2024/10/31 | 0 | 36
قراءة في ديوان الشاعر محمد الحرز ( مشّاؤون بأنفاس الغزلان) -تمثيل وتشخيص وترجمة سرديّة وأمثولات رمزية وتوغُل في صميم التجريب.
اليمامة د. محمد صالح الشنطي
حينما يتحدّث الشاعر عن الشعر وتجربته مع الكلمة الشاعرة كما وصفها نُقّاد الشعر”أيّا كانت طبيعتها، ترتكز على الشعر من داخل الشعر نفسه، أي ما نجده في القصيدة العربية الحديثة من وصف الشاعر لحالات قصيدته من الداخل، بحيث يصبح الشعر موضوعا من موضوعات الشعر، ويتولّى الشاعر، بلغته الواصفة الخاصة، الكلام عن الشعر وما يتعلّق بمفهوماته، وحدوده، ولغته، ورؤيته للعالم، ومصادر إلهامه، ومجموع علاقاته بالذات والآخر، التراث والحداثة، الوطن والمنفى، الحقيقة والمجاز” يدخل فيما عرف (بالميتا شعري) وهذا مؤشر يوميءإلى الذائقة الفنّية والملكة النقديّة ، ونحن أمام شاعر ناقد يهندس القصيدة وفق وعيٍ جماليٍّ يقظ ، وهذا مانلحظه بوضوح في قصيدته “ أول الكلمة وآخرها” في ملمح إدراكيٍّ يعتد بالاستعارة في مفهومها الكلّي وسياقها الدلالي فينقلها من إطارها البلاغي التقليدي إلى السرد التصويريّ الذي يتمثّلُها في مشهدٍ موازٍ على خلفيّة وجوديّةٍ عينيّةٍ ، فنحن أمام حواريّة مفترضة يتم التعامل معها في خلفيّة المشهد بين الكلمة وصاحبها ، إنها جدليّة فاعلة واعية في شريط مصوّر يخرج بها من الإطار النثري المعتاد إلى ساحة جديدة يبتكرها الشاعر وفق مدركاته العميقة فيجرها إلى ساحة جديدة يحاورها بمختلف الطرق ، يستضيفها ويُعمِل فيها أدواته بفعاليّة ذهنيّة يبدع من خلالها ، سرديّة ترميزيّة موازية في ترجمة تمثيليّة تشخّص وتصوّر؛ فالكلمة التي يريد لها أن تنزف ماضيها يحرص الجيل المحافظ على بقائه ؛ إنه باختصار يريد أن يتخلص من التكلّس و الجمود فيواجه من يصدّه عن ذلك؛ إنه لايصف حهده التحديثي هذا وصفاً مباشراً بل يعمد إلى تصويره شعريّا عبر الترميز و التمثيل :
كلما أحدثت ثقبا برأس الكلمة
كي أدع ماضيها ينزف
يضع أبي يده على الثقب و يقول :
الدم ذخيرتك فلا تدعه يلامس الهواء
مشاهد متوالية يمكن ترجمتها إلى معانٍ تومئء إلى الصراع بين رغبة الشاعر في تجديد منهجه الشعري وبين جمود التقليد ، حيث تجفُّ الكلمة وتتيبّس وتبدو عارية من جمالياتها التي يجهد الشاعر في استكشافها وتغيير مساراتها.
التشخيص و التمثيل يتمّان في حضور الوعي بكامل يقظته ، تتحشرج محاولات الخلاص في حنجرة الشعر ولكنها تنعتق من سجنها القديم فإذا انفلتت من عقاله تستعصي على الرجوع إليه ؛ فالشاعر يدرك صعوبة التحرّر من أغلال القديم ، ولكنه يواصل تمرده ويعالج التحدّي بعناد ، فشعريّته الجديدة تخوض حربها مع القيود كلّها بتصميم عبر اجتراح نهجها الخاص في السرد التصويريّ الذي يحسد شراسة المعركة مع التخلّف ؛ فيستبدل بالوزن تحليقه البعيد في بأجنحة اللغة وإعادة تدوير القصيدة لتلبس ثوباً جديداً من التسريد والترميز .
ينتقل عبر جمله الشعرية وبنيته المقطعيّة من محطة إلى أخرى في جولات ممتدّة ؛| فبعد أن يصف موقفه في مواجهة التحدّي يبسط رؤاه للقصيدة ومصاحبته للكلمة وعلاقته الحميمة بها ؛ فيشير إلى قربها منه والتحامها مع هواجسه ؛ فثمة مواثيق ثلاثة : اقترانه بها في منامه، تسللها إلى أحلامه ، ونومها في مجازاته ؛ إنها همّه المصاحب وقرينه المرافق ، تلاحقه وتشاركه وتوسوس له ، وفي مقطع لاحق يتصاعد الصراع ويحتدم فيستحضر امريء القيس ويشتعل أوار المعركة في صراع دموي مع القديم، وتبدو الكلمة مغشوقة الشاعر مُمَثّلة في لغة الشعر.
شاعرنا مولع بالسّرد حفيّ به ، ذو علاقة حميمة بالبوح ، يحاول استبعاد غنائية الصوت وذاتية المشاعر ليحل محلها الوعي بتمامه ؛ ولكن ملكة الشعر تغالبه فتغلبه، إن بطله المختار هو الشعر يحاوره ويداوره ويرصد خواطره و هواجسه ، فالشعر يخاتله وهو غافل عنه ، يكاد يتجاهله لولا أن ثمّة من ينبّهه إلى شاعريّته التي كادت أن تسقط من حسابه فيلتقطها على عجل ؛ هذا الكائن الذي يصوّره ؛ ويعلن عن أنه جاء إليه من الجانب الآخر، وتَلبّسَه لما تفتّحت أمامه نوافذ العالم ؛ وهو – هنا – يكشف عن رؤاه التي من خلالها يبصر مالا يُرى من تضاريس الكون وعجائب الوجود. إنه الرئة التي يتنفّس من خلالها نقاء الهواء ، يرافقه في حلّه وترحاله ويتابعه حذو القُذّة بالقُذّة في نداوة الرِّفقة و شدّة الموافقة ؛ إن الإطلالة على العالم من خلاله لون من الإدراك الذي يؤطّرهذه الرؤية فالمصاحبة في الطريق إلى المنزل تستدعي كل لوازم المعايشة و المصاحبة ، ومتابعة كل نأمة أوحركة تجعله يسري في العروق مسرى الدم ، وهذا التمثيل التصوّري الذي يستحضر فيه الشاعر المُلازمة و المُلاحقة توميء إلى تعزيز ما ذهبت إليه من معالجة الشعر لإبداعه عبر الميتا شعري ، ومن خلال الملامح الدقيقة و التفاصيل المرصودة يعبر عن فلسفته إزاء الشعر ؛ فضلا ًعن حميميّته والتصاقه بكل خطواته وانكشاف الرؤى من خلاله ، إنه يخوض في تفاصيل حياته اليومية فيستقرئها ويتلمّسها ويتمثّلها.
في قصيدته ذات المقاطع الثمانية ينخرط الشاعر في سرد حكايتة مع الشعر من أولها وحتى الختام (ينحت صخرة أرواحهم) فيوغل في تتبّع مواقفه ورصد أطواره ولحظات معاناته معه ، إنه يبحر مع مخياله ليكشف عن جوهر التّجربة الإبداعية في مدركاته عبر لغة الجسد وبلاغة الاختفاء، و الحضور والتحليق في طبقات الوعي و اللاوعي ، في مسالكه السّرّية و العلنيّة ، يطلعنا على بوحه بأسراره وخطراته وهمساته وسكونه ؛ هذه الحركة التي تسجل جولات الشعر وصوره ومراوغاته تأخذك في رحلة تستغرق مداركك الحسية و المعنوية، و تنطلق من (جسدنةٍ ) مرئيّةٍ و مسموعة ؛ الأمر الذي ينسيك إيقاع الشعر وموسيقاه لتوغل في ملاحقته لاهثاً وراءه مُستكشفاً لخباياه : إنه يستثمر البصر و السمع والحركة واللسان مرئيّاً ومسموعاً ومختبئاً وظاهراً، هذا هو الإيقاع الذي يتناغم مع حركة الوعي الدؤوب تصنع شعريّة القصيدة وتجتذبك لتمضي خلفها ، إنها لا تتركك وحدك بلا دليل ؛ بل تمضي بك يدا بيد في مغامرتها المحسوبة وإدراكها الواعي :
أنظر إلى عينيه الواسعتين
فيما هو يتحدث بصوت مرتفغ
عبر موبايليه مع صديقه الشاعر، فأقول متعجبا
لماذا لا أسمع صوته إلا همهمة
وكلما أحدق أكثر يختفي الصوت إلا همهمة
إنه يصحبه حتى إلى قبور الأجداد فينال قَبَسا من بريق ترابها ، إنها رؤيته للشعر تبدو جليةً واضحةً ، يحيط بكل شيء خبراً .
أما الوقت فله قصة أخرى وفلسفة ومرآة و مشجب في حركة دؤوب وسكون متحفِّز ، يروي حكاينه معه ، فهو التابع والمتبوع والحاجب و المحجوب والفاصل و المصول والعاثر و المُتعثِّر ، دراما متسارعة ؛ فثمة ما ليس معلوم تلفُه الظلمات، وآخر يغادروعائه فيسابق الزمن ؛ ثمة سقوط غير محسوس وتعثر بأدواء العالم (الجثث المتقيحة) كل شيء تفقد الحواسُّ الشعور به ؛ عُقم ظاهر و عبث لا طائل تحته ، كل شيء يفقد كينونته ، عدم الجدوى يلفُّ العالم (الخطوات محلات تجارية تبيع قبعات التخفي) عبثية صادمة ؛ فالوقت متن الرحلة وزادُها ؛كل شيء فيه أصبج هامشاً بلاقيمة ، منزوع الإطار فاقد المعنى ؛ بلا شكل و لا خلفية على حد توصيف الإدراكيين ؛ فكل شيء هُلامي لم تتبلوَر له صورة ، فهو بلا إطار .إنها اللاجدوى لهاث، قبضُ الريح و باطلُ الأباطيل . سلسلة من المشاهد متحرّكة في لقطات متباينة تجمع بين مرجعيّات شتّى ، كونيّة إنسانيّة، أسريّة بيتيّة، تتعالق فيما بينها تطاردها الدلالة لتتلبّسها فتولّي هاربة، وتتركك محدّقاً في فضاء تبحث عن أُفُقٍ مرئيٍّ فيتوه بصرك ؛ولكن بصيرتك عندئذٍ (حديد) إنها شاعريّة القصيدة حين تشقّ طريقها إلى فضاء بلا تخوم.
وللذات تجربتُها وفلسفتُها وأمثلتُها ومشاهدُها، الإبرة و القاع ورحلة الغوص فيما وراء الوعي في قصيدته (الإبرة و القاع) المنحى ذاتُه في البناء ، والحرية ذاتُها في زوايا التمثيل و التصوير ، والغوص عينُه فيما هو خافٍ و مرئيٍ.
ثم فلسفة الموت وحوارية الأحياء والغوص بعيدا في معنى الفناء ، مرثية فلسفية تستحضر بعضاً من تقاليد الرّثاء في الشعر العربي القديم ؛ ولكن على نحو مختلف يتقاطع مع فلسفة المعري وثلاثيّة هذا الغرض الشعري بمعناه التقليديّ: التفجع و التأبين و الحكمة ؛ إنها رحلة في عمق الفقد وتدبّر في معنى الحياة و الفناء غلى لسان الأب والأم والزوجة و الإبن .
للموت إيقاع خاص و فضاء متّسع في الديوان ،لا يحيط بفقد الأب أو القريب أو الصديق ؛ بل يشمل الكلّ فيتحول إلى نَسَغٍ يسري في بنية القصيدة ، لافت رثاؤه للشاعر علي الدميني في قصيدته (شاعر يموت إلّا من دهشته) إنها القصيدة التي استدعت تاريخاً من العطاء في مسيرة موازية لواقعٍ مُتحوّل ، إنه يواكبه ويتتبّأ به ويستشرف الآتي بعده ،وهو يعلم أنه سينتقل إلى حيث يرقد في سلام ؛ فمن (بياض الأزمنة) ديوانه الذي يتأوّل فيه الشاعر معنى البياض إلى رياح المواقع التي تعصف في شتى الاتجاهات في ديوانه الموسوم ب (رياح المواقع) إنه يرقب خفقات قلمه في موازاة وجيب واقعه ، يرتدُّ إليه الطرفُ وهو بصير ، يقرأ شعره محلّلاً ناقداً في شعريّة يقِظة يلتقطها ناقد يستشيم بروق الكلمات ؛ موازاة الشعر بالشعر ، في قراءة واعية تستطلع وتتنبّأ وتروي و تحلّل في مناجاة رقيقة وخطاب حميم وخطوات محسوبة تنظمها فواصل مرئية ، يستحضرُه يحاورُه و يخبرُه وينقل إليه خطرات الفكر ونبض المشاعر ، تقنية حُرّة ، لا يضبطها سوى تيارُ الشعور ومدارجُ الوعي و اللغة الطازجة التي لم تتجمد بشرائط التقليد وأحزمة الإقلاع ، إنه الشعر المنضبط بأحكامه الخاصّة خارج الأُطُر المعهودة ، يغرف من قِدر السيرة في سخونته وأبخرته التي تتصاعد من لهيب الموقد وحرارة النار .
الالتفات في ثنايا السرد والانتقال منه إلى الخطاب والعزف على وتر الانتظار قرين الوقت وخدين الرؤية الاعتقادية تشبيها وتمثيلا حيث نموذج الترقّب وأفق التوقع (عودة المهدي) وما يحيط بها من ظلال تدشن فلسفته في رؤيا تمتد إلى نهايات غير منظورة في قصيدته الانتظار، إنها معضلة الوقت وإشكاليته و سلطانه .
خطاب الذات الشاعرة في انشطارها ومكاشفتها و الحفر في نخاع ماضيها واستشراف حاضرها ، مطارحة و مصارحة استذكار و استشراف ومعاتبة ومحاسبة وشوشة هامسة وعتاب واستعتاب ، استرجاع في السرد واستطلاع في الوصف و عمق في التأمل.
وماذا بعد ، لم يعد في الوقت من متسع ولا في المساحة من مجال.
جديد الموقع
- 2024-10-31 العمل الفردي ومعضلة الاستمرارية.
- 2024-10-31 دع الكتب تمضي
- 2024-10-31 يعيشون بيننا - الأستاذ المرحوم أحمد الحبابي
- 2024-10-31 تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد
- 2024-10-31 جمعية أدباء بالاحساء تعقد جلسة أنسها الأدبية الثامنة
- 2024-10-31 الروضة بالاحساء ينظم برنامج كبارنا معلمو الحياة
- 2024-10-31 متلازمة القلب المنكسر؟ - ومسائل انفعالية أخرى
- 2024-10-30 الكتاب المسموع منافس أم مكمل؟
- 2024-10-30 مفارقة اللذة
- 2024-10-30 عشر سمات لذوي الذكاء العاطفي العالي