2024/09/04 | 0 | 779
أسباب الختم أو الطبع على القلب
مع كتاب المنافقون تأملات قرآنية في الفكر والسلوك، للمؤلف أمجد يوسف الأحمد الطبعة الأولى 1445هـ.
جزء من المقدمة:
نتناول في هذا البحث ( تفسير سورة المنافقون) مع الاستفادة من بقية الآيات القرآنية التي تناولت موضوع النفاق والمنافقين في غيرها من السور وخصوصاً سورة التوبة التي تسمى (الفاضحة) لأنها فضحت أعمال المنافقين ومؤامراتهم ضد رسول الله (ص) والمؤمنين.
أولاً: الكفر والنفاق:
يقول تعالى:{ إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (٦) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (٧) }[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٦-٧]
ويقول تعالى في حق المنافقين:
{ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا یَفۡقَهُونَ }[سُورَةُ المُنَافِقُونَ: ٣]
فقلوب الكفار المعاندين الجاحدين، والمنافقين المكذبين مغلقة عن الهداية ونفاذ نور البصيرة إليها بسبب تماديهم في الكفر والنفاق واستغراقهم في الذنوب والمعاصي، وهذه النتيجة للكفر والنفاق من السنن الإلهية الكونية التي وردت في القرآن الكريم وحذر منها الناس، يقول تعالى:
{ تِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤىِٕهَاۚ وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَمَا كَانُوا۟ لِیُؤۡمِنُوا۟ بِمَا كَذَّبُوا۟ مِن قَبۡلُۚ كَذَ ٰلِكَ یَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ (١٠١) وَمَا وَجَدۡنَا لِأَكۡثَرِهِم مِّنۡ عَهۡدࣲۖ وَإِن وَجَدۡنَاۤ أَكۡثَرَهُمۡ لَفَـٰسِقِینَ (١٠٢) }[سُورَةُ الأَعۡرَافِ: ١٠١-١٠٢]
فالأقوام الماضين الذين أهلكهم الله تعالى وذكر قصصهم في القرآن الكريم لم يهلكهم قبل إتمام الحجة عليهم فقد أرسل إليهم الأنبياء بالبراهين الواضحة فدعوهم إلى عبادة الله وحده، ولكنهم أعرضوا عن رسالة السماء وكذبوا الأنبياء وأصروا على عنادهم مع مشاهدتهم البينات، حتى طبع الله على قلوبهم. ينسب الطبع إلى الله تعالى، لأنه مسبب الأسباب لا أن الطبع يحصل من الله بصورة جبرية قهرية، فالذي يوجد الأسباب ويهيئ المقدمات هو الإنسان بإرادته واختياره.
و في آية أخرى يقول تعالى: { فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَیۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا یُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا }
[سُورَةُ النِّسَاءِ: ١٥٥]
أي كان كفرهم الشديد وماله من آثار قبيحة في أخلاقهم وأعمالهم من نقض المواثيق والعهود وقتل الأنبياء سبباً للطبع على قلوبهم فلا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته.
ثانياً: التكبر:
يقول تعالى:
{ ٱلَّذِینَ یُجَـٰدِلُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَیۡرِ سُلۡطَـٰنٍ أَتَىٰهُمۡۖ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۚ كَذَ ٰلِكَ یَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلۡبِ مُتَكَبِّرࣲ جَبَّارࣲ }[سُورَةُ غَافِرٍ: ٣٥]
القلب الملوث بالكبر والشعور بالاستعلاء على الآخرين وادعاء المعرفة والقوة ليست فيه قابلية للخضوع للحق والتسليم له فحالة الكبر تكون سبباً رئيساً للطبع على القلب وقسوته، ومن أعراض التكبر والتجبر الجدال في آيات الله بلا دليل ولا برهان، بل يستدل بالباطل أحياناً مع علمه ببطلانه لكي ينتصر لذاته ويشبع غروره.
ثالثاً: العدوان:
يقول تعالى:
{ ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَاۤءُوهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَمَا كَانُوا۟ لِیُؤۡمِنُوا۟ بِمَا كَذَّبُوا۟ بِهِۦ مِن قَبۡلُۚ كَذَ ٰلِكَ نَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡمُعۡتَدِینَ } [سُورَةُ يُونُسَ: ٧٤]
الاعتداء على حدود الله تعالى ومخالفة الأحكام الإلهية وتكذيب الأنبياء فيما جاؤوا به من عند الله تعالى والاعتداء على حقوق الناس والاستغراق في الظلم له آثار وخيمة على عاقبة الإنسان، ومنها: الطبع على القلب وانعدام البصيرة فلا يذعنون ولا يسلمون بالحق وإن رأوه وسمعوه.
رابعاً: اتباع الهوى والشهوات:
الهوى ميل النفس إلى الشهوة، ويقال ذلك للنفس المائلة إلى الشهوة،وقيل:سمي بذلك؛ لأنه يَهْوِي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية.
يقول تعالى:
{ أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمࣲ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةࣰ فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [سُورَةُ الجَاثِيَةِ: ٢٣]
يعيش الإنسان صراعاً داخل نفسه بين امتثال ما يأمره به الله تعالى وبين ما تمليه عليه شهواته وغرائزه، فإن أطاع الله وخالف هواه فقد عبد الله وإن عصى واتبع هواه فقد عبد هواه ووقع في الضلال على علم لا على جهل، فهو عنده من العلم ما يمكن أن يصل به إلى الإيمان والالتزام به، ولكنه اتبع الهوى حتى أعمى بصيرته، فصار في متاهات الضياع والانحراف.
عن الإمام علي "عليه السلام" (كم من عقل أسير تحت هوى أمير). وفي دعاء الصباح المروي عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع): (إلهي قلبي محجوب ونفسي معيوب وعقلي مغلوب وهواي غالب).
فإذا غلب الهوى على عقل الإنسان منعه من سماع الحق وصنع الحجب بينه وبين البحث عن الحقيقة، عن رسول الله (ص)أنه قال:(إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أما الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة) يقول أحد المفسرين طاف أبو جهل بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي (ص) فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق. فقال له: مه، وما ذلك على ذلك؟
قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله، وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنه صادق. قال: فما يمنعك من أن تصدقه وتؤمن به؟
قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة! واللات والعزى لن أتبعه أبداً. فنزلت الآية: { ...وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ..}[سُورَةُالجَاثِيَةِ: ٢٣]
ويقول تعالى في حق المنافقين: { وَمِنۡهُم مَّن یَسۡتَمِعُ إِلَیۡكَ حَتَّىٰۤ إِذَا خَرَجُوا۟ مِنۡ عِندِكَ قَالُوا۟ لِلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَٱتَّبَعُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَهُمۡ }[سُورَةُ مُحَمَّدٍ: ١٦]
كان المنافقون يحضرون مجلس رسول الله (ص) ويحضرون المسجد ويستمعون إلى خطاب النبي وإذا خرجوا يسألون أهل العلم والوعي من المؤمنين عما قال النبي (ص) مع أنه لم يكن يتكلم بعبارات مبهمة أو معقدة، ولكن طبع الله على قلوبهم فلا يفقهون ما يسمعون، { .. أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَٱتَّبَعُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَهُمۡ } [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: ١٦]،والجملة الثانية في الآية علة للجملة الأولى فاتباع الهوى علة لطبع القلب، لأن اتباع الهوى يكون حجاباً على قلب الإنسان فلا يدرك الحقائق.
خامساً: الجهل والإعراض عن العلم:
{ كَذَ ٰلِكَ یَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَ } [سُورَةُ الرُّومِ: ٥٩]
العلم أساس للإيمان والاستقامة، والجهل أساس للانحراف والضلال، فالمؤمن يسعى لطلب العلم والتعرف على الحقائق، لكي يلتزم بما يريده الله تعالى، ويتجنب السقوط فيما يغضب الله، أما المنافق يعرض عن العلم ويؤثر الجهل فلا يريد أن يتعرف على أحكام الدين، لئلا ينغص على نفسه الانسياق وراء الدنيا وارتكاب المحرمات، فيطبع على قلبه بسبب جهله وعدم رغبته في التعلم.
سادساً: التقاعس عن الجهاد:
كان رسول الله (ص) إذا دعا المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله يطلب منه المنافقون أن يأذن لهم بالقعود وعدم المشاركة في الجهاد، رغم قدرتهم المالية والبدنية. فلا عذر للمنافقين عند الله على تهربهم عن الجهاد رغم استطاعتهم، ويكفيهم عقاباً أن طبع الله على قلوبهم فلا يهتدون ولا يبصرون الحق والإيمان.
الفرق بين الختم والطبع:
تارة يعبر القرآن الكريم عن إغلاق قلب الكافر أو المنافق عن قبول الهداية بالختم مثلاً: يقول تعالى:{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ } [سُورَةُ البَقَرَةِ: ٧]
وقال تعالى:
{ أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمࣲ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةࣰ فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }[سُورَةُ الجَاثِيَةِ: ٢٣] ،وتارة يعبر القرآن عن إغلاق القلب بالطبع مثلاً: يقول تعالى:
{ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَـٰرِهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ }
[سُورَةُ النَّحۡلِ: ١٠٨]
قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (الروم ٥٩)
وقال تعالى:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطِيعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) (المنافقون٣).
فهل يوجد فرق بين الختم والطبع؟
الجواب: بعض اللغويين لم يفرّقوا بين الختم والطبع، مثل ابن منظور في لسان العرب قال:«الختم على القلب : أي : أن لا يفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء كأنه طبع. وفي التنزيل العزيز: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ .. }[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٧]
هو كقوله: {۞ ...طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ ...} [سُورَةُ التَّوۡبَةِ:٩٣] ، فلا تعقل ولا تعي شيئاً.أما العسكري في كتاب الفروق اللغوية فقد ذكر فرقاً دقيقاً بين الختم والطبع بقوله : «إنّ الطبع أثر يثبت في المطبوع ويلزمه، فهو يفيد من معنى الثبات واللزوم ما لا يفيده الختم، ولهذا قيل : طبع الدرهم طبعاً، وهو الأثر الذي يؤثره فيه فلا يزول عنه، كذلك أيضاً قيل :طبع الإنسان؛ لأنه ثابت غير زائل. وقيل: طبع فلان على هذا الخلق إذا كان لا يزول عنه.
جديد الموقع
- 2024-12-26 نحو معارض للكتاب الخيري
- 2024-12-26 معادلة الانتصار الإلهي والقيم العليا
- 2024-12-26 أحياة هي أم ظروف حياتية؟
- 2024-12-26 د.نانسي أحمد أخصائية الجلدية :العلاج البيولوجي أحدث وأهم الخيارات في معالجة الصدفية
- 2024-12-26 "ريف السعودية" ونادي الشباب يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز المسؤولية المجتمعية
- 2024-12-26 تجهيز عربة عيادة أسنان في الأحساء
- 2024-12-26 4 مليارات لفرص المسؤولية الاجتماعية خلال 21 شهرًا
- 2024-12-26 نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء
- 2024-12-26 ما الكون إلا زمان .. إلاك
- 2024-12-25 قراءة في حياة الشاعر علي الحمراني