2022/04/10 | 0 | 3229
إمكانية تأسيس مدارس فلسفية عربية
ظهرت الوجودية العربية ذات المنحى الهيدغري على يد الفيلسوف عبدالرحمن بدوي في مصر مع مطلع الأربعينات من هذا القرن. وفي الخمسينات راجت وجودية سارتر من خلال دار الآداب في بيروت، خصوصاً عبر الترجمات التي كانت تقوم بها الدار المذكورة لأعمال سارتر الأدبية من خلال ترجمات سهيل إدريس. أما في الستينات أخذت الوجودية تتراجع لمصلحة الماركسية التي ستشهد ازدهارها على ساحة الفكر العربي بعد نكسة حزيران عام ١٩٦٧.
إن الفلسفة هي خطاب للعقل ومناخ للتفكير ووسط للفهم. إنها تفكير نقدي إشكالي يبين لنا دوماً أن الأسس ليست مؤسسة بما فيه الكفاية، وذلك بالكشف عما تخفيه محاولات التأسيس من الأوهام الكثيفة والمعتقدات الغيبية أو الأصول الخرافية. فالتأسيس هو إمكان الحجب والتمويه والخداع، أي هو هذه المقدرة على تحويل الفرع إلى أصل والنسبي إلى مطلق والمشروط إلى ما ورائي والمحايث إلى متعال. من هنا فإن إرادة التأسيس تعيق بذاتها فعل التفلسف بما هو صوغ لإشكالية الفكر والحقيقة، أو بما هو خلق لمفاهيم تمزق الحجب وتبدد الأوهام وتخرق صمت الخطابات.
هكذا ليست الفلسفة مدرسة يقام على تأسيسها على غرار ما تؤسس المدارس والجامعات والجمعيات، وإنما هي تعرية للأسس ونبش للأصول. فأكاديمية أفلاطون ليست هي التي أسست للفلسفة، بل هي ثمرة التفلسف السابق عليها، وأرسطو قد تفلسف بنقده لمؤسس الأكاديمية، وديكارت قد جدد الفلسفة بخروجه على أصحاب العقل المدرسي. وهكذا هي نسبة كل فيلسوف من سلفه أي أنها علاقة نقدية أو إشكالية. ومن هنا تبدو الفلسفة فيما يخص تاريخها عبارة عن نقد متواصل يؤلف مسلسلا من الإشكاليات لا نهاية له.
طبعا هناك فلاسفة كبار قد حداهم الطموح إلى التأسيس والبناء، مثل كانط الذي أراد وضع أسس متينة للماورائيات، على غرار ما هو الحال في الفيزياء أو الرياضيات، أو كهوسرل الذي جعل الفلسفة علماً صارماً ومحكم الأساس. مثل هذه المحاولات قد سقطت وباءت بالفشل، وما بقي عند كانط ليس المذهب الذي حاول تأسيسه ولا العمارة الفكرية التي سعى إلى تشييدها، بل حقل التفكير الذي افتتحه والمنهج الذي اجترحه والاشكالات التي أثارها أو المفاهيم التي ابتكرها. وهذا شأن هوسرل أيضاُ، بل هذا شأن الأعمال الفلسفية الهامة؛ تتهافت فيها المدارس والمذاهب والأنساق ولا تبقى الا المفاهيم والإشكاليات أو المناهج والحقول.
فإذا كانت الفلسفة ليست مدرسة تؤسس، فإنه من باب أولى ألا تتأسس عربياً، فالحمولة العربية على الفكر الفلسفي تشكل عائقاً إيديولوجياً يعيق عن التفكير الفعال؛ إنها ستار يحجب أكثر مما ينير ويكشف. إذ الحمولة العربية هنا تعني أن تغلب إرادة الهوية وإرادة المعرفة، وأن يستحوذ منطق العقيدة على ممارسة التفكير النقدي الحر. ولهذا أرى أن الذين سعوا إلى تأسيس مدرسة فلسفية عربية لم يفعلوا سوى تكثيف الحجُب ومراكمة الأستار على العقول، وذلك بقدر ما تمترسوا وراء هوياتهم وعملوا على تجنيس الأفكار والمعارف. وإلا كيف نفسر فشل المحاولات المتكررة في عالمنا العربي لتأسيس مدارس فكرية أو مذاهب فلسفية؟
لا يولد الفيلسوف أياً كانت هويته الا على نحو عالمي. أي أنه لا يقوم بتجنيس المفاهيم والفلسفات بل يشتغل على الافكار ويقوم بتفكيك المقولات، لكي يقدم صياغته المبتكرة التي يعيد من خلالها ترتيب العلاقة بين الوجود والذات والفكر واللغة، فالفكر إنما هو علاقة بالحقيقة وقراءة لما يحدث. طبعاً كل فيلسوف يكتب بلغته ويتجدر في بيئته وينفرد بتجربته، ولكن ميزة الفيلسوف هي قدرته على تحويل تجاربه ومعايشاته أو معاناته إلى مخلوقات مفهومية تحتل موقعها على خريطة الفكر وتخرق الحدود المنصوبة بين اللغات والعقائد والهويات.
وليس الفيلسوف ناسخاً إذا فهمنا بالنسخ مجرد النقل، أما إذا اعتبرنا النسخ تبدلاً واختلافاً فكل فيلسوف هو ناسخ لغيره. فكل فيلسوف يشتغل على سواه ويحاول الخروج عليه، ولكن منه بالذات، غير أن النص الفلسفي الهام والمبدع لا يمكن نفيه أو إلغاءه، بل هو محتاج إلى قراءة تجدد مفهومنا له وللفهم نفسه. بهذا المعنى يمكن القول بأن الأعمال الفلسفية هي ذرىً مفهومية تتجاوز مكانياً على خارطة الفلسفة، بقدر ما هي نصوص يطوي بعضها على بعض. من جهة أخرى لا أنفي وجود محاولات فلسفية عربية معاصرة تمتاز بالجدة والأصالة واقصد بها تلك الأعمال التي يحاول أصحابها خلق بيئات خصبه للتفكير، أو إبداع ممارسات فكرية جديدة، أو تشكيل عالم مفهومي مختلف تتغير معه علاقتنا بمجمل المفاهيم العامة على الساحة الفلسفية. لذا يجب أن تمارس الفلسفة بالتحرر من أوهام وتبعية المدارس والمذاهب والمؤسسات لخلق فلسفة مبدعة ومتميزة.
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد