاومة من أجل النصر. فمن يطلب التواجد في المركز عليه أن يحيط علماً بكل الأطراف فما أكثر المتوهمين بأنهم في موقع القيادة، غير أن الحقيقة تنبئ بانهم في درك الهامش وأسفل المحور. ويفرق "باشلار" بين الأمنيات والفعل الإرادي في أكثر الأحلام التي لا تتحقق لضعفٍ في الأنا وعدم قدرتها على تحقيق ما تنشد. فالإرادة الكاملة هي التي تكافح من اجل تحقيق غايتها على أرض الواقع.
ولعل مقولة "حنة آرندت" بأن الولادة الحقيقية لصناع التاريخ لا تتحقق بصراخهم عند الولادة لإثبات أنهم أحياء ويطلبون من العالم من حولهم الاعتراف بذلك الوجود، بل أن ولادتهم الحقيقة في فهم ذواتهم والتمرد على كل ما يتناقض مع مشخصاتها والثورة على كل ما يحول بينها وتحقيق ما تريده من أفعال. ويرى "بول ريكور" أن فلسفة الفعل هي التي تعبر عن القدرة المتمثلة في قوة الإرادة على إثبات الأنا ثم التميُز وهو الذي يجعل النقد سبيلاً للإبداع، ثم الوعي الذي يدرك قصدية الذات من الفعل ومسؤولية تطبيقه ومقاصده ومآلاته اتجاه الأغيار والإخلاص في أداءه والسير وفق عهد ذاتي يوجد بين الفعل ووجود الأنا.
لذا فإن الفعل الفلسفي ثورة لا ينبغي لها أن تهدأ ما دامت هناك رغبة من الفاعل للإبداع.
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد