2021/07/24 | 0 | 2457
الأستاذ نجيب
يتنقل عنقه النائم عليه رأسه المثلث بين الأوراق وبين الآلة الحاسبة وبين جهاز الكومبيوتر، يراجع الحسابات مرارًا وتكرارًا في جد وتمهل وأناة، وقد امتزج الجهد والإعياء واختلطا في كيانه المتهالك... يدقق فواتير المدرسة التي يعمل فيها، وهي مدرسة جديدة البناء، مكونة من طابقين كبيرين أكبر من احتياج تلك الناحية المتواضعة... ملايين الريالات أنفقتها الدولة على بناء تلك المدرسة المشرئبة كجبل راسخ، وعلى تجهيزاتها الباهظة التي كانت أكبر من مستوى طلاب في المرحلة الابتدائية! ولما توافد فيها الطلاب الصغار؛ ضاعوا في متاهاتها الكثيرة والمتداخلة... راحوا يتراكضون هنا وهناك في ردهاتها الكثيرة، ويتصارخون مثل سرب من الحمام يرسل هديله في كل ناحية... ولما شاهد مدير المدرسة تلك المساحات التي أضاعت الطلاب؛ أمر بالاستغناء عن الدور الثاني ليغدو مع كرور الأيام مرتعًا خصبًا للأشباح، والأرواح تلعب وترتع في فصوله التي تراكم عليها الغبار، وغطاها التراب بالكامل.
يرفع نجيب رأسه بذهول ليُصدم بوجه مديره الذي بدأ عقده الخامس بالانطلاق منذ سنوات ليست بالقليلة، يراه مكفهر الوجه، شاحب التقاسيم، مكشرًا عن أسنانه الصفراء! يزدرد نجيب ريقه في اضطراب، وقلق شديدين ثم يطلق ابتسامته الصفراء الباهتة في محاولة يائسة لامتصاص حنق مديره المتفاقم دونما سبب! وقد كان كسيف مصلت فوق رأسه.
جاء صوت نجيب ضعيفًا، واهيًا، يأبى الانطلاق وقد بغث لونه: خمس دقائق وأنتهي من الحسابات.
بيد أن المدير حدجه بنظرة امتعاض، ولوم، ثم جاء صوته يزلزل ذرات نجيب المتداعية، جاء منطلقًا كهزيم رعد قوي: لك أسبوع ولم تنته من عملك!
يزداد الضغط على نجيب الذي لم يتمكن من أن يفلت من مسؤولية الحسابات مذ أمسك بها قبل سبعة أعوام، حيث بدأ الأمر حينما طلب منه المدير السابق تولي الحسابات لفترة مؤقتة ريثما يعود مسؤول الحسابات السابق، والذي كان راقدًا في المستشفى كمومياء زايلتها الحياة، بسبب حادث سير أصابه فأفقده وعيه، لكنه لم يعد للمدرسة مطلقًا إذ فارقت الحياة روحه بعد أيام قليلة، لتلتصق مسؤولية الحسابات في نجيب حتى يوم الناس هذا!
كان نجيب أمينًا ودقيقًا في الحسابات كدقة عقارب الساعة؛ فهو يعيد الجمع والطرح مرارًا وتكرارًا ليتأكد من صحة الأرقام الأمر الذي أسعد المديرين به، فكان متعسرًا عليهما عتقه من تلك المهمة بحيث بقي مسؤولا عن حسابات المدرسة، متحملا نزق المدير الحالي، وعجرفته، ومزاجه المتموج، كان الضغط عليه كبيرًا، وكان في بداية كل عام دراسي يقسم لزملائه المعلمين على أنه لن يقبل مسؤولية الحسابات هذا العام حتى لو انطبقت السماوات على الأرض، لكنه وبمجرد المواجهة مع المدير تنقشع منه كل أيمانه المغلظة، ويزايله الإصرار السابق، فلا يبقى منه سوى الذكرى، وسخرية زملائه المرة، وضحكهم المتهكم...
كان مشغول الذهن في ذلك اليوم بمشكلته القديمة التي تتعلق بهجره والدته؛ إذ لم يصلها منذ عقدين! فكر طويلا في إعادة التواصل معها وتناسي الماضي الذي يكبل فكره، قرر أن يزورها في هذا الأسبوع غير عالم بما ينتظره من تلك الزيارة المزمعة! دعاه المدير إلى مكتبه لشأن الحسابات التي باتت مملة قاطعًا بذلك شروده العصيب، وبعد أن بذل نجيب جهدًا مضنيًا في الليلة البارحة في تدقيق الحسابات، ومراجعتها... رمقه المدير بنظرة باردة، ثم رمى الفواتير على الطاولة المقابلة له، وخاطبه دون أن يرمش له جفن: جميع حساباتك خاطئة... راجعها الليلة مجددًا.
أين كل تلك الساعات التي أنفقها في سبيل إتقان عمله؟! أين سهر الليالي، ومفارقة الأهل والأصحاب؟! لا كلمة شكر ولا جملة عرفان! إجحاف بلا مقدمات! تنكر للجميل! نضوب في الابتسامة! وكأنه موظف حقير يعمل لديه في شركته الخاصة! يزدريه ويزدري عمله المضني! يستخف بعرقه النازل! ويزدري استبداله الأوراق بأهله! يستهين ببصره المكدود في سبيل عمله الإضافي!
حاول نجيب استيضاح الأمر مظهرًا مقدار التعب الذي عاناه وهو يتحقق من أشياء هي في الأساس خارجة عن نطاق وظيفته كمعلم، فقال وقد باغ الدم في أوداجه: لقد بقيت ساهرًا ليلة كاملة في العمل عليها!
ومن طرف عينه ألقى عليه المدير نظرة جامدة، ثم قال بفتور بادٍ: كلها خاطئة، أعد تدقيقها.
مادت به الأرض، وبعد أن استعاد اتزانه؛ حمل الفواتير وإحباط عظيم مليء بالتضخم قد ألم بوجدانه... اكتنفه حنق متصاعد، وأحاطت به نزعة إلى تحطيم الأشياء... يريد إذلالي! يتمنى إهانتي! يريد أن يجعلني عبدًا لوساوسه غير المبررة! لكني سوف أحطم جبروته، وغروره... سوف أمزق وجهه الأبيض الطويل... لن أقبل بمزيد من الإهانات، فلقد اكتفيت من الذل!
كان يضع الفواتير أمام مكتبه حينما بدأ يتذمر أمام المعلمين الذين كتموا ضحكاتهم الساخرة في بواطنهم، سأله إسماعيل بسخرية: وهل ستتمرد بعد كل تلك الديباجة الجزلة؟!
تنهد نجيب، ثم حمل فواتيره وراجعها مرة أخرى في المنزل على كأس حليب ساخن بدد به رجفة أوصاله في تلك الليلة الباردة؛ فوجدها متطابقة مع النتيجة السابقة... أعاد المراجعة مرة أخرى بيد أن النتيجة لم تتغير... تضخم غضبه المكتوم، انتفخت عروقه، احمرت وجنتاه، سخن جبينه... برح الخفاء... الآن فقط تيقنت أنه إنما أراد الكيد بي متعمدًا... حسنا لن أتحمل المزيد من تلك المعاملة التعيسة... حمل أوراقه في صباح اليوم التالي وغادر متجها للمدرسة... دخل مكتب المدير والغضب لم يبارحه، كان المدير متأخرًا كعادته، انتظره نجيب بوجه متجهم حتى جاء المدير وقد انتهى الطابور وبدأت الحصة الأولى... استغرب المدير من وجود نجيب غير المتوقع: هل راجعت الفواتير؟!
قام نجيب من مقعده، واقترب من المدير ثم خاطبه في نبرة صارع من أجل إظهارها هادئة: لقد شعرت بالبرد فتدفأت بها... هلا حولتني للتحقيق رجاء.
وفي المساء كان يستعد لزيارة والدته التي قاطعها سنوات طويلة ولم يهتم بتتبع أخبارها لكن الصدمة كانت كبيرة فبعد أن رغب بإعادة الأواصر المنقطعة أعلمه زوج أمه أنها ماتت منذ مدة، ولم يترفق به حينما أخبره.
غام نجيب عن العالم وحينما استفاق وجد نفسه في مركز الشرطة موثوق اليدين.
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد