2021/07/22 | 0 | 3251
لعنة الطفولة
حينما تصفو السماء فإن ذلك لا يعني أن يومك سيكون جميلا!
رحل أبي في غلس الليل ولم يعد! ودعني بقبلة يتيمة ثم رحل! أسرني نوم عميق، وبعد ساعات حينما بزغت الشمس تشي عن سماء صافية؛ نهضت من فراشي... رأيت أمي منطوية على نفسها، منزوية في ركن من الدار، تتماوج بها الأكدار، وبعض نسوة الحارة يحطن بها كفتيات صغيرات يلعبن متشابكات الأيدي... حالة من الاندهاش اجتاحت كياني الصغير! غابت ابتسامة أمي المعهودة دون سابق إنذار، وحلت مكانها غمامة من حزن مضرج بدموع كمطر ينز من تلك السحابة السوداء!
بحثت عن أبي في كل زاوية من زوايا الدار الكئيبة؛ فلم أجده! وجدت ثوبه الجديد، والذي ارتداه قبل أسبوعين في عيد الفطر... ما زال مرميًّا في غرفته بإهمال!
&&&
في المساء وجدتني أقف في صف قصير يستقبل صفًّا طويلا... صفان بشريان متوازيان، أحدهما قصير، والآخر لم أرَ نهايته! لم أفهم لم الجميع يصافحني مقبلا وجنتي، ومخاطبًا إياي بتلك الكلمات المبهمة:
- أحسن الله لك العزاء.
- البقاء لله.
- أعظم الله لك الأجر.
لم هذا اليوم اختلف عن بقية الأيام؟! لم حرموني من اللعب الأثير إلى نفسي مع أصدقائي نعوم، وصلوح، وحمود...
هذا هو نعوم أراه في منتصف الصف ينتظر دوره كي يسلم عليَّ كما يفعل الجميع... يقف بجوار والده بأدب كبير لا يكشف عن حقيقته الشقية! يبدو أنه فقد اليوم متعة اللعب المحبب كما أجبرت على فقده بدوري! اقترب مني نعوم، ظننته سيستقبلني كما يفعل كل مرة بضحكة صاخبة، لكن تجهمه المفتعل خلف تعجبًا عظيمًا في نفسي، لما جاءني خاطبني كما فعل أبوه قبله بذلك الخطاب الخاوي الذي لا ينم عن حياة، وتوقد، وكأن والده أمره بأن يفعل كما يفعل، ويقول كما يقول! خاطبني بنبرة جافة، كأنه لا يعرفني من قريب أو بعيد، ثم مضى لسبيله!
أردت دعوته للخروج من هذا الجو الخانق كي نلعب معًا بيد أن تغضن أساريره منعني، وألجم لساني!
- مسكين هذا الولد؛ فبعد أبيه لم يبقَ له من معيل غير امرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوة!
- لا إخوة لديه، ولا أعمام، ولا أخوال!
- ليس لديه سوى جد خرف، لا يتذكر شيئًا!
- كان الله في عونه.
عمن يتحدثون؟!
وما شأني به؟! أنا أريد العودة إلى المنزل، وتناول فطيرة التوت التي تعدها أمي... لكني تفاجأت – بعد تعب الوقوف – أن أمي لم تعد لي شيئًا، لا فطيرة، ولا بسبوسة، ولا حلوى! وعوضًا عنها وجدت جارتنا أم نعوم تقدم لي بعض الطعام الذي لا أحبه؛ فقد اعتدت على طعام خاص تطهوه لي أمي لا أحب غيره. لم أتناول من طعام أم نعوم شيئًا، وبت تلك الليلة طاويًا!
&&&
مرت الأيام سريعة رغم كآبتها، وتغيرت أشياء كثيرة لا أعرف سببًا لتغيرها! غابت عني فطيرة التوت! غاب عن المنزل السمك الذي أحبه! غاب اللحم الذي لا أحبه! ندرت الفاكهة التي كانت متوفرة بصورة لا تنقطع عن المنزل! شحت الأجبان، والمعلبات! اكتفينا بتناول الدجاج، والمعكرونة! وبعد ستة أشهر غادرنا منزلنا الكبير إلى آخر لم أعرف أهو منزل أم غرفة؟!
تذمرت من كل شيء... موت أبي، وتركه إياي بلا معيل... عجز أمي عن تأمين حياة رغيدة كالسابق... هذا المنزل الذي لا تكف الصراصير عن اللعب فيه...
طوفان من السخط، والحنق اجتاحني حير منه أمي! نظرة الحيرة ما زلت أتذكرها في عينيها!
كنت طفلا مشاكسًا صعب الإرضاء! حاولت أمي شراء خاطري بمختلف الصور دون جدوى! عملت في خياطة الأقمشة، لكن الناس جفلوا منها؛ فلم تجد من زبائن غير بضع نسوة يقاربنها في فقرها، ورزئها!
حلت علينا لعنة أبدية؛ فأمي لا تعرف غير الخياطة مهنة لها، لا تجيد غيرها... كلا تجيد معها مهنة أخرى وحيدة جيدة المكسب!
لم أترك لها خيارًا آخر! كنت لئيمًا على صغري؛ فألزمتها ما لا طاقة لها عليه! وأجبرتها امتهان المهنة الأخرى!
&&&
عاد السمك، واللحم يملأ "الطناجر"، وعادت الثلاجة عامرة بالفاكهة، والحلوى؛ ذلك أراحني كثيرًا، لكن أمرًا واحدًا لم يرح بالي مطلقًا، وهو غياب أمي المتكرر عن المنزل!
- أين كنتِ؟!
- في العمل.
- أي عمل هذا الذي يأخذكِ مني؟!
- العمل الذي أعطاك السمك، والفاكهة، والحلوى، والألعاب، وكل ما تريده يا حبيبي.
لم يرضني شيء، فإن توفر المال غابت أمي، وإن توفرت أمي غاب المال!
حينما تفتحت عيناي للحياة، وطرقت العشرين؛ هجرت أمي عشرين سنة! عملت معلمًا، ولم أعد للمنزل! كنت أكرهها، وأحتقرها! تركتها وحدها تجابه هذه الحياة القاسية وكلي نقمة ووجد عليها! حاولوا إيصالي بها؛ فلعنتهم جميعًا، ولعنتها! ثم تبرأت منها أمام الملأ! لم تقدم شكوى ضدي، ولم تغضب كما نقلوا لي! أخبرتني أم نعوم أنها ما زالت تحبني كالسابق تمامًا، وأنها تقول: "أخبري نجيبًا أنني سأنتظر عودته حتى أموت"!
أخبرتني أم نعوم عن اعتذار أمي؛ فلم أقبل عذرها، ولم أفكر بقبوله! مضيت في حياتي قدمًا، وجفوتها بطريقة مزرية!
عشرون عامًا من النسيان مرت بسرعة كبيرة! تزوجت فيها، وأنجبت الأبناء، لم يذكرني بأمي غير بوادر العقوق التي بدأت تظهر على سلوك أبنائي؛ لذا أعدت النظر فيما مر من سالف حياتي... فكرت جديًّا في إعادة ما انقطع...
طوقني التفكير طويلا، كنت أوازن الأمور كلها في رأسي... حنانها الذي أغدقته عليَّ طفلا وما زال مذاقه حلوًا في لساني... اتجاهها للرذيلة كي توفر المال من أجلي... عشرون سنة عقوبة حبها الذي قادها للارتماء في أحضان الرجال... سير أبنائي في طريق العقوق... انتظارها إياي، وعدم غضبها مني... كل تلك الأمور دارت في فضاء عقلي المنهك، والمحصلة النهائية كانت قرارًا جريئًا بزيارتها، واختبار أحضانها هل ما تزال تبث دفئًا، وحنوًّا!
عدت إلى الحارة التي لم أرها منذ عشرين سنة... كل شيء فيها تغير عدا أهلها! الطرقات رصفت، الشوارع زينت بالإنارة، المباني الطينية تبدلت إلى مبانٍ مشيدة بالطوب الفاخر، مصبوغة بأزهى الألوان، الساحات الفارغة مُلئت بمختلف السيارات، غابت الألعاب الشعبية، غاب الأولاد من الشوارع، بنيت مدرسة في طرف الحارة على طراز حديث!
قبع منزلنا الغرفة في نهاية زقاق ضيق، لم يكن ذلك المنزل الغرفة بدعًا عن بقية المنازل؛ فشمله ما شملهم من تجديد.
وفي رأس الزقاق استقبلتني أم نعوم مع عائلة صراصير تبحث عن قوتها... لم تعرفني جارتي القديمة لولا أنني عرفتها بنفسي... رحبت بي باقتضاب، ثم غادرت وكأنها تهرب من شيء ما... كانت بوادر الخجل مرتسمة في نبرتها، وفي طريقة مشيتها! ولما نظرت إلى نفسي ولم أجد ذلك الطفل المشاكس؛ أدركت سبب خجلها، وتواريها السريع... طرقت الباب الذي بدا جديدًا، وفتحه رجل ستيني أشيب سيء الهيئة، ومن حوله تحلق ثلاثة أولاد، وثلاث فتيات صغيرات... رمقني العجوز بنظرة ازدراء بلهاء، وكأنها صادرة من رجل أدمن شرب الكحول منذ شبابه، ثم خاطبني وكأن النسيان أعمل فيه معوله الهدام: من أنت؟! إن كنت زبونا قديما فاغرب عن وجهي؛ فأم نجيب هلكت منذ سنة، وطوقت رقبتي بستة أفواه لا أعلم إن كنتُ والدهم!
ولما شاهد وجومي المتمادي، ونظراتي الحادة؛ أضاف بصلافة غامرة حارقًا ما تبقى مني: إن كنت مصرًّا على شهواتك؛ فيمكنك أخذ هذه الفتاة اللعينة مقابل مبلغ محترم.
قال ذلك، وأشار إلى ابنته التي لم تتجاوز الحادية عشرة! أما أنا فلم أدرِ ما حدث بعد ذلك، ولا أتذكر السبب الذي من أجله اعتقلتني الشرطة!
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد